كمعلمين: ما هو النجاح الذي نُريده ؟

ما هي العلاقات بين النجاح وروح الإنجيل ؟

كيف يقاص التأثير على تلاميذنا في رسالتنا ؟

لماذا نقول أنّه لا بد من الصليب ؟

 هل الرسول الحقيقي هو الذي يردّ على كل الأسئلة ؟

– ما هي الشروط المهمّة التي لابدّ منها للتأثير على حياة التلاميذ ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة:

 

إننا نعيش اليوم في عالم يبحث عن النجاح السريع, وبأي وسيلة.

كيف "نُبشّر" بالإنجيل في هذا العالم الذي يرفض ما لا يُناسبه, وما لا يؤمّن النجاح الذي نُريده؟

عندما نبدأ عملنا في إطار مدارسنا أو مراكزنا, نصطدم بهذه الصعوبة, ونكتشف أننا نحن أيضًا غير غرباء عن البحث عن النجاح, ونجد أنفسنا في صراع بين النجاح الظاهر والمُغري, وبين نداء المسيح إلى العطاء دون مقابل… إننا نريد نجاحًا يُقاس بالأرقام, بما يُعطي لنا نوعا من الشُهرة أو على الأقلّ التقدير من قِبل المسئولين والأهل.

هذا سليم ولا نرفضه, ولكن!!! علينا أن نتساءل:

ما هو النجاح الذي نريده؟

 

يقودنا هذا السؤال إلى سؤال لأعمق وهو:

 

1) ما هي العلاقة بين النجاح وروح الإنجيل؟

إن ما نراه في عالم اليوم, وخاصة في عالم التكنولوجيا الحديثة, هو السعي وراء النجاح المرتبط بالمال والإعلام والمركز الاجتماعي.

فعندما نقوم بأعمال رعوية: (اجتماعات شباب, مؤتمرات, تربية دينية, نشاط تكويني… إلخ, يسألنا الناس:

       ما هو عدد المشتركين؟

       ما هي نسبة النجاح؟

       ما هو دليل هذا النجاح؟

فكلمة نجاح لها معنى مزدوج: المعنى السائد هو النجاح المرتبط برضا الناس, أمّا المعنى الإنجيلي يُمكننا أن نقول أنه "يُقاس" بتأثير الرسالة في حياة الناس.

ولكن كيف يُقاس هذا التأثير؟  

إن رجعنا إلى رسالة المسيح ذاته, يُمكننا إن نقول إنه نجح بالرغم من قلة عدد الذين تبعوه حتّى الصليب. ولكن شخصيته وحياته وأعماله كان لها تأثير عميق على معاصريه, وحتى إلى يومنا هذا بعد ألفي سنة. فما زال الكتاب المقدس أكثر كتاب يُباع في العالم.

اليوم كالأمس, يثير يسوع الدهشة والإعجاب, و أيضًا الصراع والرفض… لماذا ؟

 

2) الإنجيل وتأثيره على الإنسان

علينا أن لا نُقارن المسيح بالإعلاميين (مثلاً الصحفيين). يسوع لا يتكلم عن الحدث بل إنّه يصنع الحدث. تشهد حياته كلها عن حب الله اللامتناهي في عالم يسوده الشرّ. اختبر يسوع قوّة الشرّ في العالم وحاربه فالإنجيل هو الانتصار على الشرّ.

ونحن اليوم على خُطى المسيح والتلاميذ: علينا ألاّ نُردّد كلام بعيد عن الواقع بل أن نسمع صراخ هذا العالم و خاصةً المنبوذين والمتألمين

السؤال هو: كيف تكون الرسالة مؤثّرة على السامعين؟

كيف أدخل في الصراع بين العبودية والحريةبين الموت والحياة الحقيقية؟ فالنجاح في المفهوم المسيحي هو التأثير على هذا الواقع للانتصار على الشرّ.

 

3) النجاح في نظر المسيحي

لا نخاف أن نتكلم عن النجاح, ولا نؤّدب ضميرنا عندما نبحث عنه. النجاح الذي تريده نحن كمسيحيين هو:

– الثقة التامّة بالآب (والإنسان!)

– التأثير على الآلام والصعوبات

– الصليب

عمل يسوع معجزات كثيرة ولكن ليس هذا دليل على نجاحه, بل إن "نجاح" المسيح هو ثمرة ثقته بالآب.

"أنا أعرِفُ أنَّكَ تَستَجيبُ لي في كُلِّ حينٍ. ولكنِّي أقولُ هذا مِنْ أجلِ هَؤُلاءِ النـاسِ حَولي، حتى يُؤمِنوا أنَّكَ أنتَ أرسَلتَني" (يو: 11, 42)

 وهناك أيضًا سبب آخر لنجاح يسوع, أنّه يمسّ مباشرة بؤس الشعب. إنّه يذهب إلى مكان الألم والشرّ.

نراه يكشف الشياطين بطريقة جذرية وواقعية. يشفي, يفتح العيون, يُندّد بالظلم والعبودية…

وأخيرًا النجاح في المسيحية هو "روح قبول الصليب". لا يوجد نجاح إلاّ عن طريق الصليب, صليب داخلي, صليب الفشل ورفض الآخرين, صليب خيانة الأصدقاء, صليب الظلم والحروب…

لماذا نقول إنّه لا بدّ من الصليب؟

يُميت الصليب فينا الأنانية ويُظهر قوّة الله أكثر من المعجزات. هذا ما فهم قائد المئة أمام الصليب عندما قال: "حقًّا كان هذا الرجل هو ابن الله!" (لو: 23, 47)

قال أحد الإعلاميين: " إن السياسة مريضة من كثرة الكلام… جمل رنّانة… خُطب طويلة تبحث عن المظاهر وتفقد المضمون". هكذا في رسالتنا عندما نطلب ظهور اﻟ "أنا"  ولا يكون هدفنا نمو إيمان الآخر, بل "نجاحي أنا". لذلك نقول إن الصليب مهمّ, لأنّه يجعلنا نتخلّى عن حبّنا الأناني لذواتنا. هذا ما فهمه القدّيس بولس بعد خطابه الفاشل في أثينا فاختار في كورنتس أن "لا يعرف إلاّ يسوع المصلوب" (ارجع إلى 1 كور: 2,2).

إن الفرق بيننا و يسوع هو أننا نبحث دائما عن النجاح والمجد الشخصي, هذا ما يجعل الصليب ضروري كالنور… على كل تلميذ للمسيح أن يضع نفسه في اختبار الصليب ويتدرب عليه حتى يتخلى عمّا يُبعده عن المسيح.  

في هذه الثقافة التي تبحث عن النجاح الظاهر, علينا أن نعيش ما قاله القديس بولس: "إنّي أفتخر بضعفي…لأنّه عندما أكون ضعيفًا… أنا قوي" (2 كور 12 , 10)

تظهر قوّة الله عندما يموت البحث عن اﻟ "أنا". لا نقول أنّه يجب أن نبحث عن الضعف والصعوبات والفشل: إنّها تأتي حتمًا.

لذلك فمن المهمّ أن يكون عملنا التربوي متأصلاً في هذا الموقف المزدوج: النجاح – والبُعد عنه,

العلاقات – والوحدة. هكذا عاش المسيح في حياته العلنية. فمثلاً يُطعم الجموع, ثمّ يذهب إلى الجبل ليصلي (يو 6: 1 – 5) فالصلاة ترجعنا إلى ذواتنا و خاصةً إلى الله.

 

4) البحث عن النجاح

إن كنت مسئولاً عن رسالة معيّنة, ولم نقبل النقد ونظرة الآخرين المؤلمة في بعض الأحيان… ابحث عن عمل لآخر… فالذي يريد العمل في مجال "رسالة المسيح" عليه أن يبحث عن النجاح الذي هو التأثير الإيجابي في واقع الحياة وهذا يأتي كما سبق قلنا من الثقة التامّة بالله وقبول الصليب والعمل للانتصار على الشرّ في جميع أنواعه.

 

ليس الرسول الحقيقي مَن يرُدّ على الأسئلة بل مَن يسمع ويشارك في أسئلة الأطفال والشباب الذين يعانون من "فقدان الذات"… لماذا؟  

 

إن من الأسباب الأساسية لفقدان الذات هي لغة العنف المستخدمة في تاريخنا السوداني ومجتمعاتنا التقليدية ووسائل الإعلام (مثل الأفلام التي يشاهدها هؤلاء الأطفال والشباب !) تعطينا هذه الوسائل الإعلامية صورًا وموسيقى مؤثّرة أكثر مما تُقدّم لنا موضوعًا متمسّكًا فيفقد الشباب والكبار معنى الحياة ويبحث كلّ منهم عمّا يُثير مشاعره.

من أسباب فقدان الذات أيضًا "المجتمع الاستهلاكي" فالشاب يريد وبأي وسيلة وبسرعة الوصول إلى تقليد "النمط" السائد. ففي هذا المجتمع الاستهلاكي الذي يرى أن المال هو أهمّ شيء, يفقد معنى الحياة الروحية التي لا تُشترى بالمال.

نقرأ في إنجيل متى : "الويل للذي يكون حجر عثرة" (مت 18: 7)  واليوم يمكننا أن نقول أن "حجر العثرة" هو "الجو الإعلامي" الذي يقود الإنسان إلى كل ما هو ظاهر ومُلفت للنظر: فيعيش الشباب في مجتمع يدفعه إن يُقلّد الآخرين في كل شيء (مثل اللبس والكماليات والسلوكيات!) فالأفلام والإعلانات التليفزيونية تُغطّي صوت الله في داخلنا الذي يُشبه صوت "نسيم لطيف" (1 مل 19: 12)

في هذا العالم الذي ينظر إلى الإنسان أوّلاﹰ من جهة "ممتلكاته" و"منصبه الاجتماعي" يصبح الكثيرون مهمّشين ومرفوضين من المجتمع فالفروق الموجودة بين الأغنياء والفقراء تكبر, والشباب يجد ذاته أمام مستقبل غامض ومخيف,

ما هو معنى الحياة في هذا المجتمع الجديد؟

ما هو دورنا؟ هل وجودنا في هذا العالم له أهمّية ولو صغيرة؟ 

 

5) البشرى السارة

نرى أحيانًا في كنائسنا وفي صالات نشاطاتنا صورًا ولافتات تقول: "يسوع يُخلّص" و"الله محبة" و"يسوع يُناديك"… هذا التعبير صحيح ولكن… هل هذه هي البشرى السارة؟ هل ستؤثّر هذه الطريقة على حياة الناس؟ كيف سنُعلن البشارة؟ ماذا نفعل وماذا نقول؟

بعض الشروط المهمّة التي لا بد منها للتأثير على حياة تلاميذنا:

أ – علينا أولاﹰ أن نشعر بصعوبات وآلام الأطفال والشباب

لا فائدة من إعطاء ردود جاهزة ومحفوظة على أسئلة الأطفال والشباب. تتطلّب البشارة حسب الإنجيل من الرسول أن يشعر هو أوّلاﹰ بتساؤلاتهم واحتياجاتهم وأن يثور على ما يحتاج إلى تغيير في المجتمع الذي يعيش فيه.

من المهمّ أن يختبر الرسول تجارب العالم وآلام الفشل كما عاشها المسيح. فلا يمكن أن يتكلم عن المسيح ورسالته كما نتكلم عن العلوم والتكنولوجيا. يكشف الرسول الحقيقي عن ذاته دون خوف ودون تردّد.

ب – علينا أن نُظهر محبة الله في حياتنا وحياتهم

كل حياتنا وكل تصرفاتنا وكل علاقاتنا هي "رسالة" (حتى إذا كنا نحن غير كاملين وخطاة !). إنّها نخلق جوًا من السلام أو من التوتّر, تولّد الرجاء أو الخوف… فثمار الإيمان تنبع من أعمالنا الصغيرة مثل الكبيرة. المطلوب منّا ليس عمل معجزات خارقة للطبيعة بل "معجزات" المحبة التي تنتصر على كلّ أنواع الشرّ, لأّنها تتّكل على قوّة الله.

لا تكتفي الرسالة بالكلام ولكن بأعمال الرحمة. فإن اكتفينا بترديد التعبيرات مثل: "يسوع يحبك" أو"أنتا ابن الله" أو "يسوع مخلّصك" أو"اتّكل على الله"… الخ… دون أن تشعر معهم بصعوبات وتساؤلات حياتهم فلا يفيد شيئًا.

ب – علينا أن نعيش معهم خبرة الخلاص

إن الإنجيل هو  خبرة عهد جديد – مع الله –  مع الذات – ومع الآخر.

تُعاش  خبرة العهد عندما يشعر الإنسان:

       أنّه محبوب مهما كانت الظروف

       بالحريّة البنّاءة وسط جماعة تحترم الفروقات والاختلافات

       أن هناك رباطًا أهمّ وأعمق من رباط الدم, والمال, والمركز الاجتماعي

       أن هذه الجماعة مبنية ليس فقط على علم النفس أو علم الاجتماع بل على نداء من الله الآب واحترام كل إنسان في دعوته الخاصّة.

فالإنسان الذي يختبر هذا  العهد وسط جماعة منفتحة على العالم وبالتالي تحترم كلّ إنسان مهما كان, يمكنه إن يسمع ويفهم ويعيش ما نقوله في الإرشادات والوعظات والمحاضرات. فعندما يسمع كلمات مثل "الخلق", "التجسّد", الفداء", "الخلاص"… يربطها بخبرته الحياتية فتساعده على بناء ذاته في مسيرته عل خُطى المسيح.

 

خاتمة :

تساءلنا في البداية: ما هو النجاح الذي تريده؟

هل نفهم مما سبق أن النجاح حسب الإنجيل ليس سهلاً ور رخيصًا. لذلك عندما نخاف من هذا النجاح حسب روح المسيح نُفضّل التركيز على "التعليم" و"الحفظ" الذي ليس له علاقة بحياتنا, وليس له تأثير على سلوكنا وتصرّفاتنا.

 

مجلة "نور على الطريق" عدد 88