لاهوت أدبي: فضيلة الإيمان

قد يثق إنسان بآخر لصدقه وعلمه ونزاهته وتماسك منطقه. وعلى هذا تبنى علاقة المعلم والطالب، الطبيب والمريض، المحامي والموكّل. وإن كانت شهادة الناس صادقة فشهادة الله أعظم. هناك ثقة أخرى بين الإنسان والله ونسميها الإيمان. ونؤمن بالله لأنه كشف لنا عن قدرته ومصداقيته وعلمه وصداقته بشكلين متكاملين. الشكل الأول هو كشفه عن ذاته من خلال الطبيعة والخليقة المنظورة التي تعكس قدرة الله وكماله. والشكل الثاني من خلال كلام الأنبياء ولاسيما كلام ابنه يسوع المسيح، صورة الله المنظورة، صورة بهاء مجده. الشكل الأول يقودنا إلى الإيمان الطبيعي بالله الخالق والمجازي، وهذا يعتمد على تفكير الإنسان. والثاني يقودنا إلى الإيمان الفائق للطبيعة بالإله المثلث الأقانيم المحب للبشر الذي أحب خليقته حتى تجسّد وصار شبيهاً بها ليفتديها وينير الطريق أمام الإنسان التائه، والإيمان الفائق للطبيعة يعتمد، ليس على قدرة الإنسان للوصول إلى الله، وإنما على تنازل الله الذي أنعم على الإنسان بأن دعاه كي يسلّم ذاته ليسوع المسيح تسليماً كاملاً.

أولاً: تعليم الكتاب المقدّس

1) العهد القديم

في العهد القديم الكلمة العبرية ….. ترادف في العهد الجديد الكلمتين اليونانيتين "بيستيس pistis" و "بيستيوين pisteuein" والتي تترجم إلى العربية بالكلمتين "آمن" و "الإيمان". والتي تعني: الشعور بالأمان والارتياح (أش 7، 9؛ 28 ، 16) الشعور بالثقة (حز1:4، 5) ونستخلص تعليم العهد القديم حول مفهوم الإيمان من خلال حادثتين أساسيتين:

أ- دعوة إبراهيم: ونفهم من هذا الحدث أن الإيمان يعني قبول إرادة الله بكونها إرادة خلاصية. "بالإيمان لبّى إبراهيم الدعوة فخرج إلى بلد قدّر له أن يناله ميراثاً، خرج وهو لا يدري إلى أين يتوجّه. بالإيمان نزل إلى أرض الميعاد نزوله في أرض غريبة، وأقام في الخيام مع اسحق ويعقوب الشريكين في الميراث الموعود عينه" (عب 11/8-9).

ب- قصة العهد: لقد أقام الله عهداً مع شعبه. "أنا أكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً". إنه عهد مبني على الأمانة المتبادلة. فالإيمان هنا يعني قبول كلمة الله والعمل بموجبها. ولهذه الكلمة بعدين: بُعد لاهوتي، وذلك يعني توصيل الحقيقة الإلهية والوحي الإلهي للبشرية، وبُعد أخلاقي وذلك يعني إعلان شريعة حياة أي جواب الإنسان على هذه الحقيقة الموحاة. فبالنسبة للعهد القديم، إن رجل الإيمان، أي الرجل الذي يؤمن، هو عضو في الجماعة التي تأسست على العهد في جبل سيناء. الإيمان هو طريقة حياة الإنسان الملتزم بالله، الذي يقول "آمين" لله، والذي يتطلّع لله كدليل له انطلاقاً من الثقة التي ولدت من جراء تذكار حي لقيادة الله في الماضي. يكشف الله لنا ذاته بأنه القدّوس، والذي يحب، إنه الأمين والذي يَعِد، أنه الصادق.. ويجيب الإنسان على هذا الوحي بطاعته لله واحترامه وتعبّده ومخافته من خلال أعمال المحبة والثقة والأمانة والرجاء والانتظار والصبر والقبول.

بهذا المعنى نفهم أن الإنسان يؤمن وهو مؤمن بقدر ما ينفتح بكامل شخصيته نحو الله الذي يوحي نفسه. إن المؤمن هو ذاك الذي يبني علاقة شخصية مع الله. ويتنازل عن مركزية "الأنا" ليثق بالله دون حدود ويطيعه بمحبة كاملة.

تلحق معان مختلفة بكلمتي "إيمان" و "صدق" في العهد القديم. فمثلاً في تك 6:15 و عد 12:20، و حز 22:78 الإيمان هو الثقة في وعد الله. وفي حز 31:14، 9:19 الإيمان بالله هو أخذه مأخذ الجد وفي أش 16:28 الإيمان هو الاعتماد الكلي على الله. وفي أش 10:43 وفي حز 13:27 الإيمان والتصديق ينظر إليهما بالمعنى الذهني، وفي حك 2:12 يعني الإيمان الإخلاص للشريعة.

وللإيمان في العهد القديم ثلاث أبعاد:

بُعد مستقبلي: وذلك يعني الثقة بأن ما وعد الله به سوف يتحقق

بُعد ماضي: وذلك يعني إلقاء نظرة على الماضي الذي هو تاريخ خلاص البشرية. وما الهدف من تذكّر الماضي إلا الالتقاء بمحبة الله الخلاصية من خلال كل ما عمله لشعبه (جا 50:44).

بُعد حاضر: وذلك يعني اكتشاف علامات الأزمنة بطريقة تترجم هذا الإيمان إلى عمل وواقع.

2) العهد الجديد

لا شكّ أن هناك تكامل حول مفهوم الإيمان في العهد القديم والعهد الجديد. فالإيمان هو قبول كلمة الله بكونها كلمة خلاصية في العهدين. لكن هنالك مفهوم جديد للإيمان في العهد الجديد ويعود ذلك إلى التحوّل الواضح في تاريخ الخلاص: فالإيمان يعني إعطاء جواب لله الذي أظهر نفسه عن طريق ابنه يسوع المسيح.

       ‌أ. الأناجيل الإزائية: في الأناجيل الإزائية لا يعني الإيمان مجرد قبول الشريعة وكلام الله كما كان في العهد القديم، بل الإيمان يعني قبول شخص السيد المسيح الذي بوساطته يريد الله أن يحقق الخلاص. ويدل الإيمان (التصديق) أيضاً على أمور معينة مثل الإيمان بالمجيء الثاني (مر21:13)، والإيمان بالعجائب (مر5:2)، والثقة بالله (مر22:11). ويأتي الإيمان من سماع الكلمة (روم14:10-21). والإيمان هبة (أف8:2، فل29:1) والإيمان معناه معرفة الله (غل 9:4) الإيمان هو رجاء الخلاص والحياة (روم 8:6).

      ‌ب.  بولس الرسول: جاءت بشارة القديس بولس في فترة ما بعد قيامة السيد المسيح، وركّز تبشيره على يسوع القائم من بين الأموات. لذا فالإيمان الحقيقي هو ذلك الموجّه نحو المسيح القائم والممجد. ليس الإيمان بالنسبة للقديس بولس أو للأناجيل الإزائية مجرد قبول فكري للوحي، إنما هو العطاء الكلي لشخص المسيح والاتحاد الكامل به. لذا نرى القديس بولس يركّز على الإيمان بيسوع المسيح الذي هو مصدر الخلاص إذ ليس الإيمان بالشريعة وبأعمال الشريعة هو الذي يعطي الخلاص.

      ‌ج.   يوحنا الرسول: يُعتبر تعليم يوحنا حول الإيمان من أكمل تعاليم العهد الجديد حول هذا الموضوع. إنه الإنجيل الذي كُتب من أجل إحياء الإيمان (31:20). ويوضّح يوحنا أن الإيمان هو عطية من الله. وأن الله يترك الحرية للإنسان بالقبول أو عدمه، وتقع المسؤولية كاملة على الإنسان الذي بإمكانه أن يقبل أو أن يرفض الإيمان. وأن خطيئة أعداء المسيح الكبرى هي أنهم رفضوا هذه العطية (9:16). ويركّز يوحنا على أهمية الشهادة للمؤمنين الذين باتباعهم وصايا الله بمحبة ووحدة يشهدون أمام العالم عن حقيقة الإيمان (21:17). ومن المعروف أن الصفة الغالبة للإيمان في العهد الجديد وخاصة في إنجيل يوحنا هي الثقة الشخصية القائمة على التصديق: "أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي" (1:14)، "صدقيني أيتها المرأة" (21:4). ويرى يوحنا أن الإيمان هبة البنوّة لله "أما الذين قبلوه وهم الذين يؤمنون باسمه فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله" (يو12:1). الإيمان هو الإيمان الشخصي بيسوع (يو 11:2، 16:3). إن أفعال المسيح تقودنا إلى الإيمان به (يو 10:14، 11:10، 36:5). وقد كتب إنجيله ليؤمن الناس به (يو 35:19، 20-31).

                ‌د.      أعمال الرسل: ويظهر الإيمان في أعمال الرسل كانتماء إلى مجموعة الرسل أي إلى مجموعة الكنيسة الأولى.

مما سبق نستخلص مفهوم الإيمان في العهد الجديد:

       الإيمان هو الانتماء إلى يسوع المسيح المخلّص المائت والقائم من بين الأموات.

         الإيمان هو الانتماء إلى شخص يسوع المسيح ورسالته.

         الإيمان هو الانتماء إلى يسوع المسيح من خلال الكنيسة التي هي "جماعة المؤمنين" والأسرار التي وضعها هو بنفسه كقنوات لنعمه. إنها أسرار الإيمان.

ثانياً: تعليم الكنيسة

1) المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول

علماً بأن الكتاب المقدس يضفي معان متعددة لكلمة الإيمان، إلا أن التعليم الكنسي الرسمي يستعمل هذا الإصلاح بمعنى تقني خاص. والإيمان حسب ما قرره المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول، هو موافقة العقل، بتأثير النعمة، على حقيقة أوحاها الله، لا لأننا نفهمها، بل لأن الله، الذي لا يمكن أن يغش أو أن يُغش، قد أوحاها وهكذا يقبل المسيحيون سرّ الثالوث الأقدس في الله الواحد بالإيمان، أي أنهم يقبلونه، لا لأنهم يفهمونه، بل لأن الله قد أوحى به. إن الذي أوحى به قد بلغنا إياه عن طريق ابنه الإلهي يسوع المسيح بوجه خاص (عب 1:1-2)، الذي اعتمدناه بفضل أعماله الخارقة. وقد أكد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول هذا (الوحي الإلهي 4-5).

يستقر الإيمان في العقل كفضيلة وفعل. ولكن الإرادة أيضاً تساهم في فعل الإيمان لأن الحقائق التي يوافق عليها العقل تفتقر إلى تلك البديهية التي تقرر عادة موافقة العقل. وتدخُّل الإرادة ضروي لدفع العقل لقبول الحقيقة الموحاة. وعليه "فمن طبيعة فعل الإيمان ذاته أن يتميز بالطوعية لأن الإنسان الذي افتداه المسيح المخلص ودعاه إلى التبني، لا يستطيع أن يتبع الله الذي أوحى إن لم يجتذبه الآب واضعاً بالله إيمانه بكامل وعيه وحريته" (الحرية الدينية 10). ولأن الإيمان يعتمد على سلطة الله الموحية وليس على البديهية الداخلية للحقيقة، فهو غامض، إلا أنه مع هذا ثابت ومؤكد. وبالإضافة إلى ذلك، فالإيمان، في بدايته وتطوّره، هو من فعل نعمة الله. وقد حدّد المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول موضوع الإيمان بقوله: "بموجب الإيمان الإلهي والكاثوليكي علينا أن نؤمن بكل شيء وارد في كلمة الله سواء كان موجوداً في الكتاب المقدس أو كان قد نقل إلينا، والذي أعلنت الكنيسة أنه موحي من قبل الله إما بقرار رسمي أو عن طريق تعليمها العادي والعام". وقد حدد المجمع نفسه ضرورة الإيمان: فبدون الإيمان من المستحيل ارضاء الله (عب 6:11). وعلى الأقل، فإن فضيلة الإيمان ضرورية للأطفال بينما على البالغين أن يوجهوا حياتهم تجاه الله بأفعال الإيمان.

2) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني

وقد أضاف المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني توضيحات أخرى. إن على كل تلميذ للمسيح واجب نشر الإيمان بحسب قدرته (دستور عقائدي في الكنيسة– 12). والأساقفة هم وعّاظ الإيمان بلا منازع. وهم يعظون الإيمان الذي يجب على المسيحيين أن يصدقوه ويمارسوه. إن من أهداف التعليم المسيحي جعل الشخص المعمد أكثر وعياً بنعمة الإيمان (التربية المسيحية –2). إن الروح تسند حِسّ الإيمان بين شعب الله. ويتوغل الإيمان في حياة المؤمن جميعها. وقبل أن يستطيع الناس المجيء إلى الليتورجيا (الطقسيات) يجب أن يُدعوا إلى الإيمان والهداية.