لاهوت أدبي: الفضائل الأدبية

حياتنا في المسيح مدخل إلى اللاهوت الأدبي (14)

الفضائل الأدبية

"كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (مت 12:5)

تقرّب الفضائل على أنواعها الإنسان إلى كمال الله لأنها ترسّخ في نفس الإنسان الصفات الصالحة المشابهة لصلاح الله.

كما سبق وأشرنا أن موضوع الفضائل الإلهية هو الله رأساً وبدون توسّط. فالإيمان يتناول الله بصفته الحق المنزّه عن الغلط، والرجاء بصفته الخير الأسمى والمحبة بصفته الخير الأفضل. بينما الفضائل الأدبية فإنها لا تتناول الله رأساً بل تعمل كوسيلة للوصول إلى غايتنا القصوى السامية أي الله تعالى. إن الفضائل الأدبية هي للفضائل الإلهية الأساس للبناء. ومن ثم كل إنسان عليه أن يتزين بالفضائل الأدبية لتثبت فيه الفضائل الإلهية.

من المستحيل أن نعدّد الفضائل الأدبية جميعها، إذ أنه قد تكون هناك فضيلة حيثما يمكن إيجاد عادة أخلاقية جيدة في نشاط إنساني معين، والنشاطات الإنسانية متعددة. وعلى كل حال فاللاهوتيون عادة يجمعون الفضائل الأدبية حول الفضائل الرئيسية الأساسية وهي الفطنة، والعدل، والقناعة والشجاعة. هذا ويعتبر أيضاً بعض العلماء الفضائل الرئيسية من مقتضيات كل فضيلة أخرى، لأن الراغب في ممارسة فضيلة ما عليه أن يتحلى بصواب الرأي (الفطنة) وأن يحترم الحق والقانون ويعطي كل ذي حق حقه (العدل) وأن يتغلب على المصاعب فلا يتراجع أمامها (الشجاعة) وأن يعتدل ويضبط نفسه (القناعة). لذا سوف نكتفي هنا بنقاش هذه الفضائل الرئيسية الأربع.

فضيلة الفِطنة

أولى الفضائل الرئيسية الأربع وأهمّها كنقطة ارتكاز للفضائل الأدبية الأخرى جميعها هي الفطنة. من أجل الغاية الفائقة الطبيعة للإنسان، تعتبر الفطنة فضيلة خاصة أفاضها الله على العقل العملي للإدارة الصحيحة لأفعال الشخص. أما من حيث المصدر، يُعطي الله الفِطنة المُفاضة بوساطة النعمة المبررة. وبكونها فضيلة مفاضة يتسع نطاق عملها لتؤثر على النظام الفائق الطبيعة. ومن حيث الحافز الرسمي تعمل الفطنة المفاضة بتأثير العقل على ضوء الإيمان والمحبة.

أولاً: تعليم الكتاب المقدّس في الفِطنة

الفِطنة كالحكمة هي هبة من الله: "لأن الربّ يُؤتي الحِكمة ومن فمه العلم والفطنة" (أم 6:2). لا شيء اغنى من الحكمة، ولا أمر أمهر من الفطنة: "إذا كان الغنى ملكاً مرغوباً فيه فأي شيء أغنى من الحكمة التي تعمل كلّ شيء؟ وإن كانت الفطنة هي التي تعمل فمَن أمهر منها في هندسة الكائنات؟" (حك 5:8-6). إن الحكمة هي التي: "تُعلّم القناعة والفِطنة والبرّ والشجاعة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها" (حك 7:8). إنها فيض من غِنى نعمة المسيح (أف8:1) ومن الحِكمة الأزليّة: "لي المشورة يقول الرب أنا الفِطنة" (أم 14:8).

إذا كانت الحكمة هبة من الله فإنها لا تعفي الإنسان من العمل على اكتسابها: "اكتسب الحكمة، اكتسب الفطنة" (أم 5:4). إن الخطوة الأولى في ممارسة الفطنة هي الاقتناع بواجب اكتسابها وبالتضحية من أجلها: "رأس الحكمة اكتسب الحكمة وبكل ما كسبت اكتسب الفطنة" (أم 7:4). ومن الوسائل التي تساعدنا على اكتساب الحكمة والفطنة حفظ الوصايا: "اسمع… وصايا الحياة. اصغوا لتتعلموا الفطنة" (با 9:3).

ويتكلم الكتاب المقدس عن منافع الفطنة أنها:

       تحمي من طرق الخطيئة وتحذر من أعداء التملّق (أم 11:2).

       وتحفظ من الهلاك (با 12:3).

       إن الفطن وحده يعرف أن يقول ما يُحسن قوله وأن يصمت في الوقت المناسب (أم 19:10).

       إن الفطنة تعطي فكرة دقيقة عن الإنسان (أم 11:28).

       وهي تتضمن حُسن المشورة (تث 28:32) والسهر (1بط 7:4) والتيّقظ في انتظار مجيء السيد (مت 1:25؛ 45:24).

أما صفات الفطنة فإنها تتكيّف حسب الظروف. أليس التكيّف هو من متطلبات الفطنة: "كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام" يوصي السيد المسيح تلاميذه. هذه الحكمة يؤمّنها روح الآب (مت 16:10-21) كما أن السيد المسيح يميّز بين الحكمة الحقيقية وحكمة "أبناء العالم" (لو 18:16). إن "جنون الصليب" أباد حكمة الحكماء وأرذل فهم الفهماء (1كو 19:1). لهذا تكون حكمة المسيحي الحقيقية على هذا المبدأ: "من أراد أن يخلّص نفسه أضاعها ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها" (مت 25:16).

من الكتاب المقدس نتسنتج أن الحكمة هي أكبر مواهب الله وهي أساس الفطنة. إن دور هذه يقوم بالحكم على الوسائط المناسبة لبلوغ الغاية بينما الحكمة تجعل الإنسان يتذوق الله ويتمسك به. إن الفطنة أولى خادمات الحكمة وعلى ضوء هذه نقرر ما يجب عمله نظراً للظروف المتنوعة وحسب روح المسيح. إنها لا تكتفي بالقواعد الأدبية العامة بل تدرك رغبة المسيح في كل لحظة لتحقيقها في الخارج وفي الداخل وفي مصلحة الفرد الروحية ومصلحة الجماعة. إنها كالمحبة لا تفتش على ما لنفسها (1كو 5:13) بل على ما يفيد القريب والخير العام.

ثانياً: ما هي الفِطنة وما هي أهميتها؟

1) تعريف الفطنة

من الناحية العامة الفطنة هي فضيلة تميل بصاحبها إلى مزاولة الأعمال المناسبة لبلوغ غاية معينة بموجب ما يميله العقل السليم. أما من الناحية الدينية فالفطنة هي فضيلة أدبية مسيحية، فائقة الطبيعة تحمل قوانا العقلية في مختلف ظروف الحياة على اختيار أفضل الوسائل للوصول إلى ما نرغب فيه من المطالب الحسنة، جاعلين هدفنا الأكبر تمجيد الله لكونه غايتنا القصوى السامية.

2) أهمية فضيلة الفطنة

الفطنة هي أشد الفضائل الأدبية ضرورة لأن عملها بالضبط الإشارة إلى أو الحكم على الحل الوسط أو المقياس بالنسبة إلى أي من الأفعال الإنسانية وإلى جميعها. فهي تمكننا من الحكم بدقة على ما هو الشيء الأخلاقي الجيد الذي يجب عمله في ظروف معينة. وبمعنى معين حتى الفضائل الإلهية تندرج تحت عنوان الفطنة، لأن هناك مناسبات وظروفاً يجب على الفطنة الفائقة الطبيعة أن تملي فيها العمليات اللائقة للإيمان، والرجاء، والمحبة. وفي الحقيقة، يمكن القول أنه لولا الفطنة، لا تمكن ممارسة أية فضيلة بالكمال. إن أهمية فضيلة الفطنة واضحة بوجه خاص في نواحي معينة من الحياة الإنسانية.

أ- إنها تساعد الفرد على تجنب الخطيئة، مشيرة من خلال التجربة إلى أسباب ومناسبات الخطيئة وإلى العلاجات المناسبة.

ب- إنها تساهم في زيادة الفضيلة ونموّها، وتحكم في كل حالة ما الذي يجب عمله أو تجنبه في سبيل تقديس الذات. ومن الصعب أحياناً الحكم في حالة معينة على أية فضيلة من اثنتين تحب ممارستها؛ فعلى سبيل المثال، العدل أو الرحمة، الحياة التأملية أو الغيرة الرسولية، الشجاعة أو الوداعة.

ح- كل إنسان عاقل يعمل من أجل غاية، اختارها لنفسه أو اختارها غيره له. وبالطبع لكل غاية وسيلة لبلوغها. وتختلف الوسائل لبلوغ الغاية، فمنها المناسب ومنها غير المناسب. وذلك يعود إما لنقص في الوسائل نفسها وإما لأسباب أخرى لا يجوز استعمالها لأنها شر في حد ذاتها، إذ لا يحق عمل الشر حتى ولو كان الهدف خيراً "الغاية لا تبرر الوسيلة" وكما جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل روما "لا نعمل الشر لكي يصدر الخير" (روم 8:3).

من هنا نحن بحاجة إلى فضيلة تساعدنا إلى بلوغ غايتنا باختيار الوسائل المناسبة. وهذه الفضيلة هي فضيلة الفطنة التي تنظر على نور العقل والوحي والخبرة ما الأعمال المناسب استعمالها كوسيلة لبلوغ الغاية المقصودة.

ثالثاً: أنواع الفِطنة وأجزاؤها

1) أنواع الفطنة

أ- الفطنة الجسدية: التي تبحث بكل قواها عن الوسائل التي توصلها إلى مطامعها وكبريائها وملذاتها وأهوائها لكي تشبعها. فهي عدوة الله والناس معاً "فإن فطنة الجسد موت وفطنة الروح حياة وسلام. لأن فطنة الجسد عداوة لله" (روم 2:8-7).

ب- الفطنة المحضة البشرية: هدفها خير أرضي مجرد عن الغاية السماوية، حيث كل إنسان ينشد غاية زمنية بشرية، ويسعى إليها بكل ما أوتيه من ذكاء وقوة، ولا يفطن إلى الغاية الصحيحة الكبرى السماوية متناسياً كلام الرب: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت 26:16).

ج- الفطنة المسيحية هي التي تستنير بأنوار الإيمان، وتعتمد على تعاليم الإنجيل في البحث عن الوسائل التي توصلها إلى ما تريده من الرغائب، وتجعل الله غايتها الأخيرة في كل ما تصبو إليه وتستخدمه في المطالب والوسائط، إما في أمور الدين أو في أمور الدنيا. فتدير نحو الله دفة أفكارنا وعواطفنا ورغباتنا وأعمالنا ومعاملتنا مع الناس وكل حياتنا.

2) أجزاء الفطنة:

توجد ثمانية أجزاء متداخلة لاستكمال فضيلة الفطنة، تختص خمسة منها بالناحية النظرية وثلاث بالناحية العملية، وليس من الضروري لكل جزء أن يعمل في كل مثال لممارسة الفضيلة، لكن يجب أن تُحاز جميعها لكي تعمل عندما تستلزم ظروف خاصة ذلك. والأجزاء الثمانية هي:

أ- تذكّر الماضي، كي يتعلّم المرء من الخبرة ما الذي يجب عمله أو تجنبه في ظروف معينة.

ب- فهم الحاضر، كي يستطيع المرء الحكم إذا كان عمل معين قانونياً أو غير قانوني.

ج- سهولة الانقياد، كي يقبل أولئك الذين يفتقرون إلى الخبرة، المشورة، والتضحية من جانب أولئك الذين يملكون الخبرة.

د- سرعة البديهة، كي يتمكن المرء من التصرف بصواب في الحالات المستعجلة عندما لا يُتيح الوقت أو الظروف أي تأخير.

ه- القوة المنطقية، حتى يستطيع المرء التصرّف عندما يسمح الوقت بعد التفكير والتأمل المطلوبين.

و- البصيرة، كي يستطيع المرء أن يحكم على الوسائل العاجلة بالنظر إلى الغاية أو الهدف المطلوب.

ز- الحذر، كي ينمكن المرء الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة المحيطة بفعل معين، بالنسبة إلى الأشخاص والأماكن.

ح- الحيطة، كي يتمكن المرء الأخذ بعين الاعتبار العقبات من الخارج، أو ضعف الإنسان وعجزه بالنظر إلى فعل معيّن.