الـمـزمور الــثـامن: عظمة الخالق وكرامة الإنسان

نشيد حمد لله الخالق يمكن أن نعتبره تفسيراً شعريّاً لقصة الخلق الموجودة بالتفصيل في الفصلين الأولين من سفر التكوين. إنه قصيدة تأمل وتسبيح يرفعها المؤمن إلى الله الذي خلقه كإنسان واختاره وأعطاه مكانة رفيعة لا ترتقي إليها أية خليقة أخرى، لقد جعله وكيلاً له على الخلائق كلها. يذكرنا في روعته وفلسفته بنشيد مريم ابنة الناصرة العذراء الضعيفة " تعظم نفسي الرب" إنه نشيد للربّ الذي يختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، والذين ليسوا شيئًا ليخزي المعتدّين بأنفسهم (1 كور 1: 26- 27).

يمكن تقسيم المزمور كالتالي

1 – مقدّمة: انبهار وتمجيد لعظمة الرب في كل الأرض.

2 – وصف لقدرة الله وعظمته. (3- 5)

3 – سلطة الإنسان على الكون تأتيه من سلطة الله. (6- 9)

1 –  أيها الرب سيدنا ما أعظم اسمك على جميع الأرض  :

في مفهوم جديد على اليهود لكنه ليس جديد تماما، يتجلى إله إسرائيل ويبسط مجده لا على شعبه فقط بل على جميع شعوب الأرض… فهم من جهة يرون أن الرب هو إلههم الخاص بهم وحدهم دون باقي شعوب الأرض، ومن جهة أخرى يرون أن  عظمة هذا الإله وسلطانه يمتدان على كل الشعوب وتخضعانها لسيطرته.لا الشعوب والأمم فحسب بل الطبيعة كلها تمجّده، وهي تبدو كجوقة تقدم نشيد حمد متناغم . وهذه الجوقة الموسيقية قائدها والمايسترو فيها هو الإنسان أقوى وأضعف المخلوقات لكنه أكثرها قرباً إلى الله.

2 – وقد جعلت جلالك فوق السماوات   :

 في إحدى الليالي الصافية المقمرة يتطلّع المرنّم إلى السماء، يظهر له هدوؤها وجمالُها فيعود بفكره إلى الكتاب المقدس، وبالتحديد سفر التكوين، فيتيقن أن الله صنع هذه السماء وكل ما فيها من قمر ونجوم، فيشعر أنها تكاد تنشد معه على قيثارته الحنون نشيد عظمة الله وقدرته وجماله. إنه يتعالى ويتعظم ويتسامى على كل الخلائق الأرضية والسمائية في جلال سرمدي، فجلال الله ومجده لا يقتصران على التجلي لشعبه إسرائيل وإعلان سلطانه على جميع الأرض، لكن جلاله يمتد إلى السموات وما فوق السماوات. وهكذا يلذ للمرنم أن يتغنى بقوة الله وعظمته لا في حياته الشخصية فحسب أو في تاريخ شعب إسرائيل وحده أو الشعوب الأخرى التي أسلمها بين أيدهم وطردها من وجههم، بل على الأرض كلها وفي السماء أيضاً وهى مسكن العلى كما يعرفها المرنم، لكن مجد الله يفوق حتى مسكنه السماوي ويمتد لما فوق السماوات.

3 – بأفواه الأطفال والرضع أخرجت سبحاً أمام خصومك لتقضي على العدو والمنتقم: 

v  بأفواه الأطفال والرضع أخرجت سبحاً

وتقول ترجمة أخرى:"استخرجت أكملَ مديح لك" أو "أسّست مديحًا لك" "ثبَّتت قوّتك" وأخرى "أعددت لك حصناً". وكلها تعنى أعطيت برهانًا ساطعًا عن قدرتك. وحللت ألسنة الأطفال المتمتمة لتنشد مدائحك. والسؤال هنا هو كيف يستطيع الأطفال أن ينشدوا لله نشيدًا أفضل من نشيد الكبار؟. ألم يقل يسوع: "أخفيت هذه عن الحكماء وأظهرتها للأطفال"(مت 11: 25).

لكل ملك رجاله وأسلوبه وأدواته في فرض سلطانه وتسجيل أعماله وقدراته: فمن استخدام القوة والجيوش في الغزو والفتح، إلى استخدام البطش أو العدل في الحكم، إلى دعم الاستقرار والتشييد لتحقيق الرخاء والبناء إلخ…  لكن أسلوب الله يختلف عن ذلك كله بل هو فريد: إنه لا يلجأ إلى الجبروت، ولا تلذ له قوة الخيل، ولا تطربه قرقعة المركبات الحربية وعجيجها ، ولا يسر بقوة سيقان الرجال وصلابتهم في القتال… إلخ  

فطرق الله غير طرق البشر وأفكاره ليست كأفكارهم لذا فإعلان مجده يخالف كل أساليب البشر:

* مجده تنطقه أفوه الأطفال البسطاء الأنقياء، التي لا تعرف غشاً ولم تنطق بالكبرياء،

*  مجده تقدمه ألسنة متلعثمة، غير محنكة، غارقة في البساطة والطهارة والصفاء والنقاء،

* مجده تعلنه أفواه الضعفاء المهمشين الذين يحتقرهم عالم القوة ولا يحسبهم في تعداده…

v أمام خصومك لتقضي على العدو والمنتقم

هذا هو جيش الرب الذي لا يقهر ولا يهزم، هؤلاء الضعفاء إذن هم جنود جيش الرب المجيد الذين سيقهر بهم الأعداء، إنه الجيش الذي سيسود وينتصر إنه جيش ذلك الطفل الرضيع الوديع الذي سيسحق رأس الحية ويقضي على لعدو والمنتقم (الشيطان).وتتحقق هذه النبوة في العهد الجديد ويستخدمها يسوع نفسه في دخوله أورشليم في احد الشعانين من أفواه الأطفال والرضّع هيّأتَ لك مديحًا" (مت 21: 16).وخلال حياته كلها على الأرض نرى الرب يسوع يؤكد على الطفولة الروحية كأسلوب أمثل  في التعامل مع الله والاقتراب من الآب.وينتهي بأن يجعل من هذه البساطة البنوية  شرطاً أساسياً للدخول إلى ملكوته " إن لم تعودوا وترجعوا مثل الأطفال الصغار فلن تدخلوا ملكوت السماوات"."

4 – إني أرى السماوات عمل أصابعك القمر والكواكب التي كونتها:

يـــطور الــمرنم تسبـيحه وترتيله متأملا في عظمة الله وقدرته اللامتناهية فماذا يرى:

v أرى السموات:

ويذكرها في صيغة الجمع الشامل وهي عادة ما تشير إلى العلو والسمو والارتفاع والعظمة حيث الكواكب والنجوم وسكنى ما تعتبره باقي الشعوب أساطين وآلهة.

v  عمل أصابعك:

كل هذه العظمة والجلال بما تحوي من كواكب ونجوم  وأيضاً من آلهة زائفة خادعات، ليست سوى عمل بسيط من نتاج أصابع الرب الخالق، كما لو كان هذا الفخراني الأعظم يلمس الطين بأصابع يديه البارعتين فيحوله إلى كواكب ونجوم. 

v  القمر والكواكب التي كونتها:

القمر والكواكب والنجوم، كل هذا البهاء والعظمة والروعة والجمال ليس سوي مجموعة من الخلائق البسيطة كونتها وبسطتها ومدتها وتطويها كرداء أصابع ذاك الخالق الجبار. تلك الكائنات البهية التي يتعبد لها من لا يعرفون الله كآلهة، ويربط البشر احياتهم وأقدارهم ومصائرهم، ليست سوى مخلوقات الله وهو بإصبع واحد يديرها ويحدد مساراتها. كم هو جبار إذن إله إسرائيل، رب السماوات والأرض ومبدع الكون العظيم. يشكل النجوم والكواكب بأصابعه المجيدة، ويخلق السماوات العظام ليسكنها.

5 –  ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتى تفتقده

v  ما الإنسان

من أجمل آيات الترنم والمزامير على الإطلاق وتستحق أن نتوقف أمامها طويلا لواقعيتها الشديدة وعمق معانيها وحلاوة استنتاجاتها الرهيبة…فكلما تعمق المرنم في التأمل في سفر التكوين وفي السماء المنبسطة أمامه، وتعرف على الرب خالقها ومسيرها بما سبق وصفه به من الاقتدار والعظمة، تذكر ضعفه كإنسان وخطاياه الشخصية وآثام الإنسانية وحقارتها، وتساءل متحيراً في أمره لماذا؟

– لماذا يرفع الله الإنسان ويكرمه؟

– لماذا فضله فسلطه على باقي الخلائق العظيمة؟

– لماذا يهتمّ بمخلوق ضعيف فيجعله شبيهًا به، يحمل صورته ومثاله ،

– لماذا يفكر في خليقة ضعيفة واهية تافهة لا تذكر؟

– لماذا أحبه فصاحبه وصادقه وكلمه؟

ويمضي في داود التساؤل فيصل إلى المقارنة ليكتشف محدوديته الشخصية ومحدودية الإنسان مقارنة بباقي الخلائق فهو محدود في كل شيءً:

الجمال: ما جمال الإنسان إذا ما قيس بزرقة السماء أو بهاء الملائكة أو حتى جمال زهرة،

في العلو: ما علو الإنسان إذا ما قيس بسمو النجوم أو حتى بعلو الجبال والأشجار

 القوة: ما قوة الإنسان إذا ما قيست بقوة العاصفة أو الزلزال أو حتى الثور،

العمر: ما عمر الإنسان إذا ما قيس بعمر الأرض أو حتى السلحفاة

 السرعة: ما سرعة الإنسان إذا ما قيست بسرعة الزمن والصوت والضوء أو حتى الفهد،

القدرة: ما قدرة الإنسان إذا ما قيست بقدرة الشمس أو البحر أو حتى الذرة.

إلى جانب كل هذا كله فالإنسان خاطيء، كافر بنعمة خالقه، مستعبد لشهواته، متكبر، ناكر للجميل، قاتل سارق سفاح مسارع إلى الحرب وسفك الدماء مخادع سافل زان طماع…

ولكن داود لا يتوقّف عند هذه النظرة الدونية البائسة، بل يتعدّاها ليبيّن إعجابه بما صنعه الله للإنسان فالمرتّل يحسّ بصورة خاصّة بوجود الله في حياته وحياة شعبه لذلك يتغنى بمراحمه فهو يشعر بذاته كإنسان أنه : –

–   ذلك الكائن المحدود، ولكن مكانته لا محدودة في عيني الله.

–   ذلك الملتصق بالأرض (موطئ قدَمَيْ الرب) وهو محور اهتمام عرش السماء.

–   هذا الإنسان الضائع والمنسيّ في الكون، الثمين في عيني الرب يهتمّ به ويحبه ويرعاه.

–  كل إنسان شخصياً كأنه كائن وحيد وفريد ومحدّد، وليس فقط الإنسان بالعموم.

v ابن البشر:

أو " ابن الإنسان" وهو هنا علامة وتعبير عن الوضاعة والحقارة والضعف… فابن البشر ليس من مصاف الآلهة ولا يرتقى إلى مستوى الملائكة ولا حتى إلى الدرجة التي تدعو الله أن يذكره… لكن  نتوقف أمام هذا اللقب نحن أبناء العهد الجديد حيث اتخذه وتبناه الرب يسوع في التحدث عن نفسه وكان يفضله عن غيره من الألقاب مما يجعلنا نغير فكرنا، فالرب يستخدمه علامة على افتقاده لشعبه.

v  تفتقده:

وكلمة افتقاد في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مقتصرة على الله وحده ولا تستخدم لغير اسمه القدوس وهي هنا تعبر عن:

تواضعه: الذي جعله يترك بهاء السماوات ويتجسد على الأرض.

تجرده: الذي جعله يخلع مجد لاهوته ليلبس رداء بشريتنا الحقير. 

محبته: التي جعلته يتنازل عن جبروت قوته فيصلب ويموت لخلاص خليقته الضعيفة.

6 – أنقصته قليلا عن الملائكة وبالمجد والكرامة كللته:

" دون الإلهه حططته" في بعض الترجمات …يستمر المرنم في التعجب من محبة الله الخالق لهذه الخليقة البائسة التي خلقها من التراب والطين وجعل فيها نسمة الحياة بنفخة منه،" وجبل الرب الإله الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في انفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حية" ( تك: 2: 7)، إنه هكذا يحبه حتى ليذكر التقليد أنه أمر الملائكة تلك الأرواح النقية أن تسجد أمام آدم لا لأنه أعظم من الملائكة فإننا أقل قليلاً.

v  وبالمجد والكرامة كللته:

لكن الإنسان هو مجد الله على الأرض وهو اختاره وكلله على الخلائق ملكاً، "وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلط على أسماك البحر وطيور السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض  والحيوانات التي تدب على الأرض" ( تك 1: 26 – 27) وباركهم وقال لهم: " انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا…" (تك 1: 28) فسلطان الإنسان إكليل معطى له من الله ولا ينازعه فيه أي كائن آخر.

7 – سلّطته على جميع أعمال يديك:

في تأملنا في هذا المزمور الرائع يمكن أن نتوقف أمام مستويات ثلاث خلقها الله للإنسان وفي خدمته يتمد إليها سلطانه… فحيث أن الكون كله من خلق الله وإبداعه وعمل يديه وقد سلطّ عليه الإنسان. فإنه إن كان سلطان الإنسان لا يمتد إلى الملائكة فإنه يمتد إلى جميع أعمال الله وخلائقه :

1- المستوى الأول: السماوات بما فيها من نجوم وكواكب

(سلطان التكنولوجيا وغزو الفضاء وسكنى كواكب أخرى)

2- المستوى الثاني: الأرض وكلّ ما فيها من كائنات أليفة ومتوحشة

3- المستوى الثالث: الإنسان نفسه وهو مجد الله على الأرض.

v  أخضعت كل شيء تحت قدميه

نعرف معنى الخضوع والإخضاع  فقد وهب الله للإنسان الأرض وما عليها: الغنم والبقر ووحوش البر وطير السماء وسمك البحر، كل هذا خلقه الله وسلّمه إلى الإنسان حتى يتسلّط عليه باسمه. وبهذا الدور الكهنوتي " سلطان التقديس" يقوم الإنسان بإشراك الطبيعة في تمجيد الله وهو ما يصوره النبي في مزامير عديدة: السماء تذيع مجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. والمعني المقصود من هذه الرسالة هو أنه إذا كان الله خلق كل شيء فلم يعد من وجود لآلهة في السماء ولا على الأرض ولا في المياه. فهذه دعوة لعبّادَها من الشعوب الوثنية إلى أن يخضعوا لله الواحد ويمجّدوه.ويتركوا الخلائق التي لا تصد ولا ترد ولها عيون ولا تبصر…. فالإنسان ابن آدم وخليقة الله الأولى

أعظم منها.

8- الغنم والبقر وبهائم الصحراء أيضاً:

اسـتـكـمـالاً لجميع أعمال الله الــــعظيمة يسرد أنواعاً في غاية البساطة كالغنم والبقر  والحيوانات الأليفة وأيضا الوحوش والحيوانات المفترسة (حيوانات السيرك )…  يرى المرنم أن الــهه مـــصدر راحـــته وقـــوته عــــونه لم يتركه محتاجاً إلى شيْ  بل وضع كل الخلائق في خدمته وتحت سلطانه " وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض وكل الدبابات الدابة على الأرض" (تك 1: 26) .

9- وطير السماء وسمك البحر السالك في البحار:

يستكمل تعداد الخلائق التي يمتد إليها سلطان الإنسان حتى داخل مساراتها كالطير في السماء والسمك في البحار … لا تقتصر سلطة هذا المخلوق على دبابات الأرض بل تمتد إلى مسارات الأسماك  في السابحة البحار والطير السائر في السماء.

10- أيها الرب إلهنا ما أعظم اسمك في كل الأرض:

حيث قد صنعت كل هذه الأشياء العظيمة، وتسيرها بنواميس رهيبة

وحيث قد أخضعتها وسلمت الإنسان مفاتيح التسلط عليها والتحكم فيها، فأنت عظيم أعظم اسمك في حياتي، امجد اسمك في وسط شعبك، واسبحك أمام شعوب الأرض.

 كيف عاش الرب يسوع  المسيح هذا المزمور؟

يفسّر آباء الكنيسة هذا المزمور بطريقة مسيحانيّة فجعلوا كلماته تطابق حياة المسيح وكلامه.

–   يطبّق يسوع هذا المزمور على ذاته بصورة خاصة في العهد الجديد عندما يقول: "من أفواه الأطفال والرضّع أخرجتَ كلام الحمد"(مت 21: 15). وترد هذه الآية 8 في 1 كور 15: 27 وأف 1: 22 وعب 6: 9 مشدّدة على أن الله جعل كل شيء خاضعًا للإنسان، وخاصة للإنسان يسوع آدم الثاني، ورأس البشرية المفتداة، الذي تخضع له كل رئاسة وسلطان.

–   إن الطوباوي داود الذي امتلأ من روح النبوءة يتكلّم في هذا المزمور مسبقًا عن تجسّد الربّ. قال عن المسيح أشياء تحقّقت فيما بعده، فردّه على اليهود الذين طالبوه بإسكات أطفال أورشليم الذين استقبلوه بأغصان السعف والزيتون مهللين " هوشعنا ابن داود"قائلاً لهم إلا يقول المزمور "من أفواه الأطفال والرضّع هيّأتَ لك مديحًا". من الأكيد أن هذه الكلمة هي جزء مما يتحقّق في حياة الربّ (مت 21: 15- 16). وهكذا شهدت الوقائع للنبوءة وللربّ المتنبَّأ عنه.

–   هذا النشيد النبويّ يكشف فرقًا شاسعًا بين الله الكلمة الأزلي المولود والإنسان المخلوق من التراب (ليحلّ فيه الابن). وهذا الفرق يجعل بين الواحد والآخر تمييزًا مهماً كالذي يفصل الله عن سائر البشر، فإذا تكلّمنا عن الفرق بين الإنسان المأخوذ والله الكلمة. والمسافة التي تفصل بينهما نرى كم هي كبيرة كتلك التي تفصل الإنسان عن الله. ونتقبلها كاختلاف في الطبيعة لا كتباين في الكرامة، لأن عنوان الكرامة المعطاة في حالة الإنسان المأخوذ تتجاوز كل خليقة. وسببُ هذه الكرامة للإنسان المتّحد بالله يعود إلى الاتّحاد الشخصيّ مع الله

كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحيين:

يهدف الملك داود في هذا المزمور أن يعلّمنا ويثقّفنا من أجل ممارسة الحكمة الحقيقيّة. وهكذا لا يختلف إثنان على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

–   عندما ينشد المسيحي هذا المزمور يشارك داوود في الترنم بمجد الخالق العظيم.ويقرأ أعماله لا في الكتاب المقدس وحياة الرب يسوع وأعمال الله في حياته فحسب، بل يتخذون الطبيعة موضوعاً لتأملهم يطالعون من خلالها البرهان العملي والعلمي على عظمة الرب وقدرته، فيزدادون تقوى وخشوعاً.

–   عندما ينشد المؤمنون هذا المزمور يتذكرون عظم دعوتهم ومدى محبة الله لهم لدرجة أن بذل ابنه الوحيد فداء عنهم ليصالحهم لنفسه شعباً مبرراً.

–   يشدّد المزمور على عظمة الإنسان القريب من الله فقال إنّ لا وسيط بين الله والكون  الإنسان، والإنسان وحده (وكل ما تبقّى هو خليقة تشارك الإنسان في تمجيد الله).

–    الله هو من رفع الإنسان إلى هذا المستوى، فأصعد الإنسان إلى حدود اللاهوت، ولكنه منعه من أن يتجاوز الحدود (خطيئة الإنسان الأولى تكمن في أنه أراد أن يصير بقوّته شبيهّا بالله، تك 2- 3).

–   أما هذا "القليل" الذي يذكره المرتّل، فهو لا يعني انتقاصًا للإنسان، بل تشديدًا على عظمة من صار شبيهًا بالله، لا بباقي الخلائق.

–   كلّلته بالمجد والكرامة. والمجد والكرامة هما عادة من صفات الله أو أقله من صفات الملك (96: 6؛ 104: 1؛ 111: 4). الرب يعامل الإنسان كملك على الأرض ووكيل، يعمل باسمه ويتسلّط على الكون بسلطته.

–    لم ينسَ المرتّل سقطة الإنسان، ولكنه يعرف أن هذه الخطيئة لم تشكّل أي خطر على مخطّط الله ولا على مصير الإنسان والخليقة.

–   كذلك يتذكرون وحدتهم بالمسيح، أخوهم البكر (روم 8: 29)، ويعرفون أن كل شيء لهم، وأنهم للمسيح، وأن المسيح لله. وبهذه الطريقة، ترجع الخليقة إلى خالقها عبر الإنسان في فعل حمد ونشيد شكر وسجود.

–   الإنسان سرّ الله ومشروعُه الدائم وانتظارُه الأبدي. وقد خلقه لأنه أحبّه حبًا خاصًا، ورفعه إلى هذه الكرامة رغم أنه عالم بضعفه. لا شيء فوق الإنسان، أمّا الإنسان فكل شيء يخضع له.

 

دعني يا رب أباركك في حياتي مع داود نبيك وكل خلائقك الجميلة آمــــــــــين

 

الأب بولس جرس