قضايا أخلاقية خاصة: الفضائل عموماً

الجزء الثاني: قضايا أخلاقية خاصة

الفصل التاسع:الفضائل عموماً

نبدأ مع هذا الفصل القسم الثاني من المدخل إلى اللاهوت الأدبي. ففي الفصول السابقة توجّهت اهتماماتنا نحو المبادئ العامة للاهوت الأدبي. أما الآن فسوف نبدأ بتطبيق تلك المبادئ على قرارات وأعمال محسوسة. سوف ننتقل من المبادئ النظرية إلى الواقع العملي.

سوف نناقش في الفصل الحالي موضوع الفضائل بصورة عامة، كمقدمة للفصول التي تليه، والتي ستبحث في مرحلة أولية الفضائل الإلهية، والتي غايتها المباشرة الله. وفي مرحلة لاحقة سوف نعالج الفضائل الأدبية والأعمال الأخلاقية التي هدفها المباشر الإنسان. ويتناسب هذا الترتيب مع وصايا الله العشر التي تتحدث الثلاث الأولى منها عن مسؤولية الفرد نحو الله، والسبع الباقية عن مسئوليته تجاه نفسه والقريب.

وقد تحدثنا آنفاً عن أهمية الفعل في تقريب الإنسان لله، ومن هنا جاءت أهمية الفضائل لأنها موجهة نحو العمل. وعن طريق فضيلة المحبة، بصورة خاصة، تتقرب المخلوقات البشرية من الله. ولهذا السبب تدعى فضيلة المحبة بملكة الفضائل. فالمحبة هي الفضيلة التي نحب الله بواسطتها فوق كل الأشياء من أجله هو، ونحب قريبنا كما نحب أنفسنا من أجل محبة الله.

أولاً: الكتاب المقدس

1) العهد القديم

يُعرّف العهد القديم الكثير من الفضائل والرذائل، إلا أنه لا توجد في اللغة العبرية كلمة تعبّر عن المفهوم العام للفضيلة. وتستعمل الترجمة "السبعينية" للتوراة، وهي النسخة اليونانية للعهد القديم كلمة "أريتي" للدلالة على مفهوم الفضيلة، التي تعني حرفياً "ممتاز، شريف". وفيما بعد أخذت الكلمة، في الأوساط غير المسيحية، تفيد معان جديدة كالغنى والشهرة بالإضافة إلى الأخلاق الحسنة.

بدأت الكلمة في المحيط الفلسفي اليوناني تأخذ معنى الفضيلة بمفهومها العادي وبدأت تؤثر في الفكر اليهودي. ففي سفر الحكمة تعني الكلمة السلوك الديني الأخلاقي للورعين (1:4، 13:5) والفضائل الرئيسية الأربع (7:8). ويوجد المفهوم العام للفضيلة في سفري المكابيين (2مك 28:10، 12:15) بمعنى الشجاعة والثبات والأمانة البطولية من جهة حفظ الإيمان في الحياة حتى الموت.

ويجري الكتاب المقدس قوائم من الفضائل والرذائل التي هي في البداية عبارة فقط عن بيانات لزلات مادية وأعمال فردية، مثل الوصايا العشر (خر2:20-17، تث 6:5-21). ويقدّم أشعيا (2:11) قائمة من الفضائل التي هي مصدر الأسماء التقليدية لمواهب الروح القدس، وهي على وجه التخصيص، الحكمة، والفهم، والنصيحة وهلم جرا.

وقد سبق وأن أشرنا إلى قائمة الفضائل الأربع الرئيسية في سفر الحكمة، الذي يحوي أيضاً قائمة من الرذائل (22:14-29). وتدلّ القوائم اللاحقة على تأثير علم الأخلاق اليوناني.

ومن المعروف أنه بالنسبة إلى العهد القديم الرجل الفاضل هو ذلك الذي يبحث عن الله بكل قلبه طائعاً الإرادة الإلهية.

 فالرذيلة الأساسية اتّباع آلهة أخرى (تث 14:6) وخيانة العهد. وبمقتضى ما جاء في المزامير (حز 2:1، 31:37)، فإن قلب الإنسان الفاضل ملئ بشريعة الله (مز 2:1، 31:37)، بينما يقول الإنسان الأحمق أو الشرير في قلبه أنه لا يوجد إله (مز 1:14).

2) العهد الجديد

يستعمل العهد الجديد كلمة "أريتي" للدلالة لا على فعل كريم من أفعال الله (1بط 9:2، 2بط 13:1)، وحسب بل على الفضيلة والاستقامة (فل 8:4، 2بط 5:1). ويعرض العهد الجديد بيانات عديدة للفضائل. فيتحدث بولس مثلاً عن تصميمه، وإخلاصه، وصبره، ومحبته، وتحمّله للاضطهاد والمعاناة (2طيم 10:3). انظر أيضاً (غل 22:5، قول 12:3-14، فل4 إلخ).

وليست هذه الفضائل نتيجة السعي البشري بقدر ما هي ثمرة الروح وعطية من عند الله. ويحوي العهد الجديد أيضاً قوائم من الرذائل. وهكذا فإن بولس يكتب أن رذائل الوثنيين تشمل الحقد، والجشع، والضغينة، والحسد، والقتل، والتخاصم، والخداع، والمكر (روم 29:1-31). انظر أيضاً (1قور 9:6-10، 2قور 20:12).

إن هذه القوائم تعكس التأثيرات اليهودية واليونانية. وفي العهدين القديم والجديد كليهما، تنبعث الفضيلة من القلب المليء بالمحبة (تث 5:6، 16:10، مر 30:12) وهكذا أيضاً تنبعث الرذائل من القلب وهي التي تجعل الإنسان نجساً (مت 19:15-20). ومن الضروري أن يُعاد خلقه بروح متجددة لكي يتطهر قلبه (مز 12:51). لقد بيّن المسيح لتلاميذه دور الروح في هذا التجدّد الداخلي (يو 26:14، 31:16).

ثانياً: تعليم الكنيسة

تؤكد الكنيسة وجود فضائل فائقة للطبيعة وطبيعية. ولا توجد الأولى إلا عن طريق الإفاضة، إذ أنها هبة مجانية من الله وهي مرتبطة بالضرورة بوجود النعمة المبررة. أما الفضائل الأخرى، بالمقابل فإمّا أن تكون ميولاً نحو فضائل معينة، التي يملكها الإنسان بالمزاج والوراثة، أو فضائل تكتسب بالمراس، أي بالأفعال المبتكرة. وتعلّمنا الكنيسة أن عبادة الله تتكون بصورة رئيسية من الفضائل الإلهية: الإيمان، والرجاء والمحبة.

أوصى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ببعض الفضائل للكهنة كطهارة القلب، والإخلاص، والقوة، ورباط الجأش، والبحث الحماسي عن العدالة، واللطف (حياة الكهنة-3). ولخلق إنسانية جديدة، دعا المجمع إلى تعهّد الفضائل الأخلاقية والاجتماعية.

ومن خلال الأسرار وممارسة الفضائل تعمل الكنيسة كجماعة كهنوتية. ويجب على رجال الدين والراهبات أن يحرّكهم تفانيهم في خدمة الله لممارسة الفضائل، وخصوصاً التواضع، والطاعة، والشجاعة، والعفة (تجديد الحياة الرهبانية-5).

 وعلى العلمانيين أن يقدّروا تقديراً كبيراً الفضائل المتعلقة بالسلوك الاجتماعي، كالاستقامة، والعدالة، والإخلاص، والحنان، والشجاعة. وتُمارس رسالة العلمانيين بالإيمان، والرجاء، والمحبة التي يفيضها الروح القدس في قلوب أعضاء الكنيسة جميعهم (رسالة العلمانيين-4).

ثالثاً: التفكير اللاهوتي

1) طبيعة الفضائل:

أ- ما هي الفضيلة: يعرّف البعض الفضيلة بأنها الاستعداد الدائم لسلوك طريق الخير. وبالنسبة للبعض الآخر هي حالة ثابتة تكمّل قوة النفس وتحوّلها إلى عمل. عمل الخير. وبالنسبة لغيرهم هي عادة صالحة أو صفة يكتسبها الإنسان تميل به إلى مزاولة الأعمال المطابقة لنظام الطبيعة، ومنطق العقل.

بالنسبة لأفلاطون: الفضيلة هي العلم بالخير والعمل به.

وأرسطو: الفضيلة هي الاستعداد الطبيعي أو المكتسب للقيام بالأفعال المطابقة للخير. وهي التي تجعل المرء وما يفعله صالحين.

وأما بالنسبة لتوما الإكويني فلقد عالج موضوع الفضائل من وجهة نظر القوى المتعددة  والطاقات الموجودة في الإنسان. ويعلّم الإكويني بأن كل قوة من القوى الكامنة في طبيعة الإنسان قابلة لاكتساب العادات المتنوعة. وتُسمى هذه القوى والطاقات بالملكات. وتتميز هذه بمقدار معين من الديمومة أو الاستقرار. وعندما تتوجّه الملكات نحو الخير الأخلاقي تُعرف بالفضائل. وعندما تتوجّه نحو الشر تُعرف بالرذائل.

ب- العادة والفضيلة: ليست الفضيلة مجرد عادة.

إن الفضيلة تقتضي في ممارستها تجدّداً حراً نابعاً من قصد داخلي وواقع عميق وحب للقيم الأخلاقية بينما العادة هي مجرد تكرار للعمل وتقتصر مراراً على المستوى الطبيعي الفيزيولوجي (عادة التدخين أو السكر مثلاً).

إن الفضيلة غنى وجمال داخلي يشع في الأعمال الخارجية. والإنسان الفاضل لا يكتفي بما وصل إليه من الفضيلة بل يتطلع دائماً إلى آفاق أوسع. والجدير بالذكر أن الفضيلة الحقيقية تنبثق من غنى المحبة كما أنها، في الوقت ذاته، تزيد هذه المحبة. إن من يقول فضيلة يقول استمرارية وسهولة في العمل الجيد الذي ينبع من جودة الإنسان الفاضل الداخلية.

إن الفضيلة تجنّد قوى النفس وتوجّه نشاطها نحو الخير.

إن الفضيلة الحقيقية تفترض عند الإنسان موقفاً جيداً وأساسياً وعاماً، إنها طبيعة ثانية تحمل على السعي وراء الخير وتجنب الشر بطريقة شبه عفوية ودائمة في مختلف الظروف والأحوال.

2) الفضائل الطبيعية

      ‌أ.   فضائل مكتسبة: تُعتبر هذه الفضائل مكتسبة لأن الإنسان نفسه يكتسبها بجهوده الشخصية. وأن أعماله هي التي تقوّيها. فعلى سبيل المثال يكتسب الإنسان فضيلة الصدق الطبيعية ويقويها عن طريق المثابرة على قول الحق.

إن ممارسة الفضائل الطبيعية تعكس متطلبات الشريعة الطبيعية. وتضفي الفضائل الطبيعية السهولة والسرور في العمل المتطابق. وهكذا فالشخص صاحب فضيلة الصدق يجد قول الصدق سهلاً وساراً. وحتى الخاطئ قد تكون لديه بعض الفضائل الطبيعية.

وهكذا فإن الشخص قد يكون صادقاً تماماً رغم كونه سكيراً. ومع هذا فإن الفضائل الأخلاقية مرتبط بعضها ببعض بطريقة تجعل وجود إحداها يتطلب وجود الأخرى. وهكذا فإن غياب فضيلة يؤثر على وجود أخرى. فالمدمن على معاقرة المسكرات مثلاً قد يجد أنه يستحيل عليه أن يصبح صادقاً.

     ‌ب.  الفضائل الأدبية الرئيسية: هي فضائل يكتسبها الإنسان وتميل به إلى أن يُكيّف سلوكه مع الله، ومع نفسه، ومع المجتمع باستقامة. وهذه الفضائل هي: الفطنة، العدالة، القناعة والقوة. وهي تُدعى فضائل رئيسية (cardinal– من اللاتينية "كاردو"، محور)، لأن الفضائل الأخرى جميعها يمكن ترتيبها أو تصنيفها انطلاقاً منها. الفطنة موجودة في العقل، وهي تتيح للفرد أن يتعرّف على واجبه الأخلاقي ووسائل تحقيقه. أما العدالة فتكمن في الإرادة، وهي تميل بالإنسان إلى أن يعطي لكل ذي حق حقه. أما القوة فموجودة في الأحاسيس، وهي تمكّن الإنسان من مجابهة صعوبات هذه الحياة بثبات وخصوصاً الخوف من الموت. أما القناعة فموجودة في الرغبة الشهوانية وتمكّن الإنسان من إبقاء عواطفه ومشاعره تحت سيطرة العقل.

   ‌ج.   الفضائل الأدبية الأخرى: يعتبر بعض اللاهوتيين الفضائل الرئيسية من مقتضيات كل فضيلة أخرى. لذا يمكن تصنيف الفضائل الأدبية المتبقية جميعها تحت الفضائل الرئيسية. وهكذا فإن تلك الفضائل لممارسة فضيلة أساسية تسمى الأجزاء المكمّلة بالفضيلة الأساسية: فمثلاً الحرص والحذر هما جزءان مكمّلان لفضيلة الفطنة؛ أو الأجزاء المرتبطة: مثلاً التغلّب على المصاعب وعدم التراجع أمامها هما جزءان مرتبطان بفضيلة الشجاعة. وتُدعى الفضائل المرتبطة بالفضائل الرئيسية (كارتباط النوع بالجنس) بالأجزاء الذاتية لتلك الفضيلة. وهكذا فإن العدالة القانونية، أو العدالة الاجتماعية، والعدالة التبادلية التي تسود بين الأفراد هي أجزاء مرتبطة بفضيلة العدالة الأساسية. وأخيراً فإن الفضائل التي تملك بعض خصائص الفضيلة الأساسية، ولكن ليست جميعها، تدعى الأجزاء المحتملة للفضيلة. ففضيلتا التواضع واللطف مثلاً، هما أجزاء محتملة لفضيلة القناعة.

   ‌د.    حلّ وسط بين نقيضين: يُقال في اللاتينية Virtus in medio stat أن الفضيلة تكمن في الوسط (خير الأمور أوسطها). وبعبارة أخرى يُقاس العمل بالمعيار الذي يقرره العقل.

 أما العمل غير الفاضل، فإنه يخالف هذا المعيار بالإفراط أو النقص. وهكذا فإن الشخص المفرط إما أن يسرف في الطعام أكثر مما يجب، أو بأن يقلل أكثر مما يجب. وفي هذا المعنى تكمن الفضيلة في الوسط. أما فيما يتعلق بأمور العدالة فإن الوسط لا يعني المعيار الذي يقرره العقل فحسب، بل أيضاً تقرره المساواة (لا أكثر ولا أقل) الواجبة للشخص الآخر.