3) محبة القريب
هي إرادة الخيرة للقريب بسبب محبتنا لله. ويجب تمييزها عن محبة الإنسان من أجل الإنسان (Philanthropy) وهي جيدة ولكنها ليست فائقة للطبيعة وليس لها أجر واستحقاق لأنها ليست مربوطة بالله أصل كل محبة.
أ- ماذا نحب في القريب؟: تقوم هذه المحبة على أن نريد للقريب ما يريده الله وأن نأبى له ما يأبى له الله. والله تعالى يريد أولاً خلاصه الروحي (راجع مثل الابن الشاطر وموقف يسوع من الخطأة والعشارين والسامرية…) وثانياً خيرهم الزمني إذ شفا الناس وأطعمهم. وعلى هذا المنوال يجب أن تكون محبتنا للقريب.
ب- كيفية ممارسة تلك المحبة: يجب أن نحب القريب:
– كأنفسنا أي محبة صادقة، عادلة، مستمرة، متبعين القاعدة الذهبية: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوه أنتم بهم" (متى 12:7).
– كما أحبه يسوع، أي محبة لا تعرف الحدود والملل ولا تتراجع أمام التضحية والتفاني.
– بالعمل، أي بممارسة أعمال الرحمة الروحية والجسدية.
ج- لماذا نحب القريب؟
– بسبب الله. قال الاكويني: "إن الفعل الذي به نحب الله والفعل الذي به نحب القريب هما من نفس النوع".
– بسبب التبني الإلهي: كلنا- وحتى أعداؤنا- أبناء الله. ومن المنطقي والعادل، إذا كنا نحب الآب، أن نحب أبناءه كما يحبهم هو. وإذا فدانا المسيح وتبنّانا أصبحنا كلنا إخوة (متى 8:23).
– ذلك أمر من الله: "هذه وصيتي أن يحب بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم" (يو 12:15).
– وحدة المصير: "القريب مدعو مثلنا إلى الحياة الأبدية: "الله يريد أن جميع الناس يخلصون" (1تي 4:2).
– اتخاذ المسيح هوية القريب: ولذلك "إذ تخطئون إلى الأخوة إنما تخطئون إلى المسيح" (1قور 12:8). ولكي نفهم إلى أي مدى يتقمّص يسوع شخص الضعيف والفقير فلنراجع مشهد الدينونة (مت 25) وأعطى بولس تفسيراً جميلاً لعلاقتنا بالقريب إذ أننا والمسيح نشكّل جسداً واحداً سرياً غير منظور. المسيح هو الرأس ونحن الأعضاء. وعلّق أغسطينس على ذلك بقوله: "إذا أحببتم الرأس أحببتم أيضاً الأعضاء. ولا يمكن تجزئة المحبة. وإذا لم تحبوا الأعضاء فلا تحبون الرأس".
د- أعمال الرحمة للقريب: أوصى يسوع بأعمال الرحمة وقد لخّصتها الكنيسة في نوعين:
1. أعمال الرحمة الجسدية وهي: إطعام الجياع، ارواء العطاش، كسوة العراة، إيواء الغرباء، عيادة المرضى، زيارة المسجونين، دفن الموتى.
ونجد أساساً لهذه الأعمال في الكتاب المقدس: نقرأ على سبيل المثال في سفر تثنية الاشتراع: "إن الأرض لا تخلون من فقير ولذلك إن آمرك اليوم قائلاً: "ابسط يدك لأخيك المسكين والفقير الذي في أرضك" (11:13). وكذلك في سفر طوبيا "إن كان لك كثير فابذل كثيراً وإن كان لك القليل فاجتهد أن تبذل القليل عن نفس طيبة" (8:4-9). وقد قال يسوع في سياق مثل وكيل الظلم: "اجعلوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا أدرككم الاضمحلال يقبلونكم في المظال الأبدية" ومال الظلم هنا يعني كل مال (على سبيل الاستعارة) لأنه كثيراً ما يستعمل في الظلم ويؤخذ في الظلم. وأهم من الآيات، الأعمال التي قام بها يسوع عندما أشبع خمسة آلاف رجل في آن واحد لئلا يخوروا في طريق العودة. واستعمل يسوع الوعد والوعيد للذين يعطون أو لا يُعطون. "اعطوا تعطوا، الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم"(لو38:6). وتلخص هذه الأعمال بالصدقة. ومن أهم صفات الصدقة ما يلي:
– حباً لله.
– بشكل خفي: "لا تعلم شمالك ما تصنع يمينك" (مت 24:6).
– جذرية: الأفضل تأمين عمل للفقير من إعطائه مالاً.
– لمن يستحق كي لا نشجع الرذيلة والكسل.
– بتواضع: "أسيادنا الفقراء"، لأنهم صورة للمسيح سيّدنا.
– على قدر ما نستطيع إعطائه بعد تأمين احتياجنا إلى المأوى والمأكل والملبس وربما بعد ادخار بعض المدخرات للمستقبل. وما يزيد عن ذلك فهو الفائض. وقد ميّز اللاهوتيون نوعين من الفائض:
* الفائض النسبي: ما يتبقى بعدما نكون قد أرضينا حاجاتنا الأساسية من أكل وشرب ومأوى لنا ولعائلتنا.
* الفائض المطلق: ما تبقى بعد أن نكون قد أرضينا الحاجات التي تتناسب وحالتنا الاجتماعية ومكانتنا مع تأمين مستقبلنا وشيخوختنا.
من أي فائض نعطي؟ في حالة البؤس العام، من الفائض النسبي. ولكن من الصعب إقناع الأغنياء بأن هذا الفائض النسبي يجب أن يتكيّف والحالة الاجتماعية العامة بما تحويه من بؤس وليس مع حاجة الأغنياء إلى الرفاهية والترف الملازمة لحالتهم. ونعمة الله هي التي تنير ضمير المستقيمي النية.
ومن بين أعمال الرحمة الجسدية لزيارة الأسرى والمسجونين مكانة خاصة، إذ يتوجب علينا أن نزورهم ونساعدهم وإن كانوا أبرياء نسعى لإخلاء سبيلهم. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "اذكروا الأسرى كأنكم مأسورون معهم" (2:13)
2. أعمال الرحمة الروحية وهي: إسداء المشورة للمرتابين، إرشاد الجهّال، نصح الخطأة، تعزية الحزانى، غفران الإساءات، احتمال المنكّدين، الصلاة لأجل الأحياء والأموات.
تبدو واضحة. وهي تؤكّد على الخير الروحي أي على خلاص القريب من خلال التغلّب على ضعفه وجهله وإساءاته. وبخصوص نصح الخطأة، يقول القدّيس يعقوب: "إن الذي ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه خلّص نفساً من الموت وستر جماً من الخطايا" (يع 20:5).
4) متطلبات المحبة
أ- الرسالة: إذا كان المسيحي يحب الله فإنه يغار على مصالحه ويحاول أن يجعل الله معروفاً ومحبوباً ومطاعاً. وهذا هو جوهر رسالة العلمانيين في الكنيسة. ومن ميادين هذه الرسالة:
– في الكنيسة: المساهمة في الترنيم والعزف والتربية الدينية…
– في الحياة: تبشير البيئة، وأفراد كل بيئة أعرف بعقليتها وأكثر أهليةً من غيرهم لنقل الرسالة إليها (العمال للعمال، المعلّمون لزملائهم…).
– في الأسرة: ويهتم كل مسيحي أن يعمل من عائلته مركز إشعاع روحي تسودها المبادئ الإنجيلية والمحبة وتقتدي بها العائلات المجاورة. وأفضل دعاية لصحة المبادئ الإنجيلية هو وجود عائلات سعيدة تطبقها. والتجربة خير برهان.
– في المجال المدني: ممارسة الإنسان حقه في الانتخاب وإعطاء الأصوات لمن يستحقون. ورسالة العلماني تأخذ شكلاً فردياً بأن يعيش حياة مسيحية نزيهة في عمله وعائلته. وإما شكلاًَ جماعياً منظماً بالتعاون مع الكنيسة. وقد بارك السيد المسيح في الجماعة التي تعمل باسمه: "حيثما اجتمع اثنان باسمي فأنا أكون بينهما". وفي كل الأحوال على العلمانيين أن يعوا كل يوم أكثر بأنهم ليسوا ينتمون للكنيسة فقط، بل هم أيضاً الكنيسة.
ب- الإصلاح الأخوي: وسبب الإصلاح هو حماية القريب من الشر والخطيئة والهلاك، استناداً على قول يسوع: "إن أخطأ إليك أخوك فوبخه" (مت 15:18). وإن إصلاح الشئون الروحية للقريب يضحى أكثر أهمية من خدمة المرضى بقدر ما للروح من فضل على الجسد. وإهماله أكثر خطراً من إهمال الصدقة المادية للمحتاجين.
ويمتنع الناس عامة عن هذه الفريضة وهي توبيخ القريب خوفاً من إغضاب الإخوة وجرح مشاعرهم أو بادعائهم أنهم ليسوا أكمل منهم أو خوفاً من أن ينالوا رداً جارحاً منهم. وبالمقابل يجد الناس الشجاعة لانتقاد القريب في غيابه ولا يجدونها في حضوره. إلا أن ذلك لا يعني إعفاء الناس (لاسيما المسئولين عن غيرهم بحكم المرتبة) من القيام بذلك. ولا مانع، لجعل التوبيخ مقبولاً، إتباع الأساليب المناسبة كاللطف والدقة والقيام بها في الوقت المناسب. ومن صفات التوبيخ الأخوي:
– تدريجي: الابتداء بالأهم.
– واضحك مع ذكر الدوافع والعلاج.
– في الوقت المناسب.
– فائق الطبيعة: أي بسبب الخير الروحي والزمني للقريب.
– بشكل منطقي: أي أن نلتزم نحن بما نقوله للقريب وألا نسقط في أخطاء أثقل: "يا مرائي أخرِج أولاً الخشبة التي في عينك ثم ترى كيف تُخرِج القذى من عين أخيك" (مت 3:7-5).
ج- الوداعة: وهي تجنب الحزازات والاحتكاكات والتحديات. يعتبر العالم الوداعة ضعفاً ولكنها في الواقع فضيلة الأقوياء، الذين يسيطرون على غريزة العنف. وقال أغسطينس: لا شيء أقوى من الوداعة ولا أحب من قوتها". وهي فضيلة للأسباب التالية:
– هي سبب سعادة للأشخاص الذين نعيش معهم.
– تسهّل العلاقات الاجتماعية مع الآخرين.
– مادام الله يحتمل سيئاتنا، فإنه من الواجب احتمال سيئات بعضنا بعضاً.
– حرية القريب في أن تكون له آراء وأذواق وعادات مخالفة لنا. فيجب ألا نغضب لهذا الواقع.
– لي هفواتي. فلماذا أغضب على هفوات القريب؟
– أمر يسوع بها عندما أمرنا بالتواضع: "تعلموا مني أني وديع متواضع القلب". وعندما سأله الأخوان برانرجس أن ينزل ناراً على قرية سامرية أجابهما: "لا تعلمان من أي روح أنتما".
– تجنبنا الأخطاء التي تحدث بسبب الغضب. وقال الكتاب: "السكنى في أرض مقفرة خير من السكن مع امرأة فازغة شرسة" (أم 19:21)، "والطويل الأناة كثير الفطنة والقصير الصبر ينوّه بسفهه" (أم29:14).
ماذا عن غضب يسوع في الهيكل؟
لم يغضب يسوع لأنه فقد أعصابه وحقد على تجّار الهيكل، بل لأن دوره التربوي تطلّب منه استعمال الشدة. والله يعاقب من يحب. ولا ننسى أن يسوع غضب مرة واحدة وكان غضبه لمجد الله وليس بالشر أن غضب عندما يكون مجد الله معرضاً للذل والامتهان.
وهذه الفضيلة ضرورية للمربين والمدرسين لأن العملية التربوية تتطلّب صبراً. ولا شك في أن وداعة الرؤساء تسهّل طاعة المرؤوسين.