الأموات ينهضون والأحياء ينعون أنفسهم

 

استمع إلى الأوبريت

\"\"

\"\"

 

 

    قبل تسع سنوات شاهدنا الحلم العربي، أنجح اوبريت عبّر عن هموم العرب وأحواله منذ حرب 48 حتى عام 1999م، بكل ما مرّ به الوطن العربي من مآسٍ وحروب وصراعات خارجية وداخلية. وقد نال وقتها شهرة إعلامية كبيرة، لما تضمنّه من مشاهد حقيقية، وجمعه لعشرات من نجوم العرب في الغناء والفن. والآن بعد مرور سنوات يتجدّد الحلم في شكل جديد مع المنتج والمخرج احمد العريان في اوبريت الضمير العربي. الوجه الآخر للحلم العربي. ليشمل أهم الأحداث المؤسفة التي تعرّض لها العرب والعالم من عام 1999م حتى منتصف فبراير 2008. ويؤرخ بالصوت والصورة أبشع جرائم الإنسان في هدمه لإنسانيته وإنسانية الآخر الذي خلقه الله ليشاركه الحياة.   

    وما زلنا نبحث عن حُلم، ويبقى الحُلم حُلما في ليالِ أيامنا الحزينة. التي لا تلتقط أنفاسها من الصراع الأزلي بين الخير والشرّ، الحق والباطل. وجميع الأطراف مجني عليها في نظر نفسها. أحداث التسع سنوات هي بطل الضمير العربي، الذي لا ندري إن كان في عِداد الأموات أم في عِداد المفقودين. فما رأيناه في الاوبريت عبارة عن مجموعة من الأموات ينهضون ليخبرونا عما حدث لهم. كيف قـُتلوا؟ كيف داس الشرّ على كرامتهم وإنسانيتهم؟ كيف استغاثوا ولم يدروا أن العالم كله أصم؟ أبطال الضمير العربي جميعهم أموات إلا قليل منهم وقفوا بأصوات عالية ينعون أنفسهم وينعون العرب والعالم في ضميرهم المفقود.

 

    "أن الضمير الآثم لا يحتاج لإصبع اتهام، لذا ابدأوا بمحاكمة أنفسكم أمام ضمائركم. واعلموا أن شجرة الظلم لا

\"\"

رشا أرنست – مصر

 تثمر، وان من بالغ في استسلامه ضاق فكره عن رؤية الحقيقة. ومن صدق كذب الحياة سخر منه ضميره. وان عواقب الصمت اشد خطورة من أسبابه. ولأنّ الضمير منارة الإنسان إلى الصواب، نستعين به لتحقيق الحلم العربي. لذا دعوا ضمائركم تنطق فالضمير الأبكم شيطان اخرس". بهذه الكلمات يبدأ الضمير العربي بصوت احمد العريان صاحب الرؤية والمخرج. وأود أن أتوقف قليلاً عند بعض الكلمات الواردة في هذه العبارات القصيرة والمعبّرة عن معاناة حقيقية صامتة.

    كلمة ضمير التي شاعت كثيراً هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى. وكلمة ضمير عرفها عدد من العلماء بعدة تعريفات، منها مَن يُرجع الضمير إلى النفس. فيقول عنها الغزالي "إنها نَفْسُ الإنسان التي تُوصف بالمُطْمَئِنَّة إذا سَكَنَتْ تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات، والتي تُوصف باللَّوامة إذا لم يتم سكونها واعترضت على النفس الشهوانية، كما تُوصف بالأمَّارة بالسوء إن تركت الاعتراض وأطاعت الشهوات". كما ربط البعض الضمير بالقلب، "الضمير الشيء الذي تضمره في قلبك تقول (أضمرت حرف الحرف) إذا كان متحركاً فأسكنته وأضمرت في نفسي شيئاً والاسم: الضمير، والجمع ضمائر" لسان العرب. وهناك من يربط علاقة الضمير بالعقل كما في نظرية سيجموند فرويد "الضمير مصدر ردع قوي للشهوات ومنه يستمد العقل القوة اللازمة لضبط الميول والنزعات والغرائز البدائية. فوظيفة الضمير مراقبة العقل ومحاسبته عن أي توجه نحو إشباع النزعات بطريقة بدائية ويرشده إلى الطريق المتزن لإشباع هذه الرغبات بطريقة مشروعة تتفق مع القيم السائدة".

    سواء كان الضمير مصدره النفس أو العقل أو القلب فالنتيجة واحدة، ليس المقصود به ما يتعلق بالعلم أو التعرف الباطني على الذات ولا الوعي الذي تقدّر بموجبه بعض القيم. إنما المقصود بالضمير هو المركز الأعمق سرية في الإنسان، هذا الهيكل الذي يختلي فيه الله، وحيث يستمع إلى كلام الله. فيشعر الإنسان في أعماق ضميره بقانون لم يفرضه على نفسه ولكنه عليه الامتثال له. هذا الصوت الذي لا يتوقف عن ملاحقته يحثه على محبة الخير وعمله، وتجنب الشر. فان الله قد سجل هذه الشريعة في قلب الإنسان.

 فالضمير هو تلك الملكة الإلهامية التي بها نحكم على عمل ما. قمنا أو سنقوم به. فالأمر يتعدى العلم أو الوعي النظري بالخير أو الشر، إلى الحكم الايجابي الذي يجعلنا نقرر أن هذا الشيء يكون في نظرنا خيراً أو شراً. وإذا نظرنا إلى العالم اليوم نجد أن هذه الملكة الإلهامية غائبة بنسبة كبيرة. غائبة عند البعض لدرجة أننا أطلقنا عليها أنها ميتة، أي لم يعد لها وجود. فجميع الأحداث تدل على أن الضمير بتعريفه الإنساني أصبح في خبر كان. الأجواء والموت والدماء المتناثرة في كل الأنحاء تجزم أن ضمير الإنسان وخاصة من أصبحت المصائر بأيديهم غاب فيهم الضمير. وهذا ما يظهر في اوبريت الضمير العربي والذي لم ينفرد بضمير العرب فقط وإنما تطرق إلى الضمير في كل العالم، والرؤساء والمسئولون هم أول من غابت ضمائرهم.

    الكلمة الثانية التي أتوقف عندها هي "محاكمة" والسؤال لمن تكون المحاكمة إذا كان الحاكم هو أول من خالف ضميره؟ أيحاكمون أنفسهم ويبدءون فعلاً بتطبيق العدل لا الظلم. الظلم الكلمة الثالثة التي أضع تحتها مئة خط، فهو الحكم الموحد السائد بين البشر في اصغر واكبر المواقف. الظلم عكس الحق المنتهك في كل مكان. فهل أصبح الإنسان بحكم الظالم على أخيه الإنسان، بسبب وبدون سبب؟

    ما ظهر في الاوبريت كان من الواقع الذي نعيشه، لن أقول أننا جميعا نعيش هذا الواقع المأساوي إنما مَن يعيشون في العراق، فلسطين، لبنان، وبعض الدول خلال أحداث معينة. وإذا كان العالم الآن كله يعيش واقعا أليما، إما حربا أو جوعا، أو فقرا أو تعصبا. فالظلم بأشكاله المتعددة منتشر.

\"\"

الله هو المحبّة

الظلم واحد ولكن بعدة اختيارات، ولك أن تختار نوع الظلم الذي تفضله. وهذا الواقع المجمع بالصوت والصورة في الضمير العربي والذي شاهدناه من قبل عبر الأخبار ولكن

كل حدث بوقته لم يُظهر الظلم فقط وإنما أظهر شيئان آخران: الأول هو تطور الظلم لدرجة الإجرام، والشيء الثاني هي الكلمة الرابعة التي أتوقف عندها ألا وهي الاستسلام "إن من بالغ في استسلامه ضاق فكره عن رؤية الحقيقة". عاش Cesar Lombroso تشيزاري لومبروزو (1835ـ1909) الطبيب الايطالي وعالم الجريمة في بداية حياته طبيباً في الجيش الايطالي، وخلال عمله في الجيش ومراقبته للسلوك الإجرامي للجنود بدأت دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين، وحلل لومبروزو في نظريته عن الإجرام، بأن المجرم يتميز بصفات نفسية مختلفة عما هو موجود لدى الإنسان العادي ومنها: القسوة البالغة وعنف المزاج وحب الشرّ، انعدام الإحساس بالألم والميل إلى الوشم، اللامبالاة وعدم الشعور بتأنيب الضمير وعدم الحياء. وهذا بالتفصيل ما يحدث بالفعل في عالمنا اليوم. الأمر فاق حد الظلم. فالظالم يحكم وربما لا يرى تنفيذ حكمه. إنما المجرم يحكم وينفذ ويستلذ بما ينفذ من إجرام وهذا بالضبط ما يفعله أصحاب القرار هذه الأيام.

    أما الاستسلام فهو من أبشع السلبيات التي تحمل الإنسان إلى اليأس. الاستسلام يجعل الإنسان كائنا ضعيفا لا يهتم بما يحدث له أو ما يحدث لمن حوله، لان كل الأمور تتساوى عنده. المستسلم ليس له قضية يؤمن بها ولا يملك قرار في حياته. حتى انه لا يملك رأي يخصه، فهو يكتفي بالمشاهدة فقط. وهناك كثيرون اكتفوا بدور المشاهدة، واستسلموا للواقع بكل ما فيه. وتركوا الرياح تأخذهم حيث تشاء. لهذا أصبحت المجتمعات نصفين، نصف صاحب القرار والنصف الآخر منفذ أو مستسلم للقرار. لهذا وصل الوضع إلى ما هو عليه. غياب ضمير أصحاب القرار، واستسلام البعض الآخر، معادلة نتيجتها ظلم وقهر سائد على أنصاف المجتمعات.

 

    كلمة الحقيقة هي الكلمة الأخيرة التي أود أن أتوقف عندها. في اللغة الجارية، يطلق لفظ حقيقي على كل فكر وكل كلمة تطابق الواقع. وأيضاَ على واقع الشيء ذاته حينما ينكشف بجلاء ووضوح للعقل، يقال في اليونانية a-lèthès تساوي غير خفي. وما ظهر كان حقيقة وواقعا ملموسا نعرفه جميعاً ولكن حتى الآن لا ندركه. الحقيقة التي لا نود أن نقف عندها متأملين بحزن واستسلام فقط، إنما الحقيقة التي تبث فينا وقفة مع ضمائرنا. الحقيقة التي تصرخ فينا بأن نواجه الواقع لا أن نستسلم له أو نهرب منه. الحقيقة التي تجعل إيماننا بالله يستيقظ من غفلته. الحقيقة التي تجعلنا نعود إلى ضميرنا وحكمه الثابت لاسترجاع ثقتنا في الحق حتى يسود علينا.

    الإنسان في جانب أصيل من جوانب كيانه الروحي, إرادة ووعيٍ وتطلُّعٌ إلى الحق. والحق ينادي الجميع، ينادي كل يائس من الحياة، كل مظلوم انتهك حقه، كل هارب من مواجهة الفساد والظلم من حوله، كل مستسلم للواقع المرير عن خوف أو عن إحباط، كل مَن هاجر وترك وطنه.. ينادي الحق بأنه واحد لا يتجزأ. ومهما طالت الأحداث وطال الظلم هكذا لا بد للحق أن يسود في النهاية. لأنه من الله. ومن عرف الله عرف الحق وعاشه. تعرفون الحق والحق يحرركم.

 

rachaernest47@hotmail.com

عن موقع ابونا