السلوك المسيحي وفقاً للتعليم المعاصر للكنيسة وتطبيقه في الشرق (3)

2- الوصايا

يعلمنا يسوع المسيح، أساس إيماننا: "لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء: ما جئت لأبطل، بل لأكمل" (مت17:5). وفي لقائه مع الشاب الغني يؤكد يسوع حقيقة هامة: "إذا أردت أن تدخل الحياة فاعمل بالوصايا" (مت17:19). والحياة ليست فقط حياة ما بعد الموت، بل الحياة الأرضية أيضاً، حيث يبدأ ملكوت الله، ملكوت الحب(1). لذلك ليس المقصود هنا، حياة الفرد المتقوقع في عزلته، بل حياة الإنسان في مجتمع يتفاعل أعضاؤه ويحتكون بعضهم مع بعض في الأسرة والكنيسة والعمل والوطن؛ وبالتالي فالهدف من العمل بالوصايا هو الحصول علي الحياة لكل شخص(2).

وتظهر أهميتة الوصايا في الحياة المسيحية من خلال كلمات يسوع: "الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شيء" (مت5:18). وهنا تظهر العلاقة الوثيقة بين الحياة الأبدية والعمل بالوصايا الإلهية، فوصايا الله تهدي الإنسان إلى طريق الحياة وتوصله إليها. ولذلك يعلن المسيح للبشر، مرة أخرى، الوصايا العشر ويثبّتها ويضعها أمامنا كطريق وشرط للخلاص(1). ويوضح الإرشاد الرسولي "تألق الحقيقة":

"أما في العهد الجديد فموضوع الوعد "ملكوت السماء"، كما أعلن يسوع في "العظة على الجبل"- عظة تحوي الصيغة الأشمل والأكمل للشريعة الجديدة (مت5/7)، المتفقة اتفاقاً جلياً مع الوصايا العشر التي سلمها الله لموسى على جبل سيناء. وتتطابق العبارة "الحياة الأبدية" مع مضمون كلمة ملكوت، إنها الاشتراك بحياة الله ذاته، شركة تبلغ كمالها فقط بعد الموت، بيد أنها بالإيمان منذ الآن، نور الحق، ومصدر معنى الحياة، وهي بدء الاشتراك بالملء في اتباع المسيح"(2).

كما تحتل الوصايا مكاناً كبيراً في التعليم المعاصر للكنيسة، الذي يستند على الكتاب المقدس، ويوجه لنا دعوة لقراءة الوصايا بمفهوم يعمق مسيرتنا نحو الله من خلال الحياة العصرية. ففي اللقاء مع الشاب الغني، يوجه يسوع الدعوة إلى هذا الشاب ليفهم أن الجواب على السؤال: "ماذا أفعل من الصلاح، لتكون لي الحياة الأبدية؟" نجده فقط عندما نوجه روحنا وقلبنا نحو الله: "لا صالح إلا الله وحده" (مت 17:19) (3)، ويقول الإرشاد الرسولي تألق الحقيقة في هذا الصدد:

"يسوع يرد الفعل الصالح إلى جذوره الدينية، إلى الاعتراف بالله، الصلاح الأوحد، ملء الحياة الأبدية، غاية العمل البشري الأخيرة، والسعادة الكاملة… يتضح للإنسان من هو وما عليه أن يفعل عندما يظهر الله نفسه. فالوصايا العشر ترتكز على هذه الكلمات: أنا الرب إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر، من دار العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي (خر 20/2-3)" (1).

أراد يسوع في حواره أن يجذب الشاب إلى نقطة الارتكاز لكل وصية من الوصايا العشر، وهي ما تعنيه الآية: "أنا الرب إلهك". وبعد أن يُعدد الوصايا يكملها بوصية محبة القريب: "أحبب قريبك كنفسك" (مت 19:19)(2). وهكذا في الحوار مع الشاب الغني، يوضح يسوع أن الله هو الأساس الذي يرتبط به الإنسان، وأن القريب هو طرف حب يعيش معه الإنسان بما يستقبله من الله. ولذلك فهذا الحوار يذكرنا بإجابة يسوع على معلم الشريعة بخصوص الوصايا: "يا معلم ما هي أعظم وصية في الشريعة؟. فأجابه يسوع: أحب الرب إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل عقلك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والوصية الثانية مثلها: أحب قريبك مثلما تحب نفسك. على هاتين الوصيتين تقوم الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء" (مت36:22-40).

عندما نقرأ في سفر تثنية الاشتراع "اسمعوا يا بني إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد. فأحبوا الرب إلهكم بكل قلوبكم" (تث 4:6)، يمكننا القول إن الالتزام بالحياة الأخلاقية هو إجابة حب على مبادرات الله تجاه الإنسان. وعلى أساس هذا الحب، يوضح يسوع أن الوصايا يجب ألا تؤخذ كحد أدنى لا يجب أن نتجاوزه، بل كخطوة منفتحة على المسيرة الروحية والأخلاقية نحو الكمال، الحب روحها. وهو يدعونا إلى هذا الانفتاح في العظة على الجبل: "سمعتم إنه قيل لآبائكم: لا تقتل، فمن يقتل يستوجب حكم القاضي. أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القاضي، ومن قال لأخيه: يا جاهل استوجب حكم المجلس، ومن قال له: يا أحمق استوجب نار جهنم… سمعتم إنه قيل لا تزن. أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة ليشتهيها، زنى في قلبه (مت 21:5-22، 27-28). هكذا يريدنا يسوع أن نتجاوز حرفية الوصية، وأن يكون الحب هو أساس سلوكنا الأخلاقي تجاه القريب، وبالتالي تصير الوصية "لا تقتل" دعوة إلى حب يعطف على حياة القريب، يحميها ويغذيها. والوصية التي تحرّم الزنى تصبح دعوة إلى احترام الإنسان في كيانه الجسدي(1). فحفظ الوصايا، كما يريد المسيح، يتضمن احترام حياة الآخرين والعمل على إنمائها، ويتضمن أيضاً محبة القريب بقدر محبة النفس(2).   

بهذه المفاهيم تصبح الوصايا نوراً يضيء للإنسان مسيرته نحو الله ، وتكون له سنداً في الأوقات التي يبحث فيها عما يجب أن يفعله تجاه الله والقريب، وتتحوّل من مجرد قوانين وشرائع إلى وسائل تنمّي الحب في عمق الإنسان. وكل هذا يغيّر من نظرتنا لمعنى الخطيئة الذي كان يُقاس بأنه فعل ضد وصية أو شريعة ما، ويصل بنا إلى مفهوم عميق لمعنى الخطيئة الذي يتجسّد في كل فعل ضد حب الله وحب القريب. وبالتالي، من خلال الوصايا، يصبح الحب أساساً لمسيرتنا نحو الله؛ وعندما نخطئ لا نتوب بسبب الخوف أو العقاب وإنما تكون توبتنا بدافع الحب الذي يحررنا ويقودنا إلى الحياة.

3- الحرية والشريعة

تكثر معاني الحرية بكثرة المجالات المختلفة في الحياة. فهناك الحرية السياسية، والحرية الدينية، وحرية الاختيار فيما يخص طريق الدعوة، وحرية الاختيار بين الأشياء…الخ. ونحصر حديثنا هنا عن الحرية الشخصية وارتباطها بالشريعة وتأثيرها على السلوك الأدبي المسيحي.

إن اللاهوت الأدبي لا يتحدث عن الحرية الشخصية بصفتها إمكانية اختيار بين الخير والشر، وإنما يوضح أن الحرية الحقيقية تتحقق عندما يوجّه الإنسان طاقاته وإمكانياته نحو الخير. وترتبط الحرية بهذا المعنى بكرامة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. ولذا يحتاج الإنسان للشريعة لتضيء له الطريق وتوجه إلى الخير بحرية داخلية وتساعده لتحقيق إنسانيته وحريته، ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني:

"الحرية الحقيقية هي للإنسان علامة مميزة لصورة الله فيه لأن الله أراد أن يترك للإنسان مبادرته الذاتية حتى يستطيع أن يبحث عن خالقه من تلقاء نفسه وبالتصاقه به بحرية يحقق ملء السعادة. فكرامة الإنسان تقتضي إذن منه أن يتصرف وفق اختيار واع حر، يحركه ويحدده الاقتناع الشخصي وليس فقط الدوافع الغريزية أو الإكراه الخارجي ويصل الإنسان إلى هذه الكرامة حين يتحرر من عبودية أهوائه بالاختيار الحر للخير فيسير قدماً نحو مصيره مستعيناً بابتكاره  في  الوصول إلى وسائل تحقيق هذا المصير"(1).

في هذا النص، يوضح المجمع أن حرية الإنسان من الله، وكرامته تتطلب- في مسيرة العي إلى الخالق- السلوك الأدبي وفق اختيار واع؛ ويحقق الإنسان كرامته بالاختيار الحر للخير. لذلك يركّز تعليم الكنيسة على أهمية الحرية كعلامة مميزة لصورة الله في الإنسان، لأن الله يريد أن يتمتع الإنسان بالحرية- داخلياً وخارجياً- في التصرفات الحياتية. وهنا تكون الحرية الحقيقية عاملاً أساسياً لتعميق الإيمان والارتباط بالله. من هذا المنطلق، لن يتجنب الإنسان الخطأ لأنه حرام، أو أنه يعمل الصواب لأنه حلال(2)، وإنما سيتجه إلى الصواب لأن حريته توجه طاقاته وإمكانياته إلى الخير والحق حسب قول القديس بولس: "كل شيء يحل لي، ولكن ما كل شيء ينفع. كل شيء يحل لي، ولكن لا أرضى أن يستعبدني أي شيء" (1كور 12:6). لكي تتحقق هذه الحرية ، يحتاج الإنسان إلى الشريعة التي توضح له متطلبات الطريق في علاقته بالله وعلاقته بالقريب؛ وبالتفاعل الإيجابي بين الحرية والشريعة يجد الإنسان نفسه في انطلاقة في الحياة الاجتماعية ويعيش تصرفاته بحرية داخلية ملتزماً بمسؤولياته تجاه الجماعة كما يوضح المجمع الفاتيكاني الثاني:

"تنتعش الحرية عندما يتقبل الإنسان التضحيات التي تقتضيها الحياة الاجتماعية ويتحمل التبعات الكثيرة التي يفرضها التضامن عليه عندما يضع نفسه في خدمة الجماعة"(1).

من هذا النص، نستنتج أن الإنسان في تفاعل مستمر مع الجماعة. فإذا كان هذا التفاعل إيجابياً، فالإنسان يحقق ذاته بشخصيته من خلال الجماعة، وإذا كان التفاعل سلبياً، فالنتيجة تؤثر على الشخص ذاته وعلى الجماعة بطريقة سلبية. وهذا الاستنتاج يصل بنا إلى ما يركز عليه اللاهوت الأدبي الحديث، وهو البُعد الجماعي والاجتماعي للخطيئة. ففي الماضي كان التركيز على البعد الفردي والخطيئة الشخصية، وبالتالي ارتبط هذا المفهوم بالخلاص الفردي؛ أما اليوم فالتعليم المعاصر للكنيسة يضع في اعتباره ارتباط الخلاص الفردي بالخلاص الجماعي، ويوضح العلاقة بين الخطيئة الشخصية (البعد الشخصي) والخطيئة الاجتماعية (البعد الجماعي):

"ما من خطيئة، ولو كانت على أكبر قدر من الحميمية والسرية والفردية، تعني فقط من ارتكبها وحده. لأن كل خطيئة كبُر أم صغُر حجمها، كثُر أو قلّ أذاها، بنعكس أثرها على الجماعة الكنسية كلها، وعلى العائلة البشرية جمعاء"(2).

إنطلاقاً من هذا التعليم، نؤكد أن الخطيئة بالمعنى الحصري، هي فعل الفرد وهي إهانة ضد حب الله وحب القريب في ذات الوقت. لذلك تتجسد الخطايا الاجتماعية في كل فعل ضد العدل، وما يمس حقوق الإنسان وخاصة الحق في الحياة، وفي كل فعل ينقص من حرية الآخرين، وكل فعل يُرتكب ضد الخير العام(3). غير أن الكنيسة عندما تتحدث عن الخطيئة الاجتماعية، حتى وإن كانت لمواقف جماعات بأكملها، فهي تعلن أن خطايا اجتماعية من هذا النوع هي نتيجة عدة خطايا شخصية متراكمة مترابطة:

"إنها خطايا شخصية يقترفها من يتسبب بالظلم ويسانده أو يستغله، ومن كان بإمكانه أن يعمل على تحاشي بعض الأضرار الاجتماعية وإزالتها، أو على الأقل وضع حد لها، وتقاعس عن ذلك، إهمالاً وخوفاً وممالقة وسكوتاً مخزياً، وتواطؤاً مقنّعاً أو لا مبالاة، ومن يختبئ وراء الإدعاء باستحالة تغيير العالم، ومن يريد أيضاً اجتناب المشقة أو التضحية بإختلاقه أسباباً هامة. إن المسؤولية الحقيقية تقع إذن على عاتق الأشخاص"(1).

إن هذا البعد الجديد في تعليم الكنيسة يجعلنا ندرك أهمية تكوين الحرية الحقيقية داخل المؤمنين. وذلك لكي يشعر هؤلاء بمسؤولياتهم الشخصية والجماعية، وعندما توجه هذه الحرية الطاقات والإمكانيات نحو الخير العام والخاص، يحقق المسيحيون دعوتهم الموجهة إليهم من السيد المسيح بأن يكونوا "ملح الأرض"، و "نور العالم" (مت 13:5-14).

4- الضمير

يضع التعليم المعاصر للكنيسة مكانة مميزة لموضوع الضمير، لما له من أهمية كبرى وتأثير عميق على السلوك المسيحي، فهو صاحب القرارات التي تجعل الإنسان في تقدم نحو غايته أحياناً، وتجعله يبتعد عنها أحياناً أخرى. وتضاعف الاهتمام بموضوع الضمير، لأنه يعمق الحوار بين البشر- مؤمنين وغير مؤمنين- بصفته الشريعة التي وضعها الله في قلب كل إنسان. ويركز اللاهوت الأدبي الحديث على أهمية الضمير لارتباطه بالحرية الشخصية والشريعة، كما أن الإنسان بوحي الضمير ينطلق في مسؤولياته الشخصية والأسرية، ومسؤولياته تجاه الكنيسة والمجتمع. بسبب هذه الأهمية، انطلق كثيرون ووضعوا الضمير في المكانة الأولى، وآخرون قيدوا الضمير بطريقة تجعل من الإنسان آلة تنفذ ما تأمر به الشريعة بدون وعي وفهم للحقائق. وتعليم الكنيسة لا يذهب في إتجاه أي من هذين التيارين، ويوجز لنا تعريف الضمير فيما يقوله المجمع الفاتيكاني الثاني:

"يشعر الإنسان في أعماق ضميره بقانون لم يفرضه على نفسه ولكنه عليه الامتثال له- وهذا الصوت الذي لا يتوقف عن ملاحقته يحثه على محبة الخير وعمله، وعلى تجنب الشر، يردد في الوقت المناسب في أعماق قلبه "افعل هذا وتجنب ذاك"- ولا غرو فإن اله قد سجل هذه الشريعة في قلب الإنسان فإذن كرامة الإنسان في الخضوع لها وهي التي تحاسبه وتدينه. إن الضمير هو المركز الأكثر سرية في الإنسان، هذا الهيكل الذي يختلي فيه بالله وحيث يستمع إلى كلام الله- وهذه الشريعة التي تتحقق في حب الله والقريب يكشفها الضمير بصورة عجيبة"(1).

إن هذا النص يوضح لنا بُعداً في غاية الأهمية، وهو أن التفاعل مع الضمير يمكّن الإنسان من إدراك الشريعة الإلهية، وأن الإنسان يصل إلى غايته التي هي الله باتباعه هذه الشريعة بإخلاص في سلوكه اليومي(2). وبناء على ذلك يحذر المجمع من إكراه الإنسان على ما يخالف ضميره، ويقول:

"لا يجوز أن يكره الإنسان على ما يخلف ضميره، ولا يجوز أيضاً أن يمنع من القيام بما يملي عليه ضميره وبنوع خاص فيما يمس شئونه الدينية، وممارسة الدين في صميمها ترتكز قبل كل شيء على أفعال باطنية اختيارية حرة، يقوم بها الإنسان ليتصل بالله مباشرة، ومثل هذه الأفعال لا تملك أية سلطة بشرية أن تفرضها أو أن تمنعها"(3).

إنطلاقاً من هذا، يوضح تعليم الكنيسة القوة الإلزامية لكم الضمير ومسئولية الإنسان في الخطأ إذا خالف هذا الحكم، ويبين أن حكم الضمير يضع القاعدة المباشرة لتقييم أخلاقية فعل الإرادة بتطبيق الشريعة الموضوعية على حادث معين(1). وتُظهر الرسائل البابوية في الآونة الأخيرة ضرورة إتباع حكم الضمير، فنجد في الإرشاد الرسولي تألق الحقيقة:

"لحكم الضمير قوة إلزامية، كما للشريعة الطبيعية وأي معرفة عملية، وعلى الإنسان أن يعمل بموجبه. وإذا خالف هذا الحكم أو ارتكب فعلاً معيناً لم يقتنع باستقامته وصلاحه، فإنه يدان من ضميره ذاته، محك أخلاقية كل إنسان"(2).

بناءً عل ما سبق، فاللاهوت الأدبي الحديث في تركيزه على أهمية الضمير، يلفت نظرنا ويوجهنا إلى عنصر له أهميته في هذا الموضوع، وهو تربية الضمير. فإذا كان الضمير هو الحكم الأخير، فلا يجوز أن يُترك علي سجيته؛ فكما أن عقل الإنسان يحتاج إلي التربية والتثقيف بالعلوم المختلفة لينمو في المعرفة وينمي إمكاناته ويتقدم في اختراعاته، كذلك يحتاج الضمير للتربية والتثقيف ليستطيع توجيه تطور العلم في سبيل خير البشرية كلها(3). وهذا يوضح لنا أن الضمير ليس المصدر الوحيد لتقرير ما هو خير وما هو شر، بل إن فيه دافعاً، طُبع عليه، إلى التقيد بشريعة موضوعية، عليها ترتكز وتتكيف استقامة ما يأخذ من قرارات، على ضوء الأوامر والنواهي التي تنظم الحياة البشرية(4).

إن تربية الضمير مسئولية خطيرة في عالم اليوم، وخاصة تربية الضمير على التمييز، فالإنسان قد يخطئ في تقدير الخير، فيمزج بين الخير ومصلحته الشخصية، ولا ينظر إلى نتائج عمله على نفسه وعلى المصلحة العامة وعلى غيره من الناس(5). وتربية الضمير هنا لا تعني التحرر من الشرائع، وفي ذات الوقت لا تعني الخضوع للشرائع خضوعاً جزئياً:

"فالإنسان الذي يرفض الشرائع ويريد أن يتبع فقط نزواته لا يقوم بعمل أخلاقي، والإنسان الذي يكتفي بالخضوع للشرائع دون أن يقنع ضميره بأن ما توصي به الشريعة هو منير لا يقوم بعمل أخلاقي"(1).

من هذا المنطلق، فتربية الضمير تحقق في مساعدة الإنسان على الوصول إلى الحرية الناضجة، ليكون هو نفسه صاحب القرار والمسؤول عن أعماله، فلا يتجنب الشر عن خوف من العقاب، بل يتجه إلى الخير من معرفة واقتناع وإحساس بالمسؤولية تجاه هذا الخير. وهنا يمكننا القول إن تربية الضمير هي فعل مزدوج: تربية الحوار أي تثقيف الإرادة والمسئولية، وتربية العقل أي تثقيفه على إدراك الخير ومعرفته(2). إن هذا المفهوم عن تربية الضمير يناسب كل إنسان، ولكن اللاهوت الأدبي الحديث يضيف إليه المزيد عندما يوجه النداء للمسئولين عن تربية الضمير في الكنيسة، ويوضح أن تربية الضمير- حسب روح الإنجيل والعهد الجديد هي تربية الإنسان على أن يقوم بكل أعماله وهو ينظر إلى الآخرين نظرة الله نفسه، أي نظرة المحبة(3)، وعليه أن يفسر كل الشرائع في إطار هذه النظرة، وبالتالي يزول التناقض بين الشريعة والضمير(4).

هكذا يصبح الضمير قوة في الإنسان تنظم له العلاقة بين حريته والشريعة، ويصبح بالفعل المركز الأكثر سرية في الإنسان والهيكل الذي يتقابل فيه مع الله ويستمع إليه(5)؛ وفي هذه الحالة يقود الإنسان ليمجد الله ويشهد له أمام الآخرين ويشاركه حياته الإلهية أي يقوده إلى التألّه.

 




(1) كيرلس سليم بقطر ( المطران ) ، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، الجزء الأول، (الفكر المسيحي بين الأمس واليوم) 16، المكتبة البولسية، بيروت، 1995، ص66.

(2) المرجع ذاته.

(1) إرشاد رسولي "تألق الحقيقة"، رقم12.

(2) المرجع ذاته.

(3) المرجع ذاته، رقم9.

(1) المرجع ذاته، رقم9، 10.

(2) إرشاد رسولي "تألق الحقيقة"، رقم13.

(3) المرجع ذاته رقم 15.

(1) المرجع ذاته، رقم15.

(2) كيرلس سليم بستروس (المطران)، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، ص66.

(1) دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم17.

(2) تسيطر فكرة الحلال والحرام على عقلية الناس، فهم يتجنبون الخطأ لأنه حرام وخوفاً من العقاب، ويتجهون إلى الصواب بحكم الفرض. وهذا لا يجعل الإنسان يشعر بحرية أبناء الله في داخله.

(1) دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 31.

(2) يوحنا بولس الثاني ، ارشاد رسولي بشأن المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم ،  روما 1987، رقم16.

(1) المرجع ذاته.

(1) المرجع ذاته.

(1) دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 16.

(2) بيان عن الحرية الدينية، رقم3.

(3) المرجع ذاته.

(1) إرشاد رسولي تألق الحقيقة، رقم 59.

(2) المرجع ذاته، رقم60.

(3) كيرلس سليم بستروس، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، ص112.

(4) يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة "الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم"، روما 1986، رقم 43.

(5) كيرلس سليم بستروس، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، ص112.

(1) المرجع ذاته ص113.

(2) المرجع ذاته.

(3)  تربية الضمير على المحبة والنظرة إلى كل إنسان على  أنه القريب ، مثل السامري  الصالح (لو25:10-37)، وتربية الضمير على المحبة في المواضيع التي تسبب عثرات في بعض الأحيان مثل موضوع الأكل من ذبيحة الأوثان (1كور 8-10).

(4) كيرلس سليم بستروس، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، ص113.

(5) دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم16.