لاهوت أدبي: فضيلة الديانة

الأب/ رمزي نعمة

الديانة هي فضيلة تميل بصاحبها إلى تقديم الإكرام اللائق لله بكونه المبدأ الأول لجميع الأشياء. ويتم هذا التكريم باطناً وظاهراً بأفعال العبادة. وتعتبر هذه الفضيلة ثمرة الفضائل الإلهية: الإيمان والرجاء والمحبّة. فإنَّ مَن يتوصّل بالإيمان إلى اكتشاف قداسة الله ومجده يأمل أن ينال منه السعادة والكمال. إن مَن يكتشف حبَّ الله المجانيّ لابدَّ أن يشعر باندفاع إلى تكريمه والتعبّد له بالطرق المتعدّدة كالصلاة والذبيحة. تبقى الفضائل الإلهية ناقصة دون فضيلة الديانة. لذا وجب أن نبحث هذه الفضيلة مباشرة بعد الفضائل الإلهية.

وتؤمن الكنيسة أن «الله اختار أن يوحي لنا ذاته وأطلعنا على سرّ مشيئته الحقيقية، والذي بموجبه يصل الإنسان إلى الله الآب، وبقوة الروح القدس وبوساطة المسيح الكلمة الذي صار بشراً ويشاركه طبيعته الإلهية» (أف9:1، 18:2، 2بط4:1). ويتطلب هذا الوحي جواباً. وعليه فإن تلاميذ المسيح الذين «يواظبون على الصلاة وتسبيح الله (أع 42:2-47)، يجب عليهم أن يقدموا ذواتهم لله ذبيحة حية ومرضية» (روم 1:12). ويتجاوب المسيحيون مع محبة الله التي ظهرت لنا بالاتحاد مع المسيح ليؤدوا العبادة للأب الأزلي.

أولاً: العبادة في الكتاب المقدس

1)     العبادة في العهد القديم

في العهد القديم هنالك مراجع عديدة تشير إلى العبادة ذات الصفات المتعددة. إن الهدف الوحيد للعبادة هو الله، الإله الحي الذي لا تستطيع أن تمثله صورة (حز 2:20-5، تث 2:5-10). إن عبادة آلهة أخرى، والشعوذة، والسحر والتنجيم، والذبائح البشرية، وعبادة الموتى، شُجبت جميعها. وتميزت العبادة الحقيقية بوساطة الكهنوت والأشكال المتعددة من القرابين والأعياد الدينية.

وعندما يُظهر الله مجده وجلاله فإنه يطلب جواباً: "تؤدوا مجداً لاسمي" (ملا 2:2، ار 16:3، أش 8:42-12). إن الجواب الحقيقي على العبادة يقوم على الاستعداد الداخلي الصحيح، وبخاصة في محبة الله (تث 4:6-9، 12:10، 11-12). وقد شدَّد الأنبياء على عقم العبادة الطقسية التي تحتاج إلى الميل الداخلي الصحيح (عا 21:5-24، 21:7، مي 6:6-8). "ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب. قد شبعت من محروقات الكباش وشحم المسمنات وأصبح دم العجول والحملان والتيوس لا يرضيني… فاغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أعمالكم من أمام عيني وكفوا عن الإساءة. تعلموا الإحسان والتمسوا الإنصاف. أغيثوا المظلوم وانصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" (أش 11:1، 16-17).

2)     العبادة في العهد الجديد

في العهد الجديد مارس يسوع وتلاميذه الأشكال التقليدية للعبادة اليهودية (مت 23:4، 17:26-19، مر 2:6، يو 13:2-14). وقد ذكّرنا يسوع نفسه ما تعلمه الوصايا العشر: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت 10:4). وقد علمنا يسوع الصلاة (مت 7:6-13) وصلى هو نفسه بصورة علنية وفردية. وطلب أن تكون العبادة "بالروح والحق" (يو 23:4). إن العبادة الخارجية بدون مشاعر داخلية لا قيمة لها. "فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئاً فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أولاً فصالح أخاك وحينئذ ائت وقدم قربانك" (مت 23:5-24).

ويركّز العهد الجديد أيضاً بقوة على أن المسيح هو موضوع العبادة. وقد صلى يسوع نفسه قائلاً: "والآن مجدني أنت يا أبت عندك بالمجد، الذي كان لي عندك من قبل كون العالم" (يو 5:17). وقد فهمت الكنيسة الأولى يسوع بأنه يتلقى مجداً مساوياً للأب. "البركة والكرامة والمجد والعزة للجالس على العرش وللحمل إلى دهر الدهور؟" (رؤ 13:5). إن كمال محبة الله سيأتي عندما يعود المسيح بمجده (روم 18:8-25). إن قوة المشاركة في مجد الله تأتي من الروح القدس: "أما نحن جميعنا فننظر بوجه مكشوف كما في المرآة مجد الرب فنتحول إلى تلك الصورة بعينها من مجد كما يكون من الرب الروح" (2كور 18:3).

وبعد العنصرة استمرّ التلاميذ في المحافظة على الطقسيات اليهودية (أع46:2، 26:21)، ولكنهم بدأوا في تكريم يسوع وتقديم العبادة له (يو 23:5، فل9:2-11). فكان تجديد العشاء الأخير مركز العبادة الجديدة (مر 22:14-24، 1كور 17:11-34). وأخذ المسيحيون يحتفلون بكسر الخبز "في اليوم الأول في الأسبوع بدل السبت" (أع 42:2، 1كور 2:26)، ذكرى لقيامة الرب. هذا وبالإضافة إلى سرّ الإفخارستيا بدأ الرسل يمارسون باقي الأسرار كالعماد ومسحة المرضى ووضع الأيدي (أع 5:1، يع 14:5-16، أع 6:6، 17:8).

ثانياً: أشكال العبادة

1) الصلاة

تعلمنا الأناجيل أن يسوع كان يصلي كثيراً (مت 23:14، 36:26، 42:26-44، مر 35:1). وتعكس صلاة يسوع ثقة شبيهة بثقة الطفل بأبيه. وقد سار تلاميذه على خطاه في هذه الثقة المطلقة في محبة الله. لا شك أيضاً أن المسيحي الذي يعيش بالقرب من المسيح يستمد روح الصلاة منه. "وبما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم داعياً أبا؟ أيها الأب؟" (غل 6:4).

ومنذ زمن آباء الكنيسة الأولى عُرّفت الصلاة بأنها "الحديث مع الله". وتبرهن صلاة يسوع في بستان الجثمانية على تعريف الصلاة هذا (لو 41:22-44). إن هذا المفهوم للصلاة يدل على أن الله لديه اهتمام خاص بالإنسان وأنه يتأثر بصلواته. وقد عرّف يوحنا الدمشقي (750 تقريباً) الصلاة بأنها "ارتفاع النفس إلى الله". ويركّز هذا المفهوم على رغبة الإنسان في أن يتحد بالقداسة المطلقة لله. ومن هنا فإن مجرد التفكير العقلي في الله ليس صلاة.

أ- أنواع الصلاة: للصلاة أوجه متعددة:

– صلاة السجود: وهي الاعتراف بأن الله هو المبدأ الأول لكل شيء ولذا وجب الإقرار بسيادته والخضوع المطلق له: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت 10:4).

– صلاة الشكر: ونعبّر من خلالها عن عرفان بالجميل على ما أنعم الله به علينا "وبدعائهم لكم يعبّرون عن شوقهم إليكم لما أفاض الله عليكم من النعم الوافرة. فالشكر لله على عطائه الذي لا يوصف" (2كور 14:9-15).

– صلاة الاستغفار: ونعبّر بها عن التأسّف عن خطايانا، طالبين العفو عنها "وغفر لنا خطايانا" (مت 12:6).

– صلاة الطلب: ونرفع من خلالها حاجاتنا لله تعالى طالبين معونته بعد بذل ما في وسعنا عمله: "اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم" (مت 7:7).

بلمن العبادة والإكرام: لا شك أن العبادة بمعناها الأصيل واجبة علينا لله الذي ليس لنا أن نعبد غيره. وقد وجّه المسيحيون على مدى العصور صلاتهم للأم المباركة، والملائكة، والقديسين لأن مجد الله قد ظهر فيهم بطريقة خاصة. لله وحده تجب العبادة، أما الملائكة والقديسون فيجب تكريمهم لحياتهم المثالية إذ تميزوا بممارسة الفضائل، ولأنهم أكثر قرباً من الله لقداستهم وكمالهم. كما أن إكرامنا للقديسين، يعود لمجد الله الذي أحبهم وأغناهم بمواهبه. ويقدم تكريماً خاصاً للعذراء مريم والدة ابن الله والتي بسبب هذه النعمة الجليلة "تسامت إلى حد بعيد فوق كل الخلائق في السماء وعلى الأرض".

ج- أقسام الصلاة: تنقسم الصلاة إلى باطنية وظاهرية، فردية أو جماعية، رسمية أو غير رسمية، طقسية أو غير طقسية. وجميعها جيدة وتخدم أغراضاً شتى. فالصلاة الداخلية هي لقاء القلب مع الله وتُدعى عادة التأمل والتفكّر. بينما الصلاة الخارجية نفسها في كلمات أو طقسيات تأخذ بعين الاعتبار حقيقة كون الإنسان جسداً وروحاً. وتعترف الصلاة الجماعية أن الإنسان ليس فرداً وحسب بل عضواً في المجتمع، ويحتاج إلى مساندة الآخرين وهو مسؤول تجاه الآخرين "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك فيما بينهم" (مت 2:18). ويُشار في العادة إلى الصلاة غير الرسمية "كالكلام مع الله بكلماتنا نحن" بينما تستعمل الصلاة الرسمية ثروة التجارب الدينية للأجيال الماضية. لهذا تعتبر الطقسيات بحق ممارسة لمهمة المسيح الكهنوتية ممارسة تتميز بعلامات حسية وكل منها يقدّس الإنسان بطريقة خاصة، وبها يؤدي جسد المسيح السري، برأسه وأعضائه، العبادة الجمهورية التامة (الليتورجيا المقدسة-7). والقداس، والأسرار وأشباه الأسرار والطقوس وليتورجية الساعات هي أمثلة على الصلاة الطقسية. "وفعلاً أن السيد المسيح ليشترك دوماً معه، في هذا العمل الجلل الذي به يتمجد الله خير تمجيد ويتقدس البشر، الكنيسة عروسته الحبيبة التي تدعوه سيدها والتي تمر به لتؤدي العبادة للأب الأزلي (الليتورجيا المقدسة-2).

د- الاستعدادات اللازمة للصلاة: في كل صلاة على المصلي أن يتحلى باستعدادات معينة، وهي على وجه التخصّص: الانتباه، والخشوع والثقة. والانتباه هو الشعور الفعلي للعقل بفحوى الصلاة أو حضور الله. ويريد الشخص أن يرفع عقله وقلبه لله. ولا يمكن تجنّب التشتّت غير الإرادي ولا يجب أن يشكّل هذا سبباً للقلق. وفي الصلوات الشفهية الطويلة فليس من الضروري الانتباه لكل جملة ما دام الانتباه موجهاً لله في طريقة عامة. والخشوع هو الاعتراف بسلطة الله المطلقة واعتمادنا الكلي عليه. وتعني الثقة الاتكال الكامل على الله مصدر كل خير والتأكد بأنه يصغي إلى صلواتنا.

2) الأسرار

يعلمنا المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن غاية الأسرار هي تقديس البشر، وبنيان جسد المسيح وأخيراً تأدية العبادة لله. "والأسرار هي صميم العبادة الطقسية"

فمن الضروري أن تتوفر شروط معينة لكي يكون قبول الأسرار مثمراً. وقبل كل شيء على قابل السرّ أن يكون مؤمناً بالله وبالمسيح الذي أرسله. وعلى الإنسان أن ينوي قبول الأسرار لأن الله لا يفرض نعمته على أي شخص. إن قبول الأسرار يمكن أن يُعتبر لقاءً شخصياً مع المسيح. لابد من التمييز بين سري المعمودية والتوبة فهما يعطيان النعمة الإلهية للذين انفصلوا عن الله بالخطيئة، وبين الأسرار الأخرى التي تتطلب مِن قابل السر أن يكون في حالة النعمة لقبول جيد.

هنالك صلة بين الأسرار التي وضعها المسيح وما تسمى "بأشباه الأسرار" التي وضعتها الكنيسة. "أشباه الأسرار هي علامات مقدسة ذات مفاعيل روحية تُنال بتوسلات الكنيسة، لأنها شبيهة إلى حد ما بالأسرار" (الليتورجيا المقدسة، 60). وهي تجعلنا مستعدين أن نتقبل بشكل أكثر اكتمالاً نعمة الأسرار وتجعل مناسبات مختلفة في الحياة أكثر قداسة. إن أشباه الأسرار هي جزء من رسالة الكنيسة لتقديس الأشياء جميعها: الأمور المادية، الزمان والمكان، والإنسان.

         للمقال بقية في العدد القادم،،،