السلوك المسيحي وفقاً للتعليم المعاصر للكنيسة وتطبيقه في الشرق (1)

كل إنسان- مهما كانت ديانته وعقيدته- يبحث عن غايته القصوى، لأنه مخلوق على صورة الله ومثاله، وبطبيعته يتطلع إلى المطلق. وتمنح نعمة الإيمان نوراً الهياً ينير المسيحي، ويجعله يكتشف أن غايته القصوى هي الله. وفي المسيرة تجاه هذه الغاية الفائقة الطبيعة، يخطو الإنسان خطوات إلى الأمام أحياناً ويتراجع إلى الخلف أحياناً أخرى، بسبب اصطدامه ببعض التيارات والتحديات التي تبعده عن غايته. وهنا لا يستطيع الإنسان أن يهرب من تساؤلات تجول في داخله: ماذا ينبغي أن أفعل؟ كيف أميز بين الخير والشر؟ كيف أستمر في التقدم نحو الغاية القصوى، بالرغم من التحديات التي أقابلها في الحياة؟. أمام هذه التساؤلات، يتجه الإنسان المسيحي إلى الكنيسة ليستنير بتعاليمها وليعمق مسيرة خلاصه. والمجمع الفاتيكاني الثاني يوضح دور الكنيسة في مساعدة الإنسان الباحث عن الحقيقة:

"إن الكنيسة المرسلة من الله إلى الأمم لتكون سراً شاملاً للخلاص تسعى جاهدة إلى إعلان الإنجيل لجميع البشر، طبقاً لصميم مقتضيات الجامعية الخاصة بها، وعملاً بأمر مؤسسها. فإن الرسل أنفسهم، الذين بنيت عليهم الكنيسة مقتفين آثار المسيح، بشروا بكلمة الحق وأحدثوا الكنائس. ومهمة خلفائهم هي أن يجعلوا هذا العمل مستمراً على الدوام، حتى تنتشر كلمة الرب وتمجد (2تس1:3)، ويعلن ملكوت الله ويُقام في جميع أنحاء العالم. وفي الأوضاع الراهنة، التي نجمت عنها حالة جديدة للبشرية، فإن الكنيسة التي هي ملح الأرض ونور العالم، مدعوة إلى أن تخلص كل الخليقة وتجددها، حتى يتم إصلاح كل شيء في المسيح"[1].

نلاحظ انطلاقاً من هذا النص، أن رسالة الكنيسة على مر العصور، تتحقق في التبشير بالمسيح ابن الله وبإعلان الخلاص لكل البشر، وفي ذات الوقت، تضع في اعتبارها أن لها مكاناً خاصاً في المجتمع، يهدف إلى تحرير الأشخاص من كل ما يعيق نموهم الإنساني والروحي، وذلك إيماناً منها بما يقوله القديس إيريناوس: "مجد الله هو الإنسان الحي. وهنا يمكنا القول إن رسالة الكنيسة تحتضن حياة الإنسان بشموليتها وبجوانبها المتعددة: عقائدياً، روحياً، إنسانياً ومادياً[2]. كل هذا يجعلنا ندرك أهمية الدراسة لموضوع حيوي، ألا وهو السلوك المسيحي وفقاً للتعليم المعاصر للكنيسة وتطبيقه في الشرق، ونتناول دراسته من خلال عدة نقاط:

أولاً: واقع الكنيسة الشرقية

ثانياً: تعليم الكنيسة بخصوص السلوك المسيحي

ثالثاً: رؤية مستقبلية

أولاً: واقع الكنيسة الشرقية

إن الكنيسة ترافق الإنسان المسيحي في مسيرة الخلاص، وتبين له كرامته وتدعوه إلى اكتشاف حقيقته، ولذا تُذكره بالشريعة الإلهية، لتكون آداة حق وتحرير[3]. لكي تتحقق هذه المرافقة وتظهر ثمارها، لابد أن نقبل الواقع الذي تعيشه الكنيسة في الشرق ونعترف به، لنعمق ما هو إيجابي ونعالج ما هو سلبي.

فالجانب الإيجابي في واقع الكنيسة الشرقية ينبثق  من طبع الشرقيين أنفسهم، فهم يرتبطون في جذورهم بالعادات والتقاليد عامة، وبالتقليد الكنسي خاصة. هذا الارتباط بالتقليد يعطي مساحة كبيرة للكنيسة لكي تقوم برسالتها، من خلال تعاليمها، في مرافقة الإنسان المسيحي أمام التحديات العصرية التي كثيراً ما تلمس حياته الأدبية. كما أن الشرقيين يميلون إلى التدين بطبعهم ويسعون إلى راحة ضميرهم في مواقف حياتية يواجهونها، ولذلك يترقبون رأي الكنيسة فيما يخص المسائل الأخلاقية[4]. وهذا يُفسح المكان للكنيسة لكي تغذي أبناءها بالتعاليم التي تسلمتها من الرب يسوع مؤسسها.

أما الجانب السلبي في واقع الكنيسة الشرقية يتبلور من عدة نقاط، وعلى رأسها الأمية العقائدية. فالغالبية العظمى من مسيحيي الشرق يعيشون في جهل بعقيدتهم ولا يميزون، فيما يخص العقيدة، بين آراء بعض اللاهوتيين وبين تعليم الكنيسة الرسمي. وتلعب عدة عناصر دوراً كبيراً في ازدياد هذه الأمية العقائدية، فلتعدد الأديان في شرقنا تأثير كبير على المسيحيين، فهم أقلية عددية وسط مجتمع إسلامي. يتضح هذا التأثير جلياً في مواقف حياتية يعيشها المؤمنون، ففي كثير من الأحيان تسيطر فكرة "القسمة والنصيب" على عقول المسيحيين ويقتنعون بها في حياتهم خاصة أمام الحوادث والفشل والنجاح والزواج…إلخ. وكثير من المسيحيين يعتقدون أن القسمة والنصيب من مكونات الإيمان المسيحي، ولا يدرون أنها عقيدة إسلامية معروفة بالقضاء والقدر.

ليس فقط عنصر تعدد الأديان هو الذي يسبب الجهل بالعقيدة، وإنما يؤثر على المؤمنين الكاثوليك تعدد المذاهب المسيحية أيضاً. فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في مصر، تتمسك بالتقليد، وفي كثير من الأحيان، بحرفية الكتاب المقدس، وذلك بطريقة تقيد انطلاقة الفكر اللاهوتي وتجديده، وهذا ينعكس على مواقف حياتية مرتبطة بالسلوك الأخلاقي للمؤمنين. فعلى سبيل المثال، يشعر أكثر الأزواج أنهم في حالة الخطيئة إذا مارسوا الفعل الزوجي في  فترات  الصوم[5]، وبالتالي يمتنعون عن الاشتراك في سر الإفخارستيا. كذلك تمتنع الغالبية العظمى من السيدات والفتيات من تناول القربان في فترات الحيض، وبالمثل يمتنع الشبان إذا حدث عندهم احتلام لا إرادي، وكل هذا يرسخ كعقيدة في عقلية المؤمنين لأن الكنيسة توصي به[6]. أما الكنيسة البروتستانتية، لا يخفى تأثيرها على الجيل الجديد من خلال الاجتماعات والترانيم التي تلمس العاطفة والتي تساير مشاعر وأحاسيس إنسان اليوم. ويشعر كثيرون من الشباب أن هذه الاجتماعات تساعده روحياً وإيمانياً لأنها تركز على شرح وتفسير الكتاب المقدس، فيرتبطون بها ويتأثرون بما يناقش فيها. وهنا يظهر التأثر السلبي على الشباب لأنهم، رويداً رويداً، يفقدون ما تعلموه في كنيستهم، وبالأخص فيما يرتبط بالأسرار وممارستها في الحياة، وبالتالي يفقدون الانتماء لكنيستهم، ويتإرجحون من كنيسة إلى أخرى، وهذا يجعلهم في حالة جهل بالعقيدة ومضمونها مما يؤثر على سلوكهم الحياتي.

عنصر آخر له تأثيره على سلوك نسبة كبيرة من المسيحيين، ألا وهو عنصر الروحانية العاطفية. ونقصد بها تلك الروحانية التي لا جذور لها ولا عمق، والتي لا تمس الإنسان في شموليته، بل تلمس عاطفته فقط وتملأه بالحماس لفترات قصيرة ومحدودة. فمثلاً أثناء الصلوات في الكنيسة أو في الخلوات والرياضات الروحية، تحلق الجماعة في ملكوت وكأنها اشتعلت بنار الحب الإلهي، وفي الحياة اليومية أمام المواقف التي تتطلب سلوكاً مسيحياً، تتصرف نفس الجماعة بطريقة وكأنها لا تعرف المسيح إطلاقاً. لذلك فالروحانية العاطفية التي تنتشر بسبب دعم بعض الكهنة والرهبان، تقود المؤمنين إلى الإزدواجية في الحياة: أي البعد الديني والروحي في الكنيسة من جهة، وفي الحياة اليومية من جهة أخرى، كلٌ حسب ذكائه وقدرته في الوصول إلى غايته، حتى وإن كان ما يعمله هو مخالف للوصايا والكتاب المقدس[7]، وهذه الإزدواجية تعمق الجهل بالعقيدة.

ترتبط الأمية العقائدية بسلبية أخرى تأتي من داخ الكنيسة الكاثوليكية، ونخص بالذكر هنا آراء بعض اللاهوتيين وبعض الإكليروس. فبعض الآراء اللاهوتية تخفف من مسؤولية الإنسان في الأخطاء بحجة أنها تميل إلى الطابع الإنساني ، وبالتالي ومع مرور الوقت، تصبح حجة الطابع الإنساني هي المعيار الذي يقود التصرف الأدبي، بينما يجب أن يكون الإيمان والارتباط بشخص يسوع المسيح هما الأساس الذي نبني عليه. بالإضافة إلى ذلك، يعبر عدد كبير من الإكليروس، في مواجهة قضايا أخلاقية، عن أراء شخصية وليس عن تعليم الكنيسة. وينتج من هذا كثرة الآراء واختلافها، ويجد المؤمنون أنفسهم أمام آراء متضاربة مع بعض، وتختلط الأفكار في داخلهم بسبب عدم توحيد النظرة وعدم الوضوح في القضايا الأخلاقية، ونخص بالذكر هنا قضية الوسائل الصناعية لمنع الحمل.

من جهة أخرى توجد آراء كثيرة في عالم اليوم تمجد الحرية الإنسانية، وتطلق لها العنان وتمنحها الحق في أن تمارس كل شيء وتحاول هذه الآراء أن تعمق في عقلية الناس أن الحرية الإنسانية تتمتع بقدرة التصرف في المواقف الأخلاقية كما يحلو لها، وأن الإنسان يستطيع أن يعمل ما يراه لصالحه باسم الحرية الشخصية. وهذا يشوّه الحرية الإنسانية الحقيقية التي عبّر عنها القديس بولس بقوله: "كل شيء يحل لي، ولكن ما كل شيء ينفعني. كل شيء يحل لي، ولكن لا أرضى بأن يستعبدني أي شيء" (يكور12:6). وعندما يواجه المؤمنون مواقف أدبية في حياتهم، وتختلط الأفكار بداخلهم بسبب هذه الأراء، فإنهم يلجأون إلى الإكليروس ويطلبون المساعدة للوصول إلى قرارات تخص قضايا أخلاقية تمس واقعهم. وهنا نجد أن كثيرين من الإكليروس يوجهون المؤمنين بأن يتبعوا ضمائرهم بدون أن يكون هذا الضمير مكوناً.

انطلاقاً من النقاط السابقة ، نستطيع أن نكتشف التأثير السلبي على المؤمنين فيما يخص قضية أخلاقية لها أهميتها في الحياة ، وهي قضية الإجهاض . فأمام عدم الوضوح وتوحيد النظرة في القضايا الأخلاقية، من قبل الإكليروس وبعض اللاهوتيين، وترك الحرية للضمير بدون أي تكوين له، يعضد الإنسان- حتى المتدين- تصرفاته وسلوكه في الحياة بالآراء اللاهوتية التي تخفف من مسؤوليته في الأخطاء. نتيجة لذلك يمارس عدد لا يأس به من المؤمنين، ومنهم متدينين حقيقة، فعل الإجهاض وكأنهم لا يفعلون شيئاً يخالف العقيدة، وأكثر من ذلك يأتي البعض إلى الكهنة يطلبون الحلة الأسرارية والتناول قبل عمليات الإجهاض.

إن هدفنا من سرد النقاط السلبية هي توضيح التحديات العصرية في عالم اليوم، والتي تضاف مواجهتها إلى المسؤوليات الكثيرة التي تقع على عاتق الآباء البطاركة والأساقفة بصفتهم السلطة التعليمية في الكنيسة. ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد:

"فالأساقفة هم المبشرون بالإيمان، وهم الذين يأتون إلى المسيح بتلاميذ جدد، وهم المعلمون الأصليون أي المزودون بسلطة المسيح الذين يبشرون الشعب الموكول إليهم بالإيمان الواجب اعتناقه وتطبيقه في الآداب، ويوضحونه على نور الروح القدس ملتمسين من كنز الوحي ما هو جديد وما هو عتيق، (مت52:13) ، وينمون الإيمان ويبعدون بعين ساهرة عن رعيتهم الأضاليل التي تهددها (2تيمو 1:4/4)"[8].

تزداد هذه المسؤولية صعوبة، في عصرنا هذا وذلك بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي، وأيضاً بسبب قوة تأثير التيارات المادية على الإنسان وجذبها له بعيداً عن القيم الإنسانية والأخلاقية. في ذات الوقت ينتظر الإنسان من الكنيسة أن تغذيه بالتعاليم الواضحة التي تساعده على تحقيق إنسانيته في العالم.




1 مرسوم في نشاط الكنيسة التبشيري، رقم1.

2 نقصد هنا علاقة الإنسان بالعالم الخارجي وتفاعله مع الأمور والأشياء المادية.

3 مجمع العقيدة والإيمان، الحياة هبة الله، روما، 1987، رقم1.

4 مسائل أخلاقية مثل: الوسائل الصناعية لتنظيم النسل، الإجهاض، التلقيح الصناعي، الرشوة، الغش ومسايرة الوسط التجاري، الخصام بين العائلات…إلخ

5 هذا ما يعبر عنه الناس في الاعترافات.

6 كثير من الكاثوليك يعتقد أن هذه الأشياء هي من العقيدة الكاثوليكية أيضاً ولذلك تكثر الأسئلة حول الموضوع في الإعترافات بالذات.

7 كثيراً ما نسمع من الناس ما يعبر عن هذه الازدواجية: هذه نقرة وتلك أخرى.

8 دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 25.