لاهوت أدبي: فضيلة المحبة

ليست المحبة مجرد إحدى الفضائل وعلى نفس المستوى مع رفيقتها الإيمان والرجاء. إنما هي سيّدتها على الإطلاق إذ تعطيها كمالها وغايتها واستحقاقها. بدونها لا يستحق الإيمان مكافأةً، ولا الرجاء يبلغ غايته وهي رؤية الله في السماء والتمتّع برضاه وصداقته على هذه الأرض، وبدونها أيضاً تصبح محبة القريب اسماً بدون مسمى وشعوراً أجوف قابلاً للانقلاب والتبدّل.

والمحبة هي الشعور الطبيعي الذي من المفروض أن يملأ قلب الإنسان. قال كاهن رعية ارس، الأب فياني: "قبل أيام وأنا عائد إلى البيت كانت العصافير الصغيرة تطير في الأحراش. فصرت أبكي قائلاً في سرّي "لله درّك من كائنات صغيرة. خلقك الله لتغردي وها أنت تغردين. وخلق الإنسان ليحب الله وها إنه لا يحبّه".

وتأتي أولوية المحبة من كونها تربطنا وتوحّدنا بالله غايتنا. أمّا الإيمان والرجاء فلا يقدران لأنهما يتواجدان أحياناً في النفس إلى جانب الخطيئة المميتة. وقد قال القدّيس أغسطينوس: "من لا يحب الله، فإنه يؤمن عبثاً ويرجو عبثاً. ولهذا أمر الرب يسوع: "أحبب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك. ولا وصية أعظم منها".

أولاً: المحبة في الكتاب المقدّس

‌أ-     المحبة في العهد القديم: إن اصطلاح المحبة (في العبرية- ومشتقاته)، كثير الاستعمال في العهد القديم. ويعني بصورة عامة تعلّقاً طوعياً (خيراً أو شراً) بالأشياء والأشخاص. وقد يكون الشخص امرأة، أو ابنة، أو جارة، أو سيدة. والمحبة هي الشعور الذي يكنّه الله لإسرائيل (هو1:11). هي الحبال التي يجذب شعبه بها إليه (هو4:11)، ولكنه يسحل محبته من أجل أعمالهم الشريرة. وتسود فكرة المحبة في سفر التثنية. إن اختيار الإسرائيليين كشعب الله كانت مسألة اختيار حرّ ومسألة محبة من لدن الله (تث 6:7-8). وقد قاد الله من جراء محبته الإسرائيليين خارج مصر (تث 37:4، 8:7). وسيحبهم ويباركهم ويكثرهم (تث 13:7). وبالمقابل يؤمَر الإسرائيليون في الوصايا العشر أن يحبوا الرب إلههم (حز 6:20، تث 10:5). ويؤمرون أن يحبوه بكل قلوبهم، وأرواحهم، وبكل قوتهم (تث 5:6). وعليهم أن يحبوا الله وأن يتبعوا أحكامه ووصاياه (تث 1:11). وتتناول فقرات أخرى في العهد القديم العلاقة بين المحبة والمحافظة على وصايا الله (دا 4:9، غ 15:1).

يشبه الوحي نوراً، يكون ضعيفاً في البداية ثم يقوى تدريجياً ليسطع ويبهر. وهكذا كشف الله، منذ العهد القديم، عن أهمية المحبة ثم اكتملت في العهد الجديد.

المحبة أزلية: "إني أحببتك حباً أبدياً" (ار 3:31). وعن حبّه لشعبه قال الله: "أتنسى المرأة مرضعها فلا ترحم ابن بطنها؟ لكن ولو أن هؤلاء نسين لا أنساك أنا" (أش 15:49).

صحيح أن العهد القديم أوصى بمحبة العدو (لا 17:19)، ولكن أغلب الأحيان، كان العدو المعني هو اليهودي وليس الوثني. إنما كانت هناك وصية تحمي الغرباء: "لا تحتقر الغريب ولا تستحقه لأنك كنت غريباً في مصر" (خر 20:22) والآية الرائعة التالية: "وليكن عندكم الغريب الدخيل فيما بينكم كالأصيل منكم وكنفسك تحبه لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (أخ 34:19). "وإذا عطش عدوّك فاسقه" (أم 21:25).

‌ب-   المحبة في العهد الجديد: تستعمل اللغة اليونانية ثلاث مفردات ومشتقاتها للتدليل على المحبة، وهي، "ايروس Eros"، و "فيليا Philia" و "أغابي Agape". ولا نجد الأول في العهد الجديد "ايروس"، التي تدل على الرغبة الجنسية. إلا أن الواحد يجد على كل حال كلمة "فيليا" التي تعني في اليونانية الوثنية في الأصل محبة الأصدقاء، و "أغابي" التي ربما اختيرت لتعني الفكرة المسيحية للمحبة. وتستعمل كثيراً كلمة محبة لترجمة كلمة "أغابي". وفي الأناجيل الإزائية يعلّم يسوع أن وصية الشريعة الكبرى هي محبة الله والقريب (مت 34:22-40، مر 28:12-34، لو 25:10-28). والقريب يشمل حتى ذاك الذي يشعر الإنسان بالغربة تجاهه (لو 29:10-37). وأمر يسوع أن نحب حتى أعدائنا (مت43:5-48). ويجب أن تكون محبة الله مقصورة عليه، بدون منازع (مت 24:6، لو 13:16)، ويجب أن تكون محبة التلاميذ ليسوع أعظم من محبتهم للوالدين والأطفال (مت 10-37).

وبمقتضى ما قاله بولس فإن محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس (روم 5:5). وقد برهن الله على محبته لنا في موت المسيح عنّا بينما كنّا لم نزل خطأة (روم 8:5). ولا توجد أية محنة، كما لا يوجد أي مخلوق يفصلنا عن محبة المسيح (روم 35:8-39). وعلى الأزواج أن يحبوا نساءهم كما أحب المسيح الكنيسة (أف 25:5). إن الأشياء جميعها تعمل معاً لصالح أولئك الذين يحبون الله (روم 28:8). وتلخص الوصايا جميعها في وصية محبة القريب كالنفس (روم 8:13-10، غل 13:5-14). ويعلّمنا بولس أن المسيحيين يعيشون في جو من المحبة- محبة الله للناس ومحبة الناس لقريبهم. وتبني المحبة المجتمع المسيحي (1كور1:8). والمحبة أساس الحياة المسيحية (أف 17:3). وتربط المحبة الفضائل جميعها معاً (كول 14:3). والمحبة هي الطريق الذي تفوق الطرق الأخرى جميعها، وهي تمتاز على العطايا جميعها التي لا قيمة لها بدونها، وهي تبقى حتى بعد زوال الإيمان والرجاء (1كور 1:13-13).

والمحبة موضوع رئيسي في كتابات يوحنا. من شدة محبته تبنانا الله كأبنائه (1يو 1:13). وكان يسوع قد أظهر محبته لخاصته إلى النهاية (يو1:13). وقد ضحى بحياته من أجلهم (1يو 16:3). إن من يخلو من المحبة لا يعرف الله أبداً، لأن الله محبة (يو 8:4). وتظهر المحبة بالمحافظة على وصايا الله ويسوع (يو 15:14، 21، 23). ووصية يسوع الجديدة هي أن يحب بعضنا بعضاً (يو 34:13، 17:15)، وكما أحب الله يسوع (يو 21:14، 23). ومن جراء محبته أرسل الله ابنه إلى العالم ليكون مخلصنا. إن مَن يؤمن به تكون له الحياة الأبدية (يو 16:3-17). وبحب الواحد منّا للآخر نكون واثقين أن الله يقطن فينا وتكون محبته كاملة فينا (1يو 7:4-21). ففي هذه الكتابات إذن المحبة هي قوة متبادلة وشاملة وموحدة.

‌ج-        ماذا استجدّ في المحبة في العهد الجديد؟

– التطبيق الشخصي الذي قدّمه لنا المسيح: "بذل نفسه في سبيل العالم رغم كونه الإله الذي يجب أن نبذل له نفوسنا" (1يو 16:3).

– أصبح مقياس حبنا لله وللقريب هو درجة حبّ المسيح لنا.

– دمج يسوع المسيح نفسه مع القريب واتخذ هويّته بحيث أن كل إنسان (لاسيما الفقراء) هو صورة للمسيح لا بل مسيح آخر.

– أصبحت المحبة ليست مجرد علامة على الديانة الجديدة بل العلامة المميزة لها، كي يميز العالم تلاميذ المسيح.

– تشديدها على محبة الأعداء (مثل السامري الرحيم) على مثال محبة الآب الذي يحب الخطأة فيمطر عليهم ويعطيهم شمسه كذلك ويقوم نحوهم بخطوة المصالحة الأولى.

– العدد اللامحدود من المرات الذي يجب أن نسامح به قريبنا (يو26:17).

ثانياً: تعليم الكنيسة

هذه أكبر الفضائل الإلهية (1كور 13:13). فبوساطتها نحب الله فوق كل شيء ومن أجله هو، ونحب قريبنا كما نحب أنفسنا من أجل محبة الله. فالمحبة هي تحقيق للوصية العظيمة في الديانة المسيحية. والمحبة، بكونها فضيلة إلهية تنطوي على حب الله من أجل ذاته، وعلى حب أنفسنا وحب الآخرين لأننا نشارك في صلاح الله. وليست المحبة بالحب النفعي (الحب الشهواني amor concupiscentiae)، بل حب الأصدقاء بعضهم لبعض (الحب، المودّة  amor benevolentiae فهو ليس حباً أنانياً، ولكنه يستقرّ في صلاح المحبوب (الله). إن المحبة هي أصل وشكل (root and form ) سائر الفضائل الأخرى، لأن موضوعها الأخير هو الله بذاته الذي يوجه إليه النشاط الفائق للطبيعة جميعه بتأثير متواصل، كامن أو ظاهر. ومعنى المحبة الإخلاص لله والقريب وعناية الإنسان عناية حسنة بنفسه. وامتلاك المحبة معناه جعل الله مركز حياتنا والعمل بوصاياه. المحبة هي مودة الله للمخلوقات البشرية.

المحبة هي الحب، وهي تستقر في الإرادة بصفتها فضيلة وفعل. وهي تُفاض وتنمو بالنعمة المؤدية إلى القداسة. وهي لا تزول عن طريق الخطيئة العرضية، إلا أن الخطيئة المميتة تضيعها. وتبقى المحبة حتى ما بعد الحياة عندما سنحب الله الذي نمتلكه. وقد ميّز الإكويني ثلاث درجات من المحبة- محبة المبتدئين الذين يسعون إلى أن يفصلوا أنفسهم عن الخطيئة، ومحبة البارعين الذين يسعون إلى أن يصلوا بأنفسهم إلى الكمال، ومحبة الكاملين المتحدين بالله بطريقة رائعة حتى في هذه الحياة. وتشمل المحبة حتى أعدائنا. وهي تجبرنا على استخدام الوسائل العادية للمحافظة على الصحة والحياة. المحبة هي الرغبة في التخلي عن أي شيء حسن مخلوق من جراء حب الله. تدفعنا المحبة إلى مساعدة أخينا وأختنا اللذين يجدان نفسيهما في حاجة روحية ودنيوية، ومن هنا، جاء واجب الإصلاح الأخوي ومساعدة المساكين. وتمنعنا المحبة من التعاون مع خطايا الآخرين، ولكنها لا تمنعنا من إتمام أعمال يسيء بعضهم استعمالها شريطة أن يتوفر لدينا سبب كاف لفعل ذلك. فالكراهية، والحسد، والكسل، والشك هي خطايا ضد المحبة. والشك هو فعل إما أن يكون شريراً أو أن يكون له مظهر الشرّ وقد يكون مناسبة لأن يرتكب شخص آخر الخطيئة.

ثالثاً: التفكير اللاهوتي

1) ماهية المحبة

أ- تعريف المحبة: هي فضيلة فائقة الطبيعة يفيضها الله في الإرادة بها نحب من أجل ذاته وفوق كل شيء والقريب حباً له. هي عطية إلهية لأن صداقتنا لله تفوق كل متطلبات الطبيعة البشرية وتفكيرها المحصور. فمن يدّعي أنه يصادق الله إذا لم يدعه هو نفسه ويرفعه: "محبة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وهب لنا" (رو5:5).

ب- مَن نحب؟

       الله، فوق كل شيء وفوق المكافأة التي وعدنا بها.

       الكنيسة التي تواصل عمل المسيح.

     نحب خلاصنا الروحي: "أرغب في أن أنحلّ لأكون مع المسيح" (بولس).

       خير إخوتنا الروحي ثم الزمني، والعام قبل الخاص. والأقرب إلينا هو أولى بالمعروف.

2) محبة الله

يقول توما الإكويني: "المحبة هي مودة متبادلة بين الله والخليقة وصداقة حقيقية". وتتطلب الصداقة تعهداً متبادلاً على حسب إمكانيات كل طرف، لأننا لا نقدر أن نقدم لله بقدر ما يقدم لنا وإنما نقدر أن نعطيه كل إمكانياتنا (القليلة) كما أنه أعطانا كل إمكانياته (بشخص ابنه الحبيب). فالذي يجمع بيننا هي كلمة "كل" وليست كلمة إمكانيات.

‌أ-   نمو المحبة وزوالها: نعني بالمحبة أولاً الفضيلة الإلهية وليس شعور الشفقة العقيم الذي يمكن أن يشعر به الإنسان نحو الحيوانات. وتلد المحبة وتنمو فينا بفضل النعمة الإلهية. ونستطيع بأعمالنا الصالحة أن نهيئ أنفسنا لأن نستحق من رحمة الله ازدياداً في درجة محبتنا. المحبة تُقاس ليس بالكمية وعدد الأعمال وكثرتها وإنما بكثافة العمل وعمق وقته. فرُبَّ عمل محبة واحد في سبيل الله يحتوي قوة أعظم من عشرات الأعمال السطحية. وحياة قصيرة في محبة الله لأفضل من حياة طويلة فاترة. وينال الله مجداً أكثر من الذي يهدي إلى الإيمان خاطئاً واحداً يصل القداسة من الذي يهدي كثيرين يبقون فاترين. وتموت المحبة الإلهية في ضمير الإنسان، ليس بسبب خطايانا العرضية وإنما بسبب الخطايا المميتة. إنما تضعف الخطيئة العرضية قوة المحبة وتحضّر الإنسان للخطيئة المميتة وتحول دون التقدّم المطرد. وبالاعتراف تعود المحبة إلى درجتها السابقة أو أكثر.

‌ب-      أهمية المحبة: تأتي من كونها تربطنا بالله عزّ وجلّ وتجعلنا شركاء معه في المحبة المتبادلة وأبناء له. وهي العمل الخاص بالله، فالله لا يؤمن ولا يرجو إنما يحب. وعندما نحب الله والقريب من أجل الله إنما نتشبّه بالله عزّ وجلّ. قال أغسطينوس: "إذا أحببت الأرض فأنت أرضي، وإذا أحببت الله فماذا أقول لك؟ إنك إلهي". وإذا فقدت المحبة، يفقد الإيمان سبب وجوده والرجاء هدفه. فما الفائدة من أن نؤمن بالله إن لم نكن نحبّه؟ فالشياطين تؤمن أكثر منّا. وما الفائدة من أن نرجو الله ومكافأته إن لم نكن نحبه لأننا لن نحصل عليها. و"إذا كان لي الإيمان حتى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبة فلست بشيء" (1كور 2:13). المحبة رباط الكمال، ويُقاس عمق وعلو الحياة الروحية بكمال المحبة.

‌ج-   درجات محبة الله:

       رفض الخطيئة المميتة وقبول العرضية.

       رفض الخطيئة المميتة والعرضية.

   تجنّب الخطيئة والبحث عن رضى الله ولو كلّف ذلك ألماً وتضحية. وهذا معنى أن نحب الله "من كل قلبنا وكل نفسنا". وقد ميّز القديس إكلمنضس 3 طبقات من محبي الله:

o        مَن يتصرفون كذلك خوفاً من العقاب وهم يشبهون العبيد.

o        مَن يتصرفون كذلك حباً بالمكافأة وكأنهم أجراء.

o        مَن يحاولون إرضاء الله من أجل إرضائه وهم كالأبناء.

وكلما ارتفعت المحبة في النفس نتج عنها مزيد من الفرح والاتحاد بالله والسلام الداخلي والغيرة على مصالح الله. ومحب الله يحاول أن يجعل كل الناس يحبون الله مثله.