دير شاروبيم في سوريا

اعداد الاب انطونيوس مقار ابراهيم                                                  

يطلق البعض على دير شاروبيم اسم شروبيين على حسب ما ورد في الكتب والموسوعات التاريخية . يُعد هذا الدير من الاديار التي تُحصى من الاثار الضخمة البارزة في الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية .

يمتاز دير شاروبيم بموقع فريد حيث أنه يقع على رأس جبلٍ عالٍ يطل على دمشق (سوريا) وبعلبك (لبنان) . يرتفع الدير عن سطح البحر  إلى حوالي 2130 متر تحيط به الابنية الضخمة والمساحات الخضراء التي تشمل اشجار الكروم واشجار الزيتون  ، ومن على قمة الجبل يمكنك أن تري غوطة دمشق(سوريا) ورأس بعلبك وجبال صنين في لبنان .

يعود تاريخ تأسيس دير شاروبيم إلى حقبتين مختلفتين من التاريخ 

1-                    الحقبة الاولى :

بدأت مع انتشار المسيحية في القرون الثلاثة الاولى  التى كانت اشد الفترات عنفاً بالمسيحيين نظراً لما لحقَ بهم من إضطهادات دامية ومُرعبة حرَمتهم من حقوقهم في العبادة وتأدية الشعائر الدينية  ، كما أدت هذه الفترة من الاضطهاد العنيف والشرس الى هدم العديد من الكنائس وحرق الكتب المقدسة، فحاولت الامبراطورية الرومانية  خنق الدعوة المسيحية معتبرين إيّها مُعادية للحكم القائم ولاسيما حينما رفض المسيحيون السجود للاصنام وتقديم البخور للاباطرة  ، فكانت النتيجة سفك الدماء التي صعدت إلى عرش اللة كالاريج الذكي والبخور الطيب .

وتفنن الرومان في اختراع اساليب التعذيب التي تقشعر لها الابدان .ومما لاشك فيه أن الاضطهاد قبل عهد ديوكليسيانوس عام 258-304 كان منحصراً في بعض اجزاء الامبراطورية الرومانية ، انقضت الاضطهادات كالصواعق، فقضت الكنيسة في القرون الاولى من حياتها مرحلة نضال مستمر وقد ناضلت من اجل الحفاظ على وديعة الايمان  هذا النضال جعل المسيحيين يلجأون إلى حياة بعيدة عن المظاهر الخارجية يحيون حياتهم داخل الدياميس المظلمة تحت الارض ممارسين طقوسهم وعبادتهم بطريقةٍ سريٍّة.

 تعرض المسيحيون الى اثنا عشر اضطهاد  راح فيها العديد من الضحايا وقد صاروا شهداء قديسين ارتوت الارض بدمائهم .

 نذكر من بينهم  الرسولين بطرس وبولس ، القديسة تقلا ، يوحنا الحبيب والشهيد القديس اغناطيوس الانطاكي  والقديس بوليكربوس اسقف ازمير، كما ُقتل عدد كبير من المسيحيين الابرياء وهدمت الكنائس والمعابد وحرقت الكتب المقدسة

 هكذا ذاق اتباع المسيح الاستشهاد الفتاك بالقتل والتعذيب والجَلد وتقطيع الاعناق وتمزيق الجسم والقائهم إلى الوحوش والاشغال الشاقة بالاضافة إلى من القوا في السجون من الاساقفة والكهنة والوعاظ والشمامسة  ولفظاعة هذه الاعمال الاجرامية جعلت الكنيسة القبطية كنيسة الاسكندرية التي قدمت ايضاً العديد من ابنائها قديسين استشهدوا وارتوت ارض مصر بدماء هؤلاء، وبدأت تضع تقويم خاص في هذا العصر،عصر الاضطهاد وجعلتهُ  بدء لتاريخ الشهداء وهذا ما يسمى التقويم القبطي (تقويم الشهداء) المستعمل في الكنيسة حتى اليوم .

  في هذه الحقبة المريرة لجأ المسيحيون إلى الجبال فبنو لأنفسهم المغاور والمناسك ليحتمون فيها ويمارسون شعائرهم الدينية، ويقتربون إلى الله. فهناك في المغاور والمناسك صار المسيحيون ينعمون بواجباتهم الدينية وصلواتهم داخل هذه المغاور التي ملأت الجبال. من جملة هذه المغاور دير شاروبيم التابع للكنسية الانطاكية الارثوذكسية في سوريا ويطل على دير سيدة صيديانا لراهبات الروم الارثوذكس.

2-                    الحقبة الثانية :

بدأت هذه الحقبة من التاريخ مع صدور مرسوم ميلانو  عام 313م وهذه الحقبة غيرت بشكل جذري وضع المسيحيين. ينص المرسوم على أن يُمنح المسيحيون وجميع المواطنين الحرية التامة في اعتناق الديانة التي يرغبون فيها وأن ترد الكنائس والمدافن الى المسيحيين دون مقابل، هكذا اعترفت الدولة الرومانية بالكيان المسيحي وبالحق في اقامة كافة الشعائر الدينية اسوة بسائر الاديار، ومن هذا المنطلق تمتعت المسيحية بحماية الدولة وعاشت في سلام. مع مرور الوقت تضالت الوثنية  رسمياً سنة 396-408م : فلم يكن لها اتباع إلا في بعض المناطق الجبلية المنعزلة وفي الاوساط الفلسفية اليونانية  وفي سنة 529م : سعى يوستينانوس الاول إلى اغلاق مدرسة اثينا الفلسفية فاندثرت على اثرها الوثنية تماماً وتكاثر عدد المسيحيين  وبنيت الكنائس والاديار البارزة كدير الشاروبيم  الذي يُعد من ابرز الاماكن الدينية الواقعة على جبل القلمون والمقصد للكثير من الحجاج القاصدين الاراضي المقدسة يعرجون اولاً في طريقهم إلى دير شاروبيم كمحطة أولى في مسيرة الحج المقدس إلى زيارة الاماكن المقدسة

اقيم جنب المغارو والمناسك بالقرب من دير شاروبيم بعض الابنية الكبيرة من الحجر الابيض على الطراز البيزانطي البازيليكي وتزينت هذه الابنية بالنقوش والصلبان  والكتابات  اليونانية  .صار دير شاوبيم مقصداً لكل من هم في حاجة إلى التبرك والحج المقدس. يعود هذا المقصد إلى الموقع الفريد الذي يتميز به دير شاروبيم فقد يأمه الناس من جميع المناطق  مرتين كل عام المرة الاولى في ذكرى تدشينه الموافقة 11 ايلول ، والمرة الثانية : ذكرى الاحتفال بعيد الملاك ميخائيل رئيس الملائكة  الموافق في 8 تشرين الثاني. هذا الحج يأتي في إطار تفرد الدير بالموقع الجغرافي الرائع والمناظر الخلابة المحيطة به  وتفرده ايضاً بالقيمة الاثرية الكبرى التي إن عبرت فهى تعبر عن مكانة الدير وعظمة الانسان وقدرته الفائقة فى مجال البناء والعمار والابداع والتشكيل الهندسي.

مع مرور الزمن الذي تصاحب بسقوط الامطار والرياح تحول الدير إلى شبه انقاض حتى أن الحياة فيه صارت شبه منعدمة لايسكنه احد سوى راهب أو اكثر على حسب ما تذكره لنا المصادر التاريخية .

ذكر لنا كتاب مسالك الابصار "أن دير شاروبيم صرح كبير يقصد للتنزه ويعود إلى عصور قديمة وهو خاص بالروم الارذثوذكس ومبنى بالحجر الابيض"

 كما قد ذكر لنا الرحالة المغربي بوكوك في عام 1737 وفي اثناء زيارته إلى دير شاروبيم فيقول : إن دير شاروبيم كان مأهولاً وفيه راهب واحد وكنيسة عامرة مازالت حية .

بالرغم من تعرض الدير على مر التاريخ للكثير من المآسي والتخريب عوامل الطبيعة القاسية كتساقط الامطار والعواعص الرعدية إلا أنه بقىّ شامخاً ومعروفاً كمكان حج ومزار ديني كبير ومنتجع سياحي للتنزه وبقى معروفاً في تسميته الشعبية دير شاروبيم

شاروبيم كلمة آرامية الاصل معناها الملائكة وفي ذات الوقت كلمة مركبة من كلمتين  الاولى شيروب " أي " الملاك "  والثانية  " يم " علامة الجمع .

 سمى هذا الدير باسم الملائكة ليكون هيكلاً مرتفعاً للرب على الدوام ، وليكون الرهبان فيه متشبهين بالملائكة في السيرة والخدمة الصالحة .

في وقتنا الحالي سعت رئيسة دير السيدة في صيدنايا التابع لطائفة الروم الارثوذكس الام كاترين ابي حيدر إلى اعادة الدير إلى حالته الاول  ليكون مسكناً للراهبات ومقصداً للزوار الكرام .

 قامت الام كاترين بجهود كبيرة ومتواصلة من اجل إنماء الحياة في الدير فعملت على شق الطرقات المؤدية اليه عبر الطريق السريع من جهة صيدنايا وتشجير الاراضي المحيطة به وجر المياه اليه عبر القيام بحفر بئر عمقه 300متر لري الاشجار والبساتين هذا العمل شجع سكان المنطقة على القيام بمثل هذه الاعمال العمرانية في المنطقة فقام السكان بتشجير الاراضي وزرع المساحات الصحرواية لتحويلها إلى مساحات خضراء هذا المجهود ساعد في تغير وجه المكان الذي تأثر بعوامل الطبيعة إلى مكان يقصده الجميع للتنزه والراحة الجسدية .

 لم يقتصر عمل الام الرئيسة كاترين ابي حيدر على تشجير المكان فقد بل عملت ايضاً على إقامة بناء كبير وضخم من أجل رعاية الفتاة اليتيمه والايتام عموماً . اليوم يضم الميتم أكثر من 40 فتاة قاصرة ويتيمه يتعلمن فيه اصول الحياة الروحية والحياة العملية من خلال تدربهن على الاعمال اليدوية والمنزلية ويستمر العمل معهن للبلوغ سن اختيار الفتاة بين حياة الزواج التى يساهم فيها الميتم بشكل كبير وبين حياة البقاء داخل الميتم للتكرس وعيش الحياة الديرية الرهبانية .بُنى الميتم بفضل عطايا وتقدمات المحسنين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية العربية السورية الدكتور بشار الاسد  الذي كان قد ساهم بشكل كبير وفعال في تعمير الميتم بغرف اضافية واجهزه تقنية متطورة . وفي الوقت عينه لم تنقطع زيارات الرئيس بشار الاسد عن الدير بل يقوم  بالزيارة مرة في العام  لتفقد احوال الفتيات واحتياجاتهن .

 أقيم بجوار الدير دار ضيافة لاستقبال زوار الدير الدير الآتين اليه من بعيد أو من قريب دون مقابل محدد بل يفتح الدير ابوابه للجميع ويرحب بهم للتبرك والتأمل في جمال الطبيعة الخلاقة وعظمة الله الخالق القادر على كل شئ .

تقوم الراهبات بالاشراف الكلى على سير الحياة في الدير والسهر على استمرار الروح الرعوية التى يساهمن فيها بشكل بارز وفعال تحت اشراف غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الارذثوذكس .نود أن ننوه في نهاية حديثنا عن اهتمام وسائل الاعلام السورية والعربية والعالمية ايضا بهذا الدير ذات الصرح الكبير المطل على الشام والذي عادت اليه الحياة الايمانية وحياة التقوى .

                            الاب انطونيوس مقار ابراهيم

  راعي كنيسة القديس انطونيوس للاقباط الكاثوليك في لبنان