لاهوت أدبي: فضيلة الإيمان (2)

ثالثاً: التفكير اللاهوتي[1]

1) ماهيّة الإيمان

أ‌-       حسب الرسالة إلى العبرانيين: "فالإيمان قوام الأمور التي تُرجى وبرهان الحقائق التي لا تُرى" (1:11).

ب‌- حسب المجمع الفاتيكاني الأول: "فضيلة فائقة الطبيعة يفيضها الله في نفس الإنسان وتمكّننا بمعونة النعمة الإلهية من قبول الحقائق التي أوحى بها الله ليس بكونها حقائق (ممكن أحياناً فهمها) بل بناء على كلام الله أعني حتى ولو قصر العقل عن إدراكها لأن الله الذي أوحى بها لا يغش ولا يُغش".

ج‌-  حسب المجمع الفاتيكاني الثاني: إن طاعة الإيمان أمر واجب لله الموحي (رو26:16؛ راجع رو 5:1؛ 2كور 5:10-6)، وبهذه الطاعة يفوّض الإنسان أمره إلى تدبير الله بكامل حريّته، فيُخضع له عقله وإرادته إخضاعاً تاماً، ويقبل، عن رضى، الحقائق التي يكشفها له. لكن لكي يؤمن بهذا الشكل، فهو بحاجة إلى نعمة الله السابقة والمساعدة، وإلى معرفة الروح القدس الداخلية، التي تحرّك القلب وتردّه إلى الله، وتفتح بصيرة العقل وتعطي الجميع العذوبة في قبول الحقيقة والإيمان بها. وهذا الروح بالذات لا يفتأ يكمّل الإيمان بمواهبه، لكي يعمّق فهم الوحي يوماً بعد يوم.

2) خصائص الإيمان

بناء على ما سبق، لفضيلة الإيمان أربعة خصائص أساسية:

                 ‌أ.  فضيلة فائقة الطبيعة: الإيمان فضيلة مفاضة من الله الخالق. إنها مبادرة إلهية وهبة مجانية من نعمته تعالى:

   هو عطية من الله بدونها لا نستطيع ارضاءه "بغير الإيمان لا يرضى الله من أحد لأن الذي يقترب إليه لابدّ أن يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يبتغونه" (عب 6:11).

   هو عطية مجانيّة "لا أحد يأتي إليّ ما لم يجتذبه أبي" (يو 44:6). وأكّد بولس مجانيّة الإيمان: "لأن الخلاص جاءكم بالإيمان، فليس ذلك منكم بل هو هبة من الله" (أف 8:2). ولا تعتمد هذه الهبة على حكمة بشرية بل على قدرة الله (1كور5:2). ودعوة الله إلى الإيمان ليست قهراً وإرغاماً لأنها تتطلّب مشاركتنا الحرّة بدليل وجود مؤمنين وغير مؤمنين ووجود تفاوت في الإيمان.

      ‌ب.  أن الإيمان جواب حرّ: لا يوجد "إيمان" إلا كموقف حرّ يختار من خلاله الإنسان بكامل حريته ودون إكراه، أن يتبع الله المخلّص وابنه الحامل رسالة الخلاص. يوجّه الله نداء الإيمان إلى كل إنسان وعلى الإنسان الجواب بالإيجاب أو الرفض على هذا النداء. ولهذا نجد في العالم مَن يؤمن أو مَن يرفض الإيمان ويقاومه. يشدّد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني على أهمية وضرورة الجواب الحرّ والشخصي باعتباره لقاء شخصي بين الله الذي يوجّهه والإنسان الذي يؤمن. وينطلق المجمع من موضوع الكرامة الإنسانية معتبراً الإيمان التزاماً شخصياً من شخص إلى شخص: شخص يوجّه النداء وشخص يلبّي النداء ويعطي الجواب. فالإيمان بهذا المعنى هو موقف وعلاقة شخصية وليس إيمان بأحكام شريعة معيّنة ولا إيمان بكتاب معيّن.

               ‌ج.      أن الإيمان هو جواب حرّ يقوم على دور العقل والإرادة: بما أن الإيمان هو جواب حرّ على دعوة الله فللعقل والإرادة دور هام. يقوم دور العقل على المعرفة إلا أنه لا ينحصر فيها ولا يتوقف عليها. باستطاعته أن يتوصّل إلى:

     اكتشاف ضرورة وأهمية الحقائق الإيمانية للخلاص فالله هو كشفها.

     إثبات بأنه ثمة لا تناقض بين الإيمان ومعطيات العقل السليم.

ويقوم دور الإرادة على إصدار فعل ثقة بالله بدعم من نعمته. وتشبه هذه الثقة ثقة الطفل بأمه فهو يرضى بأن تحمله معها حيث تشاء. وتشبيه آخر هو الشمع الذائب الذي يترك نفسه مطاوعاً بين يديّ الفنان ليجعل منه التحفة التي يريدها. وعبّر بولس الرسول عن هذه الثقة بقوله: "اعلم بمن آمنت" (2تيم 12:1). وقال فرنسيس الأسيزي: "إلهي وكل شيء لي".

             ‌د.         أنه إيمان موجّه نحو الكنيسة وفي الكنيسة ومن خلال الكنيسة: بينما ركز المجمع الفاتيكاني الأول على دور الكنيسة التي تقبل الإيمان وتحافظ عليه، نرى المجمع الفاتيكاني الثاني يتطرّق إلى موضوع خلاص كل إنسان حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى الكنيسة المنظورة.

3) بُعدان أساسيان لفضيلة الإيمان

أ- بُعد شخصي مركزه السيد المسيح: إن البُعد الأول للإيمان هو البُعد الشخصي ويُدعى كذلك لأن الإيمان هو علاقة شخصية بين الله والإنسان. ويرتكز هذا البُعد على السيد المسيح لأن الإيمان هو قبول خطة الله الخلاصية ولكن بوساطة ابنه المسيح يسوع.

1-  معطيات الوحي الإلهي:

(أ‌)  الإيمان هو قرار شخصي حرّ وواعٍ لقبول واتباع السيد المسيح. إنه خيار جذري (يو 24:8) وخيار مبني على العجائب (يو11:2) وخيار حرّ (يو36:6؛ 37:12).

(ب‌)  معطيات الوحي الإلهي:

     هو المسيح الإله الفادي والمخلّص (يو25:11؛ يو 30:20).

     حقيقة أساسية: قيامة المسيح. هذه الحقيقة مرتبطة بحقيقة ثانية ألا وهي كلمته المعلنة. "كتبت هذه لتؤمنوا!" (يو31:20) .

     ثمرة الإيمان هي الاتحاد بالله بوساطة المسيح، اتحاداً قادراً على تغيير الإنسان.

  إنه الاتحاد الذي يعبّر عنه بولس الرسول: بالتقرّب إلى الله بفضل المسيح (روم 1:5-2، أف 11:3-12) ويعبّر عنه يوحنا: بتعرّف الإنسان على يسوع وثمرة ذلك إقامة الله فيه، "من اعترف بيسوع هو ابن الله أقام الله فيه وأقام هو في الله" (1يو15:4).

  قادر على التغيير: يعبّر بولس الرسول عن هذه الفكرة بتعليمه حول "التبرير" (غلا 1:3-5، روم 1:5-2). يعبّر يوحنا عنها بتعليمه حول التشبّه بحياة الله وامتلاك حياة الله (يو 36:3؛ 40:6؛ 25:11).

(ج) الإيمان هو جواب على مبادرة مجانية من الثالوث الأقدس:

       الآب: هو الذي يجذب.

       الابن: هو الذي يعرّفنا على الآب ونحصل بوساطته على الإيمان.

       الروح القدس: هو الذي يعلّم كل شيء.

2-  معطيات اللاهوت

تساعدنا معطيات الكتاب المقدس على فهم البُعد الأخلاقي للإيمان، فالإيمان هو أساس الحياة الأخلاقية، إذا كان إيماناً مرتكزاً ومؤسساً على الرجاء والمحبة أي إذا كان قائماً على حقيقة إلهية. فلا يكفي الإيمان بمعزل عن الأعمال كما يظن بعض المسيحيين ونستنتج ثلاثة أبعاد للإيمان من الناحية الأخلاقية:

(أ‌)  الإيمان دعوة إلهية شخصية

    يعني الاعتراف بأن الله هو المصدر الوحيد للإيمان كفضيلة إلهية.

    هو عطية من الثالوث أي أن الله يعطي نفسه للمؤمن.

    الإيمان كدعوة يتطلّب من المؤمن النمو المستمر في التواضع (1كور 31:1، 2تس 13:2).

(ب‌) الإيمان هو الجواب الذي يعطيه الإنسان لله، وذلك يعني انه:

                       هو خيار جذري من قِبَل الشخص لله "لقد عرفنا الحبّ" (1يو16:3) "وآمنّا" (1يو16:4).

                       الإيمان هو ارتداد وهو تغيير عقلية: من عقلية أرضية زمنية إلى عقلية المسيح (رسالة العبرانيين 13).

                       الإيمان هو ذبيحة إذ فيه الألم الناتج عن عدم الوضوح من جهة والصراع مع العالم من جهة أخرى إذ أنه عالم متعلمن.

 (ج) الإيمان هو اتحاد شخصي بين الله والمؤمن

                       بالنسبة للقديس توما الإكويني: العنصر الأساسي في الإيمان هو الانتماء إلى شخص نتبعه بناء على كلمة منه. وما الحقائق المثبتة إلا العنصر الثانوي للإيمان.

                       يشبّه القديس توما أيضاً الإيمان بالزواج البتولي بين المسيح والمؤمن. لا شك أنه تشبيه عام إذ أنه من غير الممكن أن نضع المسيح والإنسان على قدم المساواة: إن عمل الله الخلاصي يسبق عمل الإنسان فيغيّره داخلياً ويرفعه إلى مستوى فائق الطبيعة جاعلاً إيّاه "خليقة جديدة" هذا هو المفعول السرّي للفضيلة المفاضة. وأكثر من ذلك تقوم فضيلة الإيمان المفاضة على مساعدة الإنسان في الالتزام للعيش بمقتضى الحياة الجديدة.

ب- بُعد كنسي: تتم الوحدة بين الله والإنسان من خلال الكنيسة (نور الأمم9). ويعرّف المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الكنيسة بأنها الواسطة التي وضعها لله لخلاص البشر: هي سرّ أو دليل أو إرادة للاتحاد الوثيق بالله ولتوحيد الجنس البشري (نور الأمم1). وهذا يعني أن البُعد الكنسي للإيمان المسيحي هو عنصر أساسي وكياني. وهذا ما يعلّمه الوحي الإلهي والتفكير اللاهوتي.

1-    معطيات الوحي الإلهي:

لقد سبق وأشرنا إلى أن الإيمان في العهد القديم هو بمثابة "عهد" بين الله والإنسان. وتدعو الأناجيل الإزائية إلى قبول البشارة بالإيمان كأساس للدخول في ملكوت الله (مر15:1) وفي الوقت ذاته فإن هذه البشارة هي التي تعطي الحياة لجماعة التلاميذ (مت 19:28-20). ويفرض الإيمان في أعمال الرسل الانتماء إلى جماعة المؤمنين (4:4، 32؛ 14:5؛ 7:6) كما أن العماد يتضمن طابع جماعي وطريقة عيش مشتركة. ويركّز بولس الرسول على العلاقة القائمة بين الإيمان والكنيسة: فالكنيسة هي التي تنقل رسالة الإيمان. وهي نفسها التي من خلال المعمودية تعطي الروح القدس مصدر الإيمان. أمّا يوحنا الإنجيلي فإنه يركّز على وحدة المؤمنين كعلامة مميزة تدفع الآخرين إلى الإيمان (20:17-21). إن وحدة الإيمان تأخذ وحدة الأب مع الابن نموذجاً لها.

2-    معطيات اللاهوت:

يؤكد اللاهوتيون أن الإيمان يحيا عبر الكنيسة وأن الكنيسة تحيا بالإيمان.

(أ‌)      الإيمان يحيا من خلال الكنيسة: إن الوساطة الكنسية هي التي تؤمن وجود الإيمان وتساعد على نموه بطرق مختلفة:

    من خلال السلطة التعليمية الكنسية، فللكنسية منذ عهد الرسل وإلى اليوم دور نبوي من خلال الكرازة والوعظ والتبشير.

    من خلال الأسرار المقدسة: فالكنيسة بكونها سرّ وعلامة وأداة خلاص لجميع البشر هي التي تنقل الإيمان خاصة من خلال المعمودية والإفخارستيا. ويرتبط هذا الإيمان ارتباطاً وثيقاً بالمسيح الذي يعمل بقوّته الذاتية بغض النظر عن الاستعداد البشري ويرتبط أيضاً بالكنيسة التي تعمل بقوة المسيح كما أرادها.

    من خلال الشهادة: يدعو المجمع المسكوني الكنيسة "نور الأمم"، أي تلك التي بحياتها وشهادتها تقود الأمم من الظلمات إلى النور.

    من خلال تجسيد الإيمان: إن الإيمان الحي هو ذلك الإيمان المقترن بالأعمال. فعلى الكنيسة أن تواصل أعمال المحبة على مثال الذي جاء ليخدِِم لا ليُخدَم.

(ب‌)  تحيا الكنيسة بالإيمان: يعطي الإيمان الوحدة الظاهرية والداخلية للكنيسة: فللكنيسة من الناحية الظاهرية، رسالة واحدة، وأما من الناحية الداخلية فالإيمان هو مشاركة جميع المؤمنين لعطية الروح القدس الواحدة والمُفاضة فيهم جميعاً. كما أن الإيمان يساعد الكنيسة على اتمام واجباتها من خلال رسالتها الثلاثية:

         رسالة كهنوتية: الاهتمام بتوزيع الأسرار التي هي قنوات نِعَم.

         رسالة نبوية: الاهتمام بكلمة الله من خلال إعلانها وعيشها.

رسالة ملوكية: الاهتمام بأعمال المحبة كتعبير صادق للإيمان الحي. من واجب الكنيسة تحضير المؤمنين للقاء مع الآب من خلال الخدمة في المحبة.




[1]  تنوّه إدارة المجلة بأن ما تقدّمه من موضوعات خاصة بالأب د. رمزي نعمة هي حصيلة ما سبق وتركه لنا من مذكراته الخاصة قبل انتقاله إلى الأمجاد السماوية.