المغطس.. موقع عمّاد السيد المسيح

موقع معمودية السيد المسيح

المطران سليم الصائغ

كانت الأماكن التي تقدست بحضور المسيح، محط تكريم المسيحيين منذ العهد الرسولي. وكان رسل المسيح وتلاميذه يرشدون التلاميذ الجدد إلى الأماكن المسيحية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عددا من الاماكن المسيحية كان معروفا لدى عموم الشعب: ألم تكن الجلجلة هناك حدثا عاما ملموسا، معروفا لأهل المدينة ولكل من يعرف المدينة، بالقرب من الطريق (مر 15/29) على مرأى من كل العابرين؟ والقبر الذي وُضِع فيه يسوع ألم يكن هناك في البستان المجاور؟ ومريم أم يسوع ألم تكن هناك لترشدهم إلى مكان ولادة المسيح؟ والأماكن حيث كان يوحنا يُعمّد ألم تكن معروفة من قِبَل الآلاف الذين تعمدوا منه، وكثيرون منهم آمنوا وأصبحوا تلاميذ المسيح القائم من القبر؟.

 

إن المسيحيين أبناء الأرض المقدسة، يعتبرون أنفسهم ورثة الإيمان المسيحي، ويحتفظون بذكرى الأنبياء، ويحافظون على الأماكن المقدسة حيث تم التجسد والفداء، وحيث كرز وعمّد يوحنا المعمدان. وكانوا أدلاء لإخوتهم في الإيمان، الذين كانوا يأتون من بعيد، لزيارة الأماكن المقدسة. وبالنسبة لهم، كان نهر الأردن، وبيت عنيا عبر الأردن، ومكان صعود إيليا إلى السماء في العاصفة، أماكن مقدسة، موضوع تأمل وتعبّد. وكان المسيحيون يأتون في رحلات حج إلى هذه الأماكن الرائعة، ليعيشوا روحيا تاريخ إيمانهم، ويستحمون في الأردن.

 

وسنة 70 للميلاد، بعدما استولى القائد الروماني تيطس على اورشليم وقمع الثورة اليهودية، أمر بنصب تمثال فينوس على الجلجلة، وتمثال جوبتير على القبر المقدس، وتمثال أدونيس على مغارة الميلاد في بيت لحم. بسبب هذه الرجاسات، امتنع المسيحيون عن الحج، ولكن مواقع الأماكن المقدسة بقيت مُسَلّمة تاريخية، يتناقلونها من جيل إلى جيل. ومع الامبراطور قسطنطين وأمه القديسة هيلانة، تم تشييد بناء مستدير مقبب فوق القبر المقدس، وكاتدرائية كبيرة إلى الشرق من البناء المستدير المقبب. وأما الجلجلة فتُرِكت في الهواء الطلق. وأقيمت كاتدرائية فوق مغارة بيت لحم، وأخرى على جبل الزيتون. ومنذ ذلك الوقت، اكتظت ضفتا الأردن بالكنائس والأديرة وتكاثر النساك، في الجانب الشرقي من النهر، بالقرب من نبع وادي الخرار (سفساطة وفقا لخارطة مادبا).

 

لا يستطيع أحد أن يحدد بالضبط مكان معمودية المسيح في نهر الأردن. ولكن بالاعتماد على معطيات الإنجيل والتقليد المسيحي، نستنتج ما يلي :

1- ورد في انجيل متى (3 / 5-6) أن المسيح اعتمد على يد يوحنا المعمدان. وأكد لوقا قائلا: وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل، واعتمد من يوحنا في الأردن (لوقا 1/9). مع ذلك، تترك فضوليتنا تتضور جوعا. فمنذ الأجيال الأولى تساءل المسيحيون في أي مكان من النهر اعتمد يسوع؟ وفقا لتقليد العهد الرسولي، يوحنا عمد يسوع في الأردن، عند المكان الذي فيه يلتقي الطريق الروماني المنحدر من أورشليم بالنهر، ويصل الى مدن شرقي النهر أي إلى ليفياس، وحسبان ومادبا وربة عمون، والقرى المجاورة. ففي هذا المكان كان يوحنا يعمد. ومن هذا المكان اجتاز العبرانيون النهر إلى أريحا، بقيادة يشوع بن نون.

 

2- أن الآثار التي تم اكتشافها في هذه الأماكن، تثبت أن المسيحيين بعد حقبة الاضطهادات، إحياء لذكرى معمودية المسيح، شيدوا كنائس وأديرة في الضفة الشرقية للنهر، قُرب المخاضة حيث اعتمد يسوع. وفي الوقت الحاضر يمكن رؤية آثار ثلاث كنائس على بُعد مائة متر من النهر، وعلى مسافة كيلومتر من تل النبي إيليا. لقد لحقت الأضرار الجسيمة بالكنيسة الأولى التي أقيمت على الضفة الشرقية للنهر، من جراء الفيضانات. وفي أواخر القرن الخامس، أمر الإمبراطور أنسطازيوس الأول (491-518) بتشييد كنيسة أقيمت على قناطر، تفادياً للفيضانات. من هذه الكنيسة يستطيع المرء ان ينزل بواسطة الادراج إلى النهر للاستحمام، واخذ الماء للذكرى. ونصب هذا الامبراطور أيضا صليبا كبيرا في وسط النهر. وكشفت حفريات حديثة عن آثار هذه الكنيسة، بالإضافة إلى كنيستين أخريين تقعان إلى الشرق من النهر. وفيما بعد، تابع الإمبراطور يوستينانوس (527-565) باهتمام بالغ ترميم الكنيسة.

 

3- إن التسهيلات التي يجدها مسافرو اليوم، لم تكن معروفة في قديم الزمان. وكان الحج المسيحي يُعتَبر دائما زمنا مؤاتيا للصلاة والتوبة. فالحاج يكتشف الكتاب المقدس، بأبعاده الجغرافية والتاريخية. ويعود الحاج إلى بيته حاملاً نعمة خاصة، نعمة الأماكن المقدسة. وقد إهتم المسيحيون بشكل خاص، بالأماكن المقدسة الواقعة بالقرب من مخاضة المعمودية، تخليداً لذكرى عبور الشعب العبراني ودخوله إلى أرض الميعاد، ولذكرى معمودية المسيح، وصعود النبي إيليا في العاصفة. وترك لنا بعض الحجاج وصفا لحجهم، نورد فيما يلي بعض هذه الشهادات:

أ- في القرن الثالث، شرعت المسيحية بالاهتمام علميا بالأماكن المقدسة. اورجينوس (185-253) مُفسّر الكتاب المقدس واللاهوتي الشهير، المولود في الإسكندرية، قَدِم إلى فلسطين، ليطلع على الأماكن المقدسة، ويتابع خطوة خطوة المسيح والأنبياء. ولكنه خلط بين بلدة بيت عنيا عبر الاردن وبلدة بيت عبارا اللتين كانتا قريتين في موضعين يختلف احدهما عن الأخر. وجود أحداهما لا يعني نفي الأخرى. وقد يكون موقع بلدة بيت عبارا على الجانب الغربي من الأردن. وبمواجهتها على الجانب الشرقي للنهر، كانت تقع بيت عنيا عبر الاردن قريبا جدا من وادي الخرار.

كذلك في نهاية القرن الثالث وبداية الرابع للميلاد، لم يكتف المؤرخ الكنسي الشهير اوسابيوس القيصري (265-340) بكتابة تاريخ الكنيسة ، بل دوّن أيضا بكتابه Onomasticon اسماء أماكن الكتاب المقدس. فكتابه هذا، هو فهرس لهذه الأسماء التي رتبها بحسب الحروف الهجائية وبحسب أسفار الكتاب المقدس. ومما لا شك فيه أن مصممي خارطة مادبا الفسيفسائية كانوا مطلعين عليه ومتأثرين به جدا. ويروي اوسابيوس القيصري أن ألاسقف ملتينوس من سردينيا، كتب في القرن الثاني للميلاد يقول: توجهت إلى الشرق، وزرت الأماكن المذكورة في الكتاب المقدس. وهكذا أصبح كل شيء واضحاً لي، باكتشافي معناه الحقيقي. ويروي ايضاً انه في بداية القرن الذي عاش فيه، حالما توقفت الاضطهادات، طالب المسيحيون بأماكنهم المقدسة المرتبطة بذكرى المسيح، ولا سيما بالاماكن التي في القدس، وبيت لحم، ومخاضة الأردن حيث اعتمد يسوع. وقد اختار المؤمنون المسيحيون هذا المكان ليعتمدوا فيه. فالكثيرون من المنضمين الجدد الى المسيحية كانوا يأتون ليعتمدوا في الأردن. وكثيرون من المسيحيين كانوا يأتون ليغطسوا فيه إحياء لذكرى المسيح الذي اعتمد على يد يوحنا المعمدان في هذا المكان بالذات.

 

ب- في القرن الرابع، جاء يحج الى الاماكن المقدسة رجل مثقف من مدينة بوردو في فرنسا، لم يُفصح عن اسمه، ولكنه ترك لنا رواية الحج الذي قام به، بعنوان: الطريق من نهر الغارون إلى القدس، لاستعمال حجاج بلاد فرنسا. ولهذا الدليل الديني والسياحي قيمة لا تثمن. وقد حضر هذا الحاج تدشين كاتدرائية القبر المقدس عام 333 للميلاد، وزار مكان معمودية المسيح في مخاضة الأردن.

القديس ايرونيموس (347-420) قرر أن يعيش حياة نسكية في فلسطين. وقد ابتدأ بزيارة الأماكن المقدسة في القدس، ومواقع نهر الأردن بالقرب من أريحا. كان يؤكد في كتاباته، أن في نهاية القرن الرابع، كان الكثيرون من الحجاج يأتون لزيارة الأماكن المقدسة، من الهند، والحبشة، وايطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، واسبانيا، والبرتغال.

 

ج- وذكر الحاج ثويودوسيوس من القرن السادس وحجاج آخرون غيره، مكان معمودية المسيح، وقالوا انه على بُعد خمسة كيلومترات إلى الشمال من البحر الميت. وذكروا ايضا التلة الصغيرة الواقعة شرقي النهر، بالقرب من مكان معمودية يسوع، والتي صعد منها إيليا النبي إلى السماء في العاصفة. وذكر ثويودوسيوس ايضا الكنيسة التي شادها الإمبراطور انسطاس الأول على قناطر، تفاديا للانجرافات التي تُسببها فيضانات النهر خلال فصل الشتاء. فالفيضانات ألحقت اضرارا جسيمة بكنائس بنيت سابقا. ويذكر حجاج آخرون ايضا العامود الذي يعلوه صليب والذي كان قائما في وسط النهر.

 

كذلك قدم إلى الاماكن المقدسة حاج من مدينة بياشنسا الايطالية، عام 570 وبمعيته مجموعة من المواطنين، وترك لنا عنها بيان رحلته. لقد ابتدأ بزيارة الاماكن المقدسة في الجليل والسامرة. ثم انحدر إلى الأردن، إلى مكان معمودية المسيح. وبعدها عاد إلى اورشليم. ويقول ان مكان المعمودية يقع قبالة دير القديس يوحنا: دير القديس يوحنا كان مبنيا على صخرة بالقرب من الكنيسة الصغيرة المقامة في المكان الذي دخل منه يسوع في النهر . وكان يأتي الى المكان حجاج من الغرب ومن الشرق. فكان حجاج الشرق يأتون من الحبشة والهند وبلاد بين النهرين… الخ مرورا بمدينة مادبا. ومنذ القرن السادس كانوا يشاهدون على الخارطة الفسيفسائية سائر الأرض المقدسة، قبل أن يتوجهوا إلى جبل نبو وينحدروا نحو الأردن، لزيارة الأماكن المقدسة، في مخاضة المعمودية، في طريقهم إلى أريحا والقدس. فمنذ العصور الغابرة، أصبحت زيارة هذه الأماكن المقدسة والاعتماد في الأردن والمغطس، جزءا لا يجزأ من شعائر العبادة لدى الشعب المسيحي.

 

إن بطرس الرسول، في شخص خليفته قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، جاء حاجا للمرة الأولى في التاريخ، بمناسبة اليوبيل الكبير سنة 2000 ليزور المكان حيث التقى يسوع للمرة الأولى. وقد نضح قداسته الشعب بماء الأردن مذكرا بطقس المعمودية. وفي ختام صلاته، وجه كلامه الى الشعب الاردني مودعا وقائلا: في صلواتي سأتذكر الشعب الأردني مسيحيين ومسلمين، وبنوع خاص المرضى والمسنين، وبكل مشاعر العرفان استنزل وفير البركات على جلاله الملك وعلى جميع الأمة. ليباركم الله جميعا. ليبارك الله الأردن.

 

وفي أيامنا هذه، نحن ننتظر زيارة قداسة البابا بندكتس السادس عشر بفارغ الصبر لكي يزور مغطس السيد المسيح ويبارك الحجر الاول لكنيسة عماد يسوع المسيح، التي تتسع لحوالي الف مؤمن، ويحيط بمدخلها الرئيسي برجان يرمزان الى العهد القديم والعهد الجديد اللذين يلتقيان في هذه البقعة، وعلى يمين الكنيسة سيقام دير للرهبان وعلى شمالها دير للراهبات. وأمام الكنيسة باحة كبيرة تتسع لجماهير المؤمنين في الاحتفالات الكبرى، وخلفها ساحة تطل على النهر، للخلوة والتأمل والصلاة، ونافورة ماء في الوسط، تستخدم للعماد. ويقوم الرهبان بخدمة الحجاج الروحية ورعايتهم الرعوية والليتورجية، ذلك ان رحلات الحج المسيحي يجب ان تكون طريقا لارتداد حقيقي الى الله والتزام بالايمان والاخلاق المسيحية. قداسة البابا بندكتس السادس عشر خليفة بطرس الرسول، قائدنا في الإيمان المسيحي القويم، ودليلنا الروحي هو معنا، في طليعة المحافظين على التقليد المسيحي الذي ورثناه عن الاجيال المسيحية الاولى.