مراحل سر التوبة

 
مقدمة
إن سر التوبة أو المصالحة هو سر الحياة الجديدة أولاً لا سر الاعتراف بالخطايا، هو سر حياة الله التي تسري في حياة الخاطئ المهتدى من جديد. وليس ذلك يحادث رتيب روتيني يتواتر في حياته إنما هو بتمام معنى الكلمة حدث (evenement) في حياته مثلما موت وقيامة المسيح حدث في حياته ومصيره. حسب قول بولس الرسول (2قو5/17) "إن كان أحد في المسيح فإنه خلق جديد، قد زال كل شي قديم وهاهو ذا كل شي جديد". فلكي يحدث ذلك ويثمر ثمار الحياة الجديدة المجددة فعلى الخاطئ أن يقر بخطاياه أمام الكاهن لنيل الحلة وأن لا يفصل عن الإصغاء إلى كلام الله أي فحص الضمير وعن الندامة الحقيقية والصلاة المشتركة وعن حضور الكنيسة..
1- فحص الضمير
قبل فحص الضمير علي أن أتشبع بحضور الله وبمحبته التي تغمرني في كل لحظة من لحظات حياتي وفي كل فعل من أفعالي وفكر من أفكاري وشعور من مشاعري، فيمكنني أن أستعين بالكتاب المقدس (قراءة – نصوص – مزامير ….) ليضعني في جو رحمة الله وخلاصه لأن فحص الضمير هو قراءة لحياتنا على نور المسيح الذي يدعونا إلى التجدد، وهو يكلمنا من خلال صوت الضمير الذي يخاطب به كل إنسان في عمق ذاته ويكلمنا من خلال لقاءاتنا مع أخوتنا، من خلال أحداث العالم والتاريخ. ومن الخطأ اعتبار فحص الضمير محاكمة فلا أنا أدين نفسي ولا الله يدينني، إنما الله ينير حياتي ونور محبته يدفئني ونار خلاصه تطهرني وتجددني.
بعد ذلك أستدعي الروح القدس الذي يساعدني على قراءة حياتي فينير عقلي ويؤجج قلبي ويقوي ذاكرتي. وهكذا يتحول فحص الضمير إلى صلاة وسجود وشكر وحمد. وعلى مثال مريم العذراء التي اعترفت في نشيدها بأعمال الله العجيبة في حياتها "تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي… وسوف تطوبني جميع الأجيال" (لوقا 1-46/48)
ثم أبدأ بفحص ضميري.. أفضل طريقة هي التي تركز على وصية الله السابعة (لا تسرق) مع الأخذ بعين الاعتبار وضع المعترف الاجتماعي والديني بأن يسأل (كيف سرقت إلهي ونفسي وقريبي؟) وهل أحبه حقيقة؟ وهل له مكانة في حياتي وتصرفاتي ومشاعري؟ هل أصلي؟ هل أتأمل كلماته وأمارس أسراره المقدسة؟ هل ابحث عنه في أخوتي البشر خاصة الفقراء والبؤساء منهم؟ وهل أحبهم كما يحبهم الله وأكلمهم بفمه؟ هل أسامحهم وأحترمهم كأشخاص؟ أم أنا مهتم بنفسي ومشاكلي. وما هو تصرفي بجسدي وعقلي وقلبي وإرادتي؟ والمواهب التي وهبني الله. دراستي وعملي ومسؤولياتي؟.
وبعد فحص الضمير أردد بعض الصلوات التالية:
– أيها الأب قد خطئت إلى السماء وإليك وأنا لست أهلاً بأن ادعى لك ابنا.
– اللهم ارحمني أنا الخاطئ.
– أيها المسيح، يا ابن الله ومخلص العالم ارحمني.
2- الندامة:
لا معنى أبداً لسر التوبة ما لم ترافقه الندامة أي التوبة الباطنية والقصد الصادق في اتخاذ الوسائل اللازمة لمحاربة الخطيئة.
والندامة لا تخشى النزول حتى عمق الخطيئة، حتى عمق الكيان. ففي الشعور الصادق بالذنب أمسك خطيئتي بيدي وأنظر إليها وجهاً لوجه، واعترف بها، واقبلها. وأتحمل نتائجها، وفي الوقت نفسه أنكرها فكرامة الإنسان الكبرى وعظمته تقومان على تحمله مسؤولية عمله. فالندامة إذاً هي قرار عميق يتخذه التائب في عمق كيانه بالعودة إلى كنف الثالوث الأقدس للانطلاق في مرحلة جديدة من حياته ويوجه فيها كل طاقاته إلى محبة الله والقريب.
تنطوي الندامة على تغيير في العقلية وتبدل في التفكير، إنها انقلاب على الذات، عزوف عن الخطيئة وعودة إلى الله أنها موت للحياة حسب قول بولس:"نحن الاحياء. نسلم دائماً إلى الموت من أجل المسيح، لتظهر حياة المسيح أيضاً في جسدنا المائت." (2قو4/11).
والندامة هي التي قادت بطرس إلى دموع التوبة. أما التحسر فقاد يهوذا إلى حبل الشنق.
ولا مجال للمصالحة بدون الندامة أي التأسف على إهانة الله والقريب والعزم على عدم الرجوع إلى الخطيئة والعودة إلى الله.
وتكون الندامة مطلقة وشاملة عندما نعطي الله الأولوية ولا نُفضل عليه شيئاً واحداً وأن نرذل جميع خطايانا المميتة دون استثناء لأنها تمس الله في صداقته مساً خطيراً ونرذل جميع الخطايا العرضية لأنها تنال من صداقة الله أيضاً.
والندامة نوعان:
1-     كاملة: إن الندامة كاملة إن هي انطلقت من محبة صادقة لله ومن الشعور بأننا أهنا كائناً كنا قد اخترنا أن نحبه فوق لك شيء.
2-     غير كاملة: تكون الندامة غير كاملة إن هي انطلقت من دافع إيماني غير المحبة كالعدل الإلهي مثلاً.
وتقتضي الندامة أن يكون عند التائب نية التغير والتجدد والأمانة للرب واتخاذ الوسائل الواقعية والممكنة لمنع التكرار فإن المسيح يشدد دائماً على ذلك. "اذهبي. ولا تعودي إلى الخطيئة من بعد." (يو8/11).
وإن صدمنا بقلة النتائج الظاهرة في صراعنا ضد الخطيئة فهذا لا يعني عدم صدق الندامة. فالإنسان ضعيف ونعمة الله ليست عصا سحرية، نعمته خمير يفعل فعله وإن لم يكن بالسرعة التي نتمناها إنما هي تجعلنا ننهض من كبوتنا ونجدد العزم على المضي قدماً.
3- الاعتراف:
يقول لاكروا في الاعتراف: "إن رفض الاعتراف بالذنب هو رفض الذات والشعور الصادق بالذنب هو ثمرة للنقد الذاتي أي الاعتراف بوجود نقص وعدم اكتمال، وإدراك للمجهود الذي به يمكننا متابعة اكتمالنا وتحقيقه".
كثيراً ما كان كبار القديسين يلجأون إلى سر التوبة مثل: فرنسيس، منصور دي بول، تريزيا الطفل يسوع، شربل مخلوف… ذلك أن المرء كلما تقدم في القداسة، اكتشف ضعفه وازداد شعوره بأدنى الهفوات.
ومنهم ما كان يعترف يومياً مثل مار منصور ذلك أن الزجاج كلما ازداد نقاوة وصفاء ازداد تأثراً بأدنى الغبار.                                               
أما الإنسان البعيد عن القداسة فيعترف كلما شعر بالحاجة إلى التوبة الصادقة. كالتكفير عن سقطة جسيمة، تقويم عادة سيئة خطرة اقبال على حياة جديدة (زواج_نذور….) الاحتفال بالأعياد الكبرى كالميلاد والفصح والعنصرة.. أو بمناسبة رياضة روحية أو خلوة شخصية أو نهضة كنسية.
كل ذلك شرط أن لا يصبح الاعتراف عادة رتيبة، فالاعتراف هو الاعتراف برحمة الله ومحبته الغافرة، قد نظر إلي أنا الخاطئ فأشيد له واعترف برحمته ومحبته وأن المسيح قد أدركني بمحبته ، فأسعى أن أدركه بمحبتي.
فالاعتراف مصالحة، والمصالحة حدث يحتفى به، كما كان من أمر المجدلية وزكا العشار والابن الشاطر.. وكما في القرون المسيحية الأولى في رتبة العماد.
قد يقول البعض لماذا أعترف بخطاياي وأنا عالم بأني سوف أعود إلى الخطيئة في المستقبل؟
الجواب: هو أنه ينطلق من نظرة خاطئة إلى سر التوبة , تعتبر هذا السر مجرد ً غسل من الخطايا ً فهذا لا يعفيني من أن أكون نظيفاً الآن، ورفض الغسل يزيدني تلوثاً، فالتوبة ليست مجرد غسل من الخطايا بل هي عودة الى محبة الله التي ابتعدت عنها. إنها إعلان لمحبة الله التي ترافقني في كل أعمالي الصالحة والشريرة في الماضي والحاضر والمستقبل ، ولأمتلئ من محبة المسيح، التي تدفعني إلى الأمام لتكون حياتي في المستقبل جواب محبة على محبة الله الدائمة.
إن رفض الاعتراف بالذنب هو رفض السمو والنمو، فحين يصل الاعتراف بالذنب الى عمق الذات، فانه يسبب قفزة وارتفاعاً ، كالكرة التي تسقط على الأرض وتصطدم بها ، ثم تقفز إلى الأعلى. وكثيراً ما يعجز الإنسان عن القفز لأنه لا يريد أن يلمس أرضية كيانه ولأنه يرفض أن يسقط الى عمق ذاته ، ففي هذه الحالة ليس هناك إعادة نظر ولا تجدد ولا سمو. فبالصلاة التي يكون موضوعها الاعتراف بمحبة الله والاشادة بالمغفرة التي يسكبها علينا على الدوام برحمته الغافرة ، نستقي القوة لمتابعة طريقنا في الحياة مع المسيح.
4- الحل من الخطايا:
إن الكاهن يمثل الكنيسة التي تمثل الله والبشر، فالكاهن خادم سر التوبة، يمثل الله والبشر معاً، فالذي يغفر الخطايا ليس الكاهن ولا الكنيسة بل الله نفسه، والكاهن ليس سوى شاهد لحضور المسيح. والتائب لا يقرّ بخطاياه أمام إنسان بل أمام المسيح وأمام الله.
ان الكنيسة تندد بالخطيئة التي هي منافية لحياة الله فلا مساومة بينها وبين الخطيئة، ولا تواطؤ بينها وبين الشرير، شأنها شأن عريسها: "من كان من الله سمع كلام الله ، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله بل أولاد ابيكم ابليس".ً ( يو 8 / 47-44 ). فالكنيسة على غرار سيدها تربط الخطيئة صراحة وجهرا كما أنها يمكن أت تحرم الخاطئ من حياة الشركة كالتناول (متى 18- 17) ولكنها في نفس الوقت تخضع نفسها وحكمها لسيدها.
يمتد دور الكنيسة إلى أن تحل ما ربطته مانحة التائب غفران الله، وتحرره وتدخله في شعب الله، لأن الله جامع البشرية في جسده، أي الكنيسة.
هكذا تصرف المسيح في حياته العلنية، إذ غفر الخطايا للمقعد عندما لاحظ إيمان الجموع، ومع السامرية التي دعت أهل بلدتها للمشاركة بيسوع في حياتها الجديدة ، فتصالح الجميع مع يسوع. ومثل اللاوي وزكا والمرأة الخاطئة والزانية ولص اليمين صفح عنهم يسوع أمام الجميع كما صفح عن بطرس أمام التلاميذ ، ومثل الابن الشاطر عندما أدخل الاب ابنه المهتدي الى بيته وأهله، خلافا للابن البكر الذي رفض الدخول.
فمثلما تصرف يسوع تتصرف الكنيسة، فلا تحل الخاطئ حلاً فردياً بل جماعياً تدخله في جماعة المؤمنين وتحضنه من جديد.فلا بد من المبادرة الاولى من قبلنا، مبادرة الاقرار والانهيار لكي تتم المصالحة ويغمرنا الرب بعطاياه.
    روى أحدهم أن شحاذاً انتظر يوماً مرور الأمير في المنطقة، وهو يقول في نفسه: "هذه فرصة العمر"..
أطل الموكب الملكي. وقف الشحاذ على حافة الطريق ومدّ يده. وإذا بالأمير يوقف عربته، ينزل منها، يمد يده هو نحو الشحاذ مستعطياً!.. ذُهل الشحاذ! لكنه أخرج من جيبه حبة قمح واحدة، ووضعها في يد الامير… وفي المساء أفرغ الشحاذ جيوبه، فوجد بين حبوب القمح العديدة حبة واحدة من ذهب. فلطم جبينه وقال :" ليتني أعطيته كل ما معي ". هكذا هو الله انه يتخذ منا في سر التوبة موقف الشحاذ "أعطني خطاياك". وهو يريد أن يغدق علينا ذهب السماء كله أي ملئ الحياة حياته هو، لكنه لن يستطيع شيئا، احتراماً لنا ، ما لم تصدر منا مبادرة الإقرار.
5- مفاعيل سر التوبة :
ان سر التوبة لا ينتهي بالحلة التي ينالها التائب من الله والمسيح بواسطة الكاهن، بل يمنح التائب السلام والوحدة مع الله ومع نفسه والآخرين ومع الكنيسة والعالم:
1- مع الله: إن الله لا يكتفي بأن يمنح غفرانه، بل ويمنح ذاته وحبه، بحيث يأتي الى الخاطئ، آباً وابناً وروحاً قدساً، يجعلون عنده مقرهم. ( يو 14 / 23 ).
فالتائب يفتح باب قلبه للإله الواقف وهو يقرعه طالباً السماح بالدخول ( رؤيا 3\\20 ). وإذا فعل يصبح المسيحي المملوء خلقاً جديداً على مثال المسيح: ابناً في الابن: "اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد" (1كو 12/13). "إن الذي مسحنا هو الله، وهو الذي ختمنا وجعل عربون الروح في قلوبنا" (2كو1/21- 22 ). "فصرنا شركاء في الطبيعة" ( 2 بطرس 1/4 ).
2- مع الذات: من جراء العودة إلى الذات الأصيلة المرتبطة بالله ارتباطاً كلياً ، ذلك الإله الذي يسكن الانسان ويجدده ، يبلغ الانسان اكتماله وغاية وجوده ، ويستعيد توازنه الأصلي ، وهذا لا يعني أنه يصبح معصوماً عن الخطأ، لكنه سوف يتقدم في التواضع والمحبة.
3- مع الآخرين: الاتحاد بالله لا يكون صحيحاً إن لم ينفتح الإنسان على كل إنسان، فالمحبة الحقيقية لا تعرف الحدود، والاتحاد بالله يكون وهماً إن هو انغلق على الذات الإلهية أو الذات الشخصية، ولم ينفتح على الذات الأخوية.
4- مع الكنيسة: لأن الله يسكن في الكنيسة، كما في هيكله، ولأن جميع الأخوة أعضاء الجسم الكنسي: "نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح، وكل منا عضو للآخرين" ( رومية 12/5 ).
5- مع العالم: بحيث يعود التائب فيدخل "دينامية" قيامة المسيح الذي لا يزال يعمل في تاريخ العالم، فيلتزم في بيئته رسالة الملكوت. "اذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما اوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام الى انقضاء الدهر" (متى 28/19-20).
ويندد بالشر ويكافح جميع أنواع الظلم.
 إن هذا التجدد لا يتوقف عند هذا الحد من السلام والوحدة مع الله والذات والقريب والكنيسة والعالم. إنما هناك اهتداء من الوثنية إلى الإيمان ومن الإيمان إلى الاندفاع الكلي في طريق الكمال. كما يقول اكليمنضوس الأسكندري.
خاتمة: البعد اللاهوتي لسر التوبة
كل شيء ينبع من الله الخلق والعهد كمبادرة من الحب الإلهي، أي أن الله هو المبادر الأول للمحبة، وأعظم ما أوحى به إلينا يسوع المسيح أن "الله محبة"، فهو في حد ذاته محبة، لذلك هو ثالوث أي تبادل حب بين الآب والابن والروح بينهما وعطاء متبادل فيما بينهم. ومن أروع ما فاض من الله هذا الكائن البشري الذي هو على صورته كمثاله والذي أقام عهداً معه وبلغ هذا العهد ذروته عندما: "جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" ( يو 3/16-17 ).
عندما يقترف الانسان الخطيئة، فلم يقترفها في ذاتها، إنما في محبة الله، التي يرفضها الإنسان. فالخطيئة هي الوجه السلبي لمحبة الله.. لم يخلقها الله، لذلك لا وجود لها أنطولوجياً (كيانياً). هي إذاً نقص في حد ذاتها، كما أنّها نقص في الإنسان لا نقص من شيء ، إنما نقص مطلق ، إذ هي نقص من الإنسان تجاه الله وبالتالي تجاه البشر. وهي أخيراً نقص، لأن الله يخلص منها، فيزيلها، فتعود الى اللاكيان، اللاشيء ، اللاوجود. فلا تستقي الخطيئة معناها إلا عندما يحرر الله الإنسان منها أي عندما تزول.
هكذا استطاع اغوسطينوس أن يصرخ فيها: "طوباكِ، أيتها الخطيئة، لأنكِ استحققتِ لنا مخلصاً مثل هذا".
فهي تُظهر محبة الله في التجسد والفداء، ولكن في ذلك تحكم على نفسها بالزوال بفضل التجسد والفداء اللذين يحرران الانسان منها، ويستعيضان عنها بالنعمة.
ففي البدء لا خطيئة ، وفي النهاية لا خطيئة ، لذلك هي لا شيء.
 
المراجع:
سر المصالحة – للأب فاضل سيداروس
خدمة البشارة – الجزء الخامس – أسرار البيعة- للمرسل اللعازري جميل نعمة الله السقلاوي
اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر – الجزء الثالث – للأب سليم بسترس