السلوك المسيحي وفقاً للتعليم المعاصر للكنيسة وتطبيقه في الشرق (4)

ثالثاً: رؤية مستقبلية

إن النقطتين السابقتين- واقع الكنيسة الشرقية، وتعليم الكنيسة- توحيان لنا بخطوط عريضة لرؤية مستقبلية نوضح، من خلالها، كيفية تطبيق تعليم الكنيسة في الشرق. ونشير إلى أهمية البنية الجديدة للاهوت الأدبي، لتكون رؤيتنا مبنية على أساس قوي. تتجسد هذه البنية فيما حدث من تطور في مادة اللاهوت الأدبي الحديث؛ فبينما كان الأسلوب في الماضي يعتمد على تطبيق المبادئ الأدبية على حالات، ليعرف الإنسان إذا كان في طريق الصواب أم الخطأ، بدأت الدراسات تحتضن السلوك في جميع مجالات الحياة. هكذا دخل اللاهوت الأدبي الحديث في علاقة بمجالات جديدة عليه مثل المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويقودنا هذا إلى عرض رؤيتنا المستقبلية من خلال بعدين:

 أولهما البعد الجماعي الاجتماعي                   

وثانيهما البعد الروحي.

1-        البعد الجماعي والاجتماعي

يقوم البعد الجماعي والاجتماعي بدور كبير في تجديد مسيرة الكنيسة، وخاصة عندما نضع في اعتبارنا أن الله يدعو البشر للقداسة وللخلاص ليس كأفراد بلا رباط يجمع بينهم، بل كشعب يعرفه في الحق ويخدمه في القداسة[1]. ولذلك يؤكد لنا المجمع الفاتيكاني الثاني:

"إن عمل الفداء الذي قام به المسيح، المتعلق أساساً بخلاص البشر، يشمل أيضاً تجديد النظام الزمني برمته. ومن ثم، فرسالة الكنيسة ليست مقصورة على حمل رسالة المسيح وتوصيل نعمته للبشر وحسب، وإنما تشمل أيضاً التغلغل في النظام الزمني والسير به نحو الكمال، بالاستعانة بروح الإنجيل"[2].

يوضح لنا هذا النص أن رسالة الكنيسة تتحقق في تجسدها في النظام الزمني، وبالتالي على الكنيسة أن تنمي في النفوس مفاهيم العدالة والمحبة وبذل الذات في سبيل المصلحة العامة لتساهم في بناء حياة سياسية تتسم بالإنسانية الصحيحة[3]. كما يظهر لنا واجب الكنيسة في الاهتمام جدياً بالتربية الوطنية والسياسية، ليكون المواطنون قادرين على أداء رسالتهم في الحياة الجماعية السياسية، وليكافحوا أيضاً بنزاهة وفطنة ضد الظلم والطغيان والاستبداد وعدم التسامح[4]. وهكذا تتجسد الكنيسة في المجال السياسي من خلال مؤمنيها الذين يشهدون لحب المسيح بسلوكهم الوطني، ويصبح حضورهم في الجماعة السياسية حضوراً حقيقياً ودعوة لحب الوطن بطريقة فعّالة.

ويمكن للكنيسة أن تلعب دوراً هاماً في المجال الاقتصادي الاجتماعي، فهي تركز على قيمة الشخص الإنساني وكرامته وتشيد بالخير العام للمجتمع بأسره، إيماناً منها بأن الإنسان هو صانع الحياة الاقتصادية الاجتماعية كلها وهو محورها وغايتها[5]. لذلك تحاول الكنيسة في تعليمها، أن تلفت نظر جميع الناس أن الله أعد الأرض وكل خيراتها لمنفعة الجميع، بحيث يجب أن تتدفق كل الخيرات إلى جميع البشر، طبقاً لقواعد العدالة، المصحوبة بالمحبة[6]. ويؤكد المجمع:

"ينبغي دائماً على الإنسان، حين يستخدم هذه الخيرات، أن يعتبر ما يملكه شرعياً غير خاص به دون غيره، بل مشتركاً، أي جديراً بأن يعود بالنفع على الجميع، لا عليه هو وحده"[7].

كما تؤمن الكنيسة بأن التقدم الاقتصادي يستطيع التخفيف من الفوارق الاجتماعية إذا كان موجهاً بطريقة إنسانية، بالرغم من أنه في عصرنا هذا، يؤدي في كثير من الأحيان إلى توسيع هذه الفوارق، وفي بعض الأماكن إلى تقهقر الحالة الاجتماعية للطبقة الضعيفة وإلى الازدراء بالفقراء[8]. وكل هذا يضع الكنيسة في مواجهة قضية عصرية خطيرة، وهي قضية الجشع الاستهلاكي لدى غالبية الناس وخاصة القادرين منهم. ويستند الإرشاد الرسولي "تألق الحقيقة"، في هذا الصدد، على التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، إذ يقول:

"في الشأن الاقتصادي يتطلب احترام كرامة الشخص البشري ممارسة فضيلة القناعة لكبح جماح جشع التمتع بخيرات هذا العالم، وفضيلة العدالة لاحترام حقوق القريب وإعطائه ما يحق له، وفضيلة التضامن الإنساني، جرياً على القاعدة الذهبية واقتداءً بسخاء الرب الذي لأجلنا، صار فقيراً، وهو الغني لنغتني نحن بفقره" (2قور 8/9) [9].

ويشجب تعليم الكنيسة الأفعال التي تتنافى والكرامة الإنسانية مثل السرقة، واحتجاز الودائع والأغراض المفقودة، والغش التجاري (تث 13:25-16)، وهضم الأجور ظلماً (تث 14:24-15؛ يع 4:5)، واستغلال جهل الغير أو عوزه لرفع الأسعار بهدف جني الأرباح (عا 4:8-6) واغتصاب إيرادات مؤسسات المجتمع والاستئثار بها، والأعمال المنفذة بطريقة خاطئة وما تلحق من ضرر للقريب، والبذخ والتبذير.. الخ[10]. كما يندد التعليم المسيحي بالأعمال التي تهدد الكرامة الإنسانية مثل استعباد الناس بسبب المادة وابتياعهم وبيعهم والمقايضة بهم كما لو كانوا سلعة، أو استغلال أشخاص بشريين كمصدر كسب بتحويلهم إلى عملة متداولة[11]. والكنيسة تخاطب الضمائر الصالحة أن يعاونوها في مقاومة هذه الأفعال لأجل الخير العام وخير الإنسان.

أما المجال الاجتماعي، فيمكن للكنيسة أن تتغلغل فيه بكل قوتها المستمدة من الرب يسوع بالروح القدس. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مشكلة تلوث البيئة بسبب التلوث الإشعاعي، وازدياد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو بسبب عادم السيارات والعادم الناتج من المصانع وبالذات تلك القريبة للمناطق السكانية…إلخ. ولابد أن يدخل الوعي البيئي كأحد مكونات الضمير المسيحي، وعلى الكنيسة ألا تكف عن توجيه النداءات للمسؤولين ليقضوا، بقدر إمكاناتهم، على هذه المشكلة. ومن جهة أخرى على الكنيسة أن توعّي مؤمنيها ليقوم، كلٌ في مجاله، بدوره وليتضامن مع الآخرين لمواجهة خطر التلوث. وإذ تقوم الكنيسة بهذه المواجهة، فهذا لأنها تجعل من الإنسان، بدون تحيز أو تفريق، محور اهتمامها ومركز محبتها. وتقول الرسالة العامة "إنجيل الحياة":

"خدمة المحبة تجاه الحياة، يجب أن تتناغم تناغماً عميقاً: فليس من المسموح أن تأتي هذه الخدمة على شيء من التمييز والتفريق، لأن الحياة البشرية مقدسة وحصينة في كل مراحلها وأوضاعها. فعلينا إذن أن نعني بكل الحياة وحياة الكل"[12].

وتتسع المجالات وتتعدد عندما تفكر الكنيسة في خدمة الإنسان. فبالاستناد إلى التعليم الذي يوضح البعد الجماعي والاجتماعي للخطيئة وبالتالي الارتباط بالخلاص الجماعي، تدعو الكنيسة كل أعضائها، كلٌ حسب وزناته، أن يتعاونوا ويتضامنوا في تكوين جماعات ومؤسسات تخدم المجتمع الإنساني ككل. وتظهر هنا ضرورة تكوين مؤسسات ترافق العائلات، خاصة حديثة الزواج، وترسخ فيهم القيم الأخلاقية المؤسسة على الحب، وتكون لهم سنداً في الشئون الأسرية. ويجب ألا يقتصر مجهود الكنيسة على هذا فقط، وإنما عليها مسؤولية كبيرة تجاه الأوضاع المحزنة في عالم اليوم. ويقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة "إنجيل يوحنا":

 

"في مواجهة أوضاع مربكة وحالات انحراف أو مرض أو تهمش تقوم مؤسسات أخرى: منها جماعات تأهيل المدمنين وجماعات استقبال القُصّر ومرضى العقل ومراكز العناية بمرضى الإيدز وجمعيات التضامن وبخاصة للمعاقين. هذه المؤسسات هي تعبير بليغ لما تستطيعه المحبة أن تستنبطه لتعطي كل إنسان دواعي جديدة للرجاء وإمكانيات راهنة للعيش"[13] .

 وتلّح الرسالة العامة "إنجيل الحياة" على ضرورة الاهتمام بالمسنين وخاصة العجزة، والمرضى في أيامهم الأخيرة، كما توضح الهوية الحقيقية للمستشفيات والعيادات ودور العناية في كونها أماكن حيث الألم والعذاب والموت تُفهم وتُفسر في معناها البشري الأصيل والمسيحي المميز، وخاصة إذا كانت هذه الأماكن تابعة للكنيسة[14]. وتعبر الرسالة الرعوية "سر الكنيسة"، الصادرة من مجلس بطاركة الشرق، عن اتفاقها مع مضمون ما جاء في الرسالة العامة "إنجيل الحياة" عن ضرورة تجسيد الإنجيل والكنيسة في الحياة "فإن لم يستمر تجسيد الإنجيل في البيئة الحاضرة انقطع عن مسيرة الحياة التي لا تتوقف، وأصبح التقليد حرفاً ميتاً وعبودية تخنق الحياة ولا تستجيب لمتطلباتها، وكان ذلك أحد أسباب ابتعاد المؤمنين عن الكنيسة"[15].

ولكي يتجسد الإنجيل والكنيسة في الحياة، لابد من التعاون بين الإكليروس والعلمانيين. وذلك لأن الكنيسة لا تحيا حياة كاملة بدون علمانيين، ولا يمكن للإنجيل أن يتأصل بعمق في طبائع شعب ما وفي حياته، دون الحضور الفعّال للعلمانيين[16]، وخاصة أن هؤلاء- حسب قول المجمع- لديهم دعوة خاصة لجعل الكنيسة حاضرة وعاملة في الأماكن والظروف التي لا يمكنها أن تكون فيها ملح الأرض إلا عن طريقهم[17]. ويتطلب هذا التعاون بين الإكليروس والعلمانيين أن ينظر بعضهم إلى بعض، لا من منطلق "نحن" و "أنتم"، بل من منطلق "نحن معاً"، أي أعضاء في جسد المسيح الواحد، كلٌ بحسب دعوته في الكنيسة[18].

عندما تعيش الكنيسة البعُد الجماعي والاجتماعي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تستطيع أن تكتشف ما يعانيه الناس من مشاكل وهموم، ويمكنها أن تشارك الإنسان آلامه وصعوباته. بالتالي يشعر المؤمنون بالحضور الحي للكنيسة في حياتهم، ويثقون أن السلطة التعليمية لا تقودهم من برج عاجي، وإنما تقودهم وهي متحدة في الواقع الحياتي. وهنا يمكن للتعليم المعاصر أن يجد قلباً منفتحاً لدى المؤمنين يتقبلون به كلمة الكنيسة، ويتكون لديهم الوعي بسمو دعوتهم في المسيح، ويحاولون أن يكونوا، بسلوكهم الأخلاقي، شهوداً لحب المسيح في العالم.




[1] دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 32.

[2] قرار في رسالة العلمانيين، رقم 5.

[3] دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 73.

[4] دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم75.

[5] دستور الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 63.

[6] المرجع ذاته، رقم 69.

[7] المرجع ذاته.

[8] المرجع ذاته، رقم 63.

[9] إرشاد رسولي "تألق الحقيقة"، رقم 100.

[10] المرجع ذاته.

[11] المرجع ذاته.

[12] يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة "إنجيل الحياة"، روما 1995، رقم87.

[13] يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة "إنجيل الحياة"، روما 1995، رقم 87.

[14] المرجع ذاته.

[15] مجلس بطاركة الشرق الكاثوليكي، الرسالة الرعوية "سر الكنيسة"، الأمانة العامة- بكركي 1996، رقم 62.

[16] مرسوم في نشاط الكنيسة التبشيري، رقم 21.

[17] دستور عقائدي في الكنيسة، رقم33.

[18] مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، سر الكنيسة، رقم 59.