عظة البطريرك الماروني نصرالله صفير 6/4/08

 

بكركي، الأحد 6 أبريل 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي بعنوان "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"

"نواصل الكلام عن تجارب السيد المسيح الثلاث، على ما وردت في كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر، وقد سبق لنا أن تحدثنا عن التجربة الأولى، والثانية، ونتحدث اليوم عن التجربة الثالثة وهي إلقاء المسيح بنفسه عن جناح الهيكل الى أسفل ليأتي الملائكة ويحملوه على أيديهم.هكذا، هذه المسألة المتعلقة ببنية الحوار العجيب عن الكتاب المقدس بين يسوع والمجرب تقود توا الى قلب مسألة المحتوى. ما هي القضية؟ لقد ربطت التجربة بموضوع الخبز واللعب، (وهذا ما كان يطلبه الشعب الروماني): بعد الخبز، كان يجب تقديم شيء يثير المشاعر. وبما أنه لا يكفي الانسان، على ما يظهر، أن يكون شبعان ماديا، فمن أراد ألا يترك الله يدخل العالم والناس، عليه أن يقدم ما يثير هوس الناس من الاختبارات المهيجة، التي يقوم بريقها مقام التأثر الديني ويدفعه خارجا. ولكن هذا ليس معنى هذا المقطع، لأنه، على ما يبدو، ليس هناك من مشاهدين.

الرهان يبدو في جواب يسوع الذي استعاره أيضا من سفر تثنية الاشتراع القائل: "لا تجربوا الرب الهكم ". وفي تثنية الاشتراع، هذه اشارة الى تاريخ اسرائيل الذي كاد يموت عطشا في الصحراء. وعقبت ذلك ثورة على موسى التي أصبحت ثورة على الله. وفي التوراة، هذه الثورة على الله، وصفت هكذا: "لقد تحدوا الله بقولهم: "هل الرب حقا بيننا، أم لا؟". وهذا ما أشرنا اليه سابقا. على الله أن يخضع للاختبار. فهو تحت هذا الاختبار الذي تخضع له البضاعة. وعليه أن يخضع للشروط التي نعتبرها ضرورية لتوليد اليقين عندنا. واذا كان لا يمنح الآن الحماية التي يعد بها المزمور 91(09), فهو ليس الله. واذذاك فقد أفسد كلمته، في التالي أفسد ذاته. فنحن هنا أمام السؤال الكبير بكامله، وهو كيف في امكاننا أن نعرف الله، وكيف في امكان الانسان أن يكون في علاقة معه، وكيف في امكانه أن يفقده. ان الادعاء الذي يريد أن يحول الله شيئا، ويفرض عليه شروطنا المخبرية التجريبية، لا يمكنه أن يعثر على الله. لأنه يفترض أننا ننكر الله بوصفه الله، لأننا نعتبر ذاتنا أسمى منه، لأننا نضع جانبا كل ما للمحبة والأصغاء الداخلي من بعد، ولا نعترف بما هو واقعي الا ما يقع تحت الاختبار، وما وضع في أيدينا. وان من كان يفكر هذا التفكير، فهو يجعل من نفسه الله، وينحدر ليس فقط بالله، بل بالعالم، وبنفسه.

وانطلاقا من هذا المشهد على جناح الهيكل، ينفتح النظر على الصليب.ان المسيح لم يلق عن جناح الهيكل، ولم يقفز في الهاوية، ولم يضع الله تحت التجربة. لكنه نزل الى هاوية الموت، وفي ليل التخلي. فعرض ذاته كأنسان لا دفاع لديه. وتجرأ على هذه القفزة كفعل محبة الله للناس. وكان يعرف أنه لدى قفزه، لا يمكنه الا أن يقع أخيرا بين يدي الله الرفيقة. وهكذا يبدو جليا معنى المزمور 91 (90) الحقيقي، والحق بالثقة القصوى والمضيئة التي يتحدث عنها: ومن كان يعمل بارادة الله، يعرف أنه في غمرة المخاوف التي يجتازها، لن يفقد أبدا حماية أخيرة. ويعرف أن أساس العالم هو المحبة، وأنه، في التالي، حيثما كان من بشري لا يستطيع أو لا يريد أن يساعده، يمكنه أن يواصل طريقه بثقة بذاك الذي يحبه. وهذه الثقة التي يولينا اياها الكتاب المقدس، والتي يدعونا اليها الرب القائم من الموت، هي أمر مغاير تماما للتحدي المغامر الموجه الى الله، الذي يريد أن يجعل منه خادما لنا. ولنأت الآن الى التجربة الثالثة والأخيرة، وهي أبرز ما في الرواية. ان الشيطان يقود الرب بالرؤيا الى جبل عال. ويظهر له جميع ممالك الأرض، وما فيها من عظمة ويقدم له السيطرة على العالم. أفليست هذه رسالة المسيح؟ أفليس له أن يكون ملك العالم الذي يجمع الأرض جمعاء في مملكة سلام وبحبوحة كبيرة؟ وعلى مثال تجربة الخبز التي لها مرادفان فريدان في تاريخ يسوع، وهما تكثير الخبز، والعشاء السري الأخير، هكذا ما هو جار الآن.ان الرب القائم من الموت يجمع خاصته "على الجبل". ويقول اذذاك في الواقع: "لقد أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض". هنا نجد مظهرين جديدين مختلفين: للرب سلطان على السماء والأرض. ووحده من أوتي كل هذه القدرة، له القدرة الصحيحة الخلاصية. دون السماء، تبقى قوة الأرض مبهمة وسريعة العطب. والقدرة وحدها التي تقبل محك السماء وحكمها، أي من الله، في امكانها أن تصبح قدرة موجهة نحو الخير. والقدرة وحدها التي تضع ذاتها تحت بركة الله تمكن الثقة بها.

وهناك مظهر آخر ينضاف أيضا الى ذلك: ان ليسوع هذا السلطان بما أنه نهض من الموت، وهذا يعني أن هذا السلطان يفترض مسبقا الصليب، ويفترض مسبقا موت يسوع. ويفترض مسبقا الجبل الآخر، أي الجلجلة، حيث مات، معلقا على الصليب، عرضة لسخرية الناس، بعد أن تركه ذووه. ان مملكة المسيح تختلف عن ممالك الناس، وعن عظمتها التي يعرض الشيطان عليه رؤيتها. هذا المجد، على ما تعنيه اللفظة اليونانية ذوكسا،أي مظهر يتبدد. ان مملكة المسيح ليس لها هذا الوهج. وهي بفضل تواضع التبشير، تكبر في الذين يريدون أن يكونوا تلاميذها، والذين تعمدوا باسم الله المثلث الأقانيم، والذين يحافظون على وصاياه.

ونعود الى التجربة. ويصبح مضمونها الصحيح مرئيا عندما نرى أنها في التاريخ، تأخذ دائما صيغة جديدة. ان الأمبراطورية المسيحية شرعت باكرا في تحويل الايمان عاملا سياسيا لوحدة الأمبراطورية. وكان على مملكة المسيح أن تأخذ صيغة مملكة سياسية وما لها من بريق. وكان على السلطة السياسية والعسكرية أن تدعم ضعف الايمان، وضعف يسوع المسيح الأرضي. وعلى مر العصور، ان هذه التجربة -أي دعم السلطة للايمان- عادت باستمرار في أشكال مختلفة وتعرض الايمان لخطر الاختناق تحت قبضة السلطة. والكفاح من أجل حرية الكنيسة، وهو كفاح – لأن مملكة يسوع لا يمكنها أن تتماهى وأي تنظيم سياسي – يجب أن يستمر عبر القرون. ذلك أن الخلط بين الايمان والسلطة السياسية له دائما ثمن: وهو أن الايمان يضع نفسه في خدمة السلطة وأن يخضع لمقاييسها.في رواية آلام المسيح، البديل المشار اليه هنا يبدو في صيغة تحد. في قمة الدعوى، خير بيلاطس اليهود بين يسوع وبرأبا. انه سيطلق سراح أحدهما. ولكن من هو برأبا؟ نستذكر عادة ما يقوله انجيل يوحنا: "ان برأبا هذا كان لصا". وفي الوضع السياسي الذي كان سائدا في ذلك الزمن، في فلسطين، ان الكلمة اليونانية المستعملة للدلالة على لص لها معنى خاص. لقد كانت تعني "نوعا من المحاربين في سبيل المقاومة". وكان برأبا قد شارك في عصيان، وفي هذا الاطار، كان متهما بجرائم قتل. وعندما يقول متى ان برأبا كان أحد "المساجين المعروفين"، هذا يعني أنه كان أحد المقاومين المشهورين، لا بل كان القائد الحقيقي لهذه الفتنة.

وبتعبير آخر: ان برأبا كان وجها مسيحانيا. والخيار بين يسوع وبرأبا لم يكن عفويا: انهما وجهان يمتان بصلة الى المسيحانية، نوعان من المسيحانية متقابلان. وهذا يصبح أكثر وضوحا عندما نأخذ في الحسبان ان "برأبا" يعني ابن الأب. وهذه تسمية مسيحانية في امتياز، أي الاسم الديني لأحد قادة الحركة المسيحانية المعروفين. وآخر حرب مسيحانية كبرى خاضها اليهود كانت سنة 132 بقيادة ابن كوكبا، ابن النجم. والاسم صيغ على الطريقة عينها، وكان له الصدى عينه.انا نجد لدى أوريجانوس تفصيلا آخر مهما: في مخطوطات انجيلية كثيرة، ترقى حتى القرن الثالث، كان يسمى الرجل المعني: "يسوع برأبا" أي يسوع ابن الأب. وكان يقدم نفسه كيسوع آخر يدعي نفس الادعاء، انما بطريقة مختلفة كل الاختلاف. فالخيار اذن هو بين مسيح على رأس معركة تعد بالحرية وبمملكة له خاصة، وهذا اليسوع العجيب الذي ينادي باهلاك الذات لايجاد طريق الحياة. وهل من عجب اذا كانت الجماهير فضلت برأبا؟.
اذا كان علينا اليوم أن نختار يسوع الناصرة، ابن مريم، وابن الآب، فهل يكون له حظ؟ ولكن هل نعرف جيدا يسوع؟ وهل نتفهمه؟ أفليس علينا أن نبحث عنه لنعرفه معرفة جديدة كل الجدة البارحة كاليوم؟ ان المجرب لن تكون له الوقاحة لكي يحملنا مباشرة على عبادة الشيطان. فهو يدفعنا فقط الى اختيار ما هو عقلي فقط، والى تفضيل عالم مبرمج ومنظم، حيث يكون لله مكانه بوصفه مسألة خاصة، دون أن يكون له حق في التدخل في شؤوننا الأساسية. ان سولوفياف، الكاتب الروسي المعروف، ينسب الى المسيح الدجال كتابا اسمه: الطريق العام الى سلام العالم ورفاهه، وهو كتاب أصبح، اذا جاز التعبير، الكتاب المقدس الجديد الذي يقتصر محتواه الحقيقي على عبادة الرفاه والتخطيط المعقول.

ان التعرف الى وجه يسوع من خلال ما تقوله عنه الأناجيل الأربعة هو من أوجب واجبات المؤمن المسيحي. والتعرف الى المسيح يجب أن يقود الى ممارسة الفضائل التي ينادي بها، ومجانبة الرذائل التي ينهى عنها. وهذا هو الطريق الذي يجب سلوكه. والاعتصام بالايمان بالله من شأنه أن يخفف من وطأة الضائقة التي تشد على خناق المواطنين, فيتراحمون، ويساعد بعضهم بعضا لاجتياز هذه المرحلة القاسية من تاريخ وطننا.
وقد علمنا أن الدولة عازمة بالاتفاق مع منظمتي الصحة العالمية واليونيسف على تلقيح الأولاد من سن تسعة أشهر حتى سن الرابعة عشرة ضد الحصبة، فعلى جميع المعنيين تلبية هذا النداء محافظة منهم على صحة أبنائهم وسلامتهم".