دير مار جرجس الحميراء – سوريا

يقع دير مار جرجس الحميرا  في منطقة تلكلخ، الواقعة في وادي النصارى أو وادي النضارة على الساحل السوري من مدينة طرطوس وصافيتا .

أما عن منطقة تلكلخ وتعرف بقضاء تلكلخ الواقعة بين حمص (سوريا) وطرابلس الشمال(لبنان) .

إن الدير الذي نحن بصدده الان يرتفع عن سطح البحر بحوالي  650 متر وقريب من قلعة الحصن التي تبعد عن حمص من جهة الغرب حوالى 65كم وعن طرطوس من جهة الجنوب الشرقي حوالي 75كم وترتفع عن سطح البحر حوالي 650م . قد ورد اسم قلعة الحصن أو " حسين " في الموسوعات العلمية والتاريخية . كانت قلعة الحصن من من أشهر القلاع في القرون الوسطى وهى فريدة في نوعها من حيث هندستها المعمارية وموقعها الاستراتيجي الذي يربط البحر المتوسط بالسهول السورية ، ومن اعلاها يمكنك رؤية بحيرة حمص وموقع ميناء طرابلس وبرج صافيتا . كما كانت القلعة في طليعة الحصون التي أنشئت لتحتل مكاناً مرموقاً بين المعابر والمصايف،  يحيط بها من الخارج سور ضخم وبها ابراج مستديرة وباحات كبرى ومماشي وصهاريج ومستودعات ضخمة . كما إننا نجد في داخلها (القلعة) معبد يعود إالى نهاية القرن الثاني عشر كان فيه صورة للسيدة العذراء نقلت إلى متحف طرطوس .

نـظـرة تـاريـخـيـة :

يعود تاريخ تأسيس دير مار جرجس الحميرا إلى تاريخ المنشآت والاديار الكبرى الموجودة على الاراضي السورية فلهذا الدير تاريخ عريق وهو أيضاً معاصر لدير السيدة العذراء في صيديانا المعروف بدير الشاغورة(وفي هذا الدير ايقونةٍ نادرة للسيدة العذراء (ويرجح بأن تكون هي الايقونة التي رسمها القديس لوقا) ودير السيدة هو دير بطريركي تابع لبطريركية أنطاكية للروم الارثوركس .تفيد المصادر التاريخية بأن الملك يوستينيانوس في عام 527-565م قد شيد دير السيدة صيدنايا ودير مارجرجس الحميرا في وقت واحد وهذان الديران تابعان للكرسي البطريركي الانطاكي .

 إذا يعود تاريخ تأسيس دير مار جرجس إلى القرن السادس الميلادي وقد بٌنىّ على اسم الشهيد الظافر جاورجيوس المدعو عند المسلمين الخضر أبو العباس .

 وقد أطلق على الدير اسم الحميراء نسبة إلى موقع أثري قديم اسمه الحميراء قريب منه ويرجح أن يكون موقعاً لقرية قديمة تحمل نفس الاسم  وتنسب إلى إله المطر عند الشعوب القديمة . وهنا ايضاً اختلف العلماء حول نسبة الدير فيرجح البعض أن السبب في التسمية الحميراء يعود إلى كثرة الامطار في تلك المنطقة  ولاسيما في فصل الشتاء والبعض الاخر من العلماء البحاثة ينسبون كلمة حميراء إلى اللغة اليونانية " خوميروس والتى تعني السيد ، كما يقال أيضاً عن دير مار جرجس أنه بٌنى على أنقاض معبد وثني قديم للاله "هومرا" والذي يعرف حتى الان بالدير القديم .يوجد احتمال أخر حول تسمية الدير  بالحميراء وهو أن الكلمة معربةً عن الكلمة اليونانية " أموييرس " والمقصود منها الاخوية الروحية ذات الحياة المشتركة . بنى الدير على الطريق الروماني العام المؤدي من السواحل البحرية إلى البلاد الداخلية، كحمص وتدمر .

 أقـسـام الـديـر :

 ينقسم دير مار جرجس الحميراء إلى قسمين بارزين في كل قسم منهما كنيسة وساحة خارجية وغرف عديدة لتلبية حاجات الدير . وقد يجد الزائر الكريم للدير نفسه في وسط مكان متراكب من طابقين فيه ديران يعودان إلى حقبات تاريخية مختلفه .

 أولاً : الـديـر الـقـديـم:

 في بادئ الامر يدخل الزائر إلى الدير القديم من المدخل الرئيسي للدير الجديد الموجود في الطابق العلوي .

ففي زيارتنا للدير[1] دخلنا إلى غرفة الاستقبال وأمامها درج قديم " سلم حجري قديم " منه نزلنا إلى الدير القديم  الذي كان في بادئ الامر عبارة عن كهف قديم تحيط به بعض القلالي الخاصة بالاباء الرهبان ، ثم وسع فيما بعد  وأضيف له ملحقات بنيت على مستويات مختلفه . كما يعود تاريخ تأسيس الدير القديم إلى أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلادي  ويعد هذا الدير من أجمل المباني به غرف للرهبان وكنيسة الدير التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر ولهذه الكنيسة بابان على كل واحد منهما صليب يبلغ طول الكنيسة 21م . بالدخول إلى الكنيسة يدهشك جمال الفن الكنسي الموجود بالداخل والتقاسيم الطقسية للبناء فهى مقسمة إلى قسمين قسم شرقي وبه باب يدخل منه الرجال وقسم غربي به باب أيضاً يدخل منه السيدات ويفصل بين الرجال والنساء حاجز خشبي متشابك .

 الايقونستاز  في حرم الكنيسة القديمة :

 يبلغ طول الايقونستاز 3.80م وهو مصنوع من خشب الابنوس وقديم جداً حُفر عليه بعض الاحداث الدينية البارزة منها حدث البشارة بميلاد السيد المسيح ، وصورة القديس جاورجيوس والقديس ديمتريوس وبعض الملائكة والطيور من نسور وحمام تحمل في أفواهاه أغصان الزيتون .

 قد حفر الايقونستاز على ثلاث مراحل القسم الاول وهو السفلي منه حفر في القرن السابع عشر والقسم الثاني وهو بيدأ من الباب الملوكي حتى أيقونة الصلبوت حفر في القرن التاسع عشر والقسم الثالث وهو الجزء الاقدم من الايقونستاز وله قاعدة مغطاه بالبلاط القيشاني على ارتفاع متر واحد من الباب الملوكي حفر في القرن الثامن عشر سنة 1710م وكما يعتبر الحفر في الايقونستاز أية من آيات الجمال والفن البيزانطي الزخرفي .

أما الايقونات التي تزين الايقونستاز رسمت في أزمنة مختلفة نذكر منها ايقونة السيدة العذراء التي رسمت في القرن السابع عشر وايقونة مار جرجس شفيع الدير والتي رسمت في القرن الثامن عشر .

 يعلو الايقونستاز صور الرسل الاثنى عشر يتوسطهم السيد المسيح وفي القسم الاعلى من الايقونستاز نجد ايقونة الصلبوت وايقونة السيدة ويوحنا المعمدان .

داخل الهيكل نجد المائدة المقدسة وهى أيضاً مغطاة بالبلاط القيشاني وامامها الكرسي البطريركي المصنوع من الخشب وبه نقوش آية في الجمال والفن . نجد في مؤخرة الكنيسة جرن المعمودية المصنوع من الرخام الحجري . وفي جوانب الكنيسة يوجد الامبون القريب من جرن المعمودية وهو مصنوع من الخشب ويعود إلى القرن التاسع عشر .

 جدران الكنيسة مبني من الاحجار العادية والسقف عبارة عن أربع عقود تتصل بخط مستقيم وللكنيسة نوافذ صغيرة قديمة يتوسطها نافذه كبيرة حديثة الصنع وقريبة من الايقونستاز.

 باحة الدير والملحقات في الجهة الشرقية توجد الباحة الصغيرة وبها مستودع ومصنع صابون ويعود تاريخ المستودع إلى نهاية القرن التاسع عشر .

وفي الجهة الغربية سٌلم حجري يصل إلى بوابة الدير الغربية التى يوجد عليها صليب .

 وفي الجهة الغربية نافذة حجرية كان الرهبان يستعملونها في إعطاء الطعام للمعوزين والمحتاجين ، ومن جهة الغرب توجد نافذة أخرى كان يستعملها أحد الرهبان في إعطاء دروس التعليم المسيحي وشرح الاداب المسيحية على الزائرين وقاصدين الدير وابناء المنطقة .

كشفت التنقيبات الحديثة عن باب مكسور يعود تاريخ نحته إلى نهاية القرن الخامس .

في الجهة الغربية من باحة الدير يوجد اسطبل قديم يعود إلى القرن التاسع عشر تحول فيما بعد إلى معصرة زيتون .

 الـديـر الـحـديـث :

يتزين الدير الحديث أو الجديد بمدخل جميل جداً من حيث البناء المعماري والفن الهندسي والنظافة  والمحيط المجاور له  فهو يقع بين السهول والوديان الخضراء .

في الطابق العلوي من الدير الحديث  نجد فيه من عند الدخول إلى ساحة الدير غرف استقبال الزوار وماكتب الاباء الكهنة والاباء المرشدين الذين يكرسون أوقاتهم في استقبال الزوار وارشادهم الروحي وقبول اعترافاتهم ، ومكتب رئيس الدير.

بجوار هذه الغرف والمكاتب توجد مكتبة ضخمة لبيع الكتب والهدايا والتذكارات من ايقونات وصور وصلبان ومن منتجات الدير سواء النبيذ أو البخور وزيت الزيتون .

 يقضى الرهبان يومهم بين الصلاة والعمل اليدوي وارشاد المؤمنين ومساعدة المحتاجين  إلى جانب قسم كبير منهم يتفرغ للكتابة والتأليف.

 بجوار المكتبة نجد مدخل الكنيسة الكبيرة التي تسع العديد من المؤمنين والاباء الرهبان لآداء الفروض والصلوات والتآمل ، فهى مكان مناسب للتأمل والخلوة مع الله ، قد بدء البناء والعمار في هذه الكنيسة سنة 1857م بطول 31متر وعرض 17متر وارتفاع 17متر .

 هذه الكنيسة حديثة وطابعها المعماري الهندسي حديث ايضاً يتزين مدخلها الرئيسي بعمودان حجريان نحتا في القرن السابع ، وطراز الكنيسة الفني والمعماري هو خليط من الفن الغوطي وهذا ما نجده في الاعمدة  والفن العربي المتمثل القبة .

وايضا الفن البيزانطي والذي نلمسه في الابواب والنوافذ .

يتخذ شكل الكنيسة المعماري نمط البازليكي فيها ثلاثة اسواق يفصلهما صفان من الاعمدة وهما من الفن الغوطي ، ويصل عددهم إلى 10أعمدة.

 كما نجد في داخل الكنيسة ايقونستاز  خشبي صنع في دمشق على ايدى أمهر النجارين والفنانين في سنة 1865م واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات . يعد هذا الايقونستاز من أكبر الايقونستازات الخشبية الموجودة في الطنائس السورية، وتزين الايقونستاز بالعديد من الايقونات التي رسمت في العام 1870م وهذه الايقونات من صنع مدرسة اروشليم للفن الايقونغرافي .

من ابرز الاماكن في دير مار جرجس هو المتحف الذي يوجد قرب الساحة الداخلية الكبرى للدير في الجهة الشرقية ، وقد تأسس المتحف في سنة 1966م وبه العديد من الايقونات النادرة الوجود والتي تعود إلى تاريخ قديم جداً فبعض الايقونات يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر وفيه حجر مكتوب عليه باللغة العربية يعود تاريخه إلى القرن الثامن . وجرار من الفخار وتحف كنسية وكؤوس وصواني وصلبان وقناديل.

وإلى جانب كل ذلك نجد مخطوطة باللغة العربية وهي الاصلية وثيقة عمر بن الخطاب الذي توجه بها إلى البطاركة والاساقفة ورؤساء الاديار والكنائس في الشرق ، يوصي فيها بالدير وساكنيه من الرهبان والاباء ويعفيهم من الضرائب عارضاً حمايته لهم وعدم التعرض لهم من جهة اسلامية .

خـاتـمـة :

يعد دير مار جرجس من ابرز الاماكن الدينية المقدسة في الاراضي السورية والبطريركية الانطاكية الارثوزكسية وهو يخضع لسلطة رئيس دير البلمند في طرابلس الشمال الكائن على الاراضي اللبنانية .

 تعتبر زيارة دير مار جرجس حج مقدس نظراً لمكانته وعراقته التاريخية وعلى ما يحتويه  وما يشع منه من روحانية وعلم وفضيلة بفضل وجود رهبان يقضون الساعات في التأمل والعمل الروحي . دير مار جرجس هو دير مسجل ضمن الآثار المسيحية الموجودة في الاراضي السورية ويشكل مع قلعة الحصن مكاناً سياحياً بارزاً ومكاناً دينياً فريداً.

 يؤمه جميع الناس من مسيحين ومسلمين ومن كافة الطوائف ، يحملون النذور والهدايا ويكرمون عجائب شفيع الدير القديس جرجس "جاورجيوس"

يقام فيه احتفلان كبيران مرتين في السنة الاولى في السادس من شهر آيار والذي يوافق عيد مار جاورجيوس ، والثانية في الرابع عشر من شهر ايلول حيث فيه الاحتفال بعيد الصليب ، حيث يأتي المؤمنين بنذورهم وقرابينهم من ذبائح ومنتجات زراعية .

                                     الاب انطونيوس مقار ابراهيم

       راعي كنيسة القديس انطونيوس للاقباط الكاثوليك في لبنان



[1] قمنا بزيارة دير مار ججس الحميراء في العام 2002 مع وفد من تلفزيون تيلي لومييار لعمل وثائقيات عن ابرز الاماكن الدينية والسياحية في سوريا، ومن المؤكد اننا الان في مطلع النصف الثاني من العام 2008م بأن يكون قد تم تجديد الدير وتطويرها وتزويده باحدث الطرق والاساليب ليكون واحة للراحة الروحية. ندعو للقائمين على ادراة شؤون الدير والاهتمام بالزوار الكرام بالصحة والنشاط وأن يكون نوراً في طريق من يقصد الدير للبركة والهدوء النفسي .

 الاب انطونيوس مقار ابراهيم