الأمثــال (3)

النص والكاتب والقارئ

لقراءة نص وتفسيره جيداً يجب الأخذ بعين الاعتبار أموراً ثلاثة:

1-             النص في ذاته

2-             الكاتب

3-             القارئ أو المستمع

ولا يجب أن يطغى أمر على الآخرين ولا فصل واحد منها عن الآخرين، ذلك لأن نجاح أية محاولة فهم حقيقية مرهون بالنظرة الإجمالية الشاملة. وإذا وجب مراعاة هذا بالنسبة لأي نص فإنه يصح بنوع خاص بالنسبة لأمثال الإنجيل.

ويحمل "المثل" في ذاته- كأي قصة طالت أم قصرت- عناصر مهمة. فالقصاص البارع يطبع فكره في القصة: في صياغتها، في العلاقات بين أبطالها وفي أعمالهم، في ترتيب عناصرها…الخ. ولذا يجب البحث عن معنى المثل في ثنايا النص، فهو المستودع الذي يضع فيه الكاتب أو الراوي المعنى، فلا يعهد أي كاتب المعنى الذي يريد توصيله إلى السياق وحده أو إلى الإطار الثقافي فحسب.

ولكي نفهم "مثل" ما علينا أولاً تحليل القالب الأدبي. ومن الملاحظ أن أمثال يسوع تمت دراستها مراراً وتكراراً من حيث القالب الأدبي وبالتالي فهناك خطر قولبتها.

لا شك أن الأمثال تنتمي إلى نوع أدبي. ولكن المؤلفين البارعين لا يحبسون ذواتهم في النوع الأدبي الذي يختارونه بل يطورونه ويضفون عليه حيوية خاصة.

ولا يمكن الاكتفاء بدراسة النص دون التعرض إلى كاتبه. فإذا عُزل أي نص عن كاتبه فإنه يفقد معناه الخاص الذي يميزه. ومرة أخرى، إذا انطبق هذا الأمر على النصوص عامة فإنه ينطبق بنوع خاص على "الأمثال" والتي يرجع جزء معتبر منها لمؤلفيها وللأحداث التي عاشوها. فإذا عزلنا الأمثال عن يسوع، لتحولت الأمثال إلى مجرد شروحات وكلام عن حقيقة عامة. وإذا كان قائل الأمثال "مجرد حكيم"، فإنها تكون مجرد نتيجة تفكير إنسان حكيم وتأمله في الله وصفاته وأعماله.

فإذا قرأنا الأمثال ناسين أو متناسين من قالها، وأعماله العظيمة ومعجزاته وموته وقيامته، لبهتت. تفقد الأمثال معناها إن لم تُحدّث عن الله بحديثها عن المسيح، إنها تعكس فرادة يسوع وفرادة إعلاناته وتعاليمه. لذلك فهي أيضاً فريدة.

ويدخل يسوع ذاته في "الأمثال"، فيتكلم عن حياته وكيانه ودعوة الإنسان. لمطابقة حياته عليه. ويكشف يسوع بنوع "الله" وموقفه من الإنسان وبنوع خاص كيفية تصرف الإنسان أمام الله وموقفه منه.

لذلك لا يجب فصل المثل عن "قائله". فنتناول أمثال عديدة ملكوت الله، ولكن أعظم مثل عن ملكوت الله هو المسيح ذاته. عبّر أحدهم عن ذلك فكتب: يسوع الإنسان هو مثل الله "المصلوب الذي قام". إنه مثل الأمثال، حادث "فريد"و "مفتوح". إنه حادث ذو خصائص فريدة تجعل من الأمثال مفتاح فهم التاريخ كله. لقد كشف يسوع في حياته الخاصة معنى التاريخ كله. فالأمثال دائماً مفتوحة وآنية لأنها تعكس فرادة حياة يسوع. إذا فقدت الأمثال هذه الخاصية فإنها تفقد آنيتها.

ومؤلف الأمثال، بالإضافة إلى يسوع، على مستوى مختلف، هي الجماعة التي حفظتها وأعادت قراءتها وكتبتها وطبقتها في حياتها. لذلك نستطيع التأكيد أن الأمثال التي نقرأها اليوم تحمل هذا الطابع الكنسي.

ولا يقوم ذلك فقط في بعض التعديلات من إضافات وإسقاط بعض الكلمات. فهذه عناصر يمكن بحثها كل مرة على حدة. ولكنها أشياء ثانوية. فأهم ما في الأمر هو الاتجاه أو الهدف الجديد للمثل في شكله الجديد. لقد روى يسوع الأمثال ونظره شاخص إلى الأمام: الصليب/ القيامة. وتروي الجماعة الكنسية الأمثلة ونظرها شاخص إلى الوراء: الصليب/ القيامة. روى المسيح الأمثال وتحدث عن الملكوت بإشارات، أما الكنيسة فترويها وإيمانها ثابت أن حياة المسيح كشفت وأعلنت عن الملكوت. بالتالي يتغيّر إطار المثل وليس موضوعه الذي يظل واحداً وثابتاً أعني الله الذي يتجلى في شخص وحياة المسيح. فأصل الأمثال سابق للسر الفصحي في حين أن معناها التام هو لاحق لهذا السر. لا يتغير موضوع المثل ولكنه الرؤية إليه تزداد عمقاً.

ولا يُضعف هذا الأفق الجديد- الذي يكمل السابق ولكنه يختلف عنه- من قوة الأمثال ولكنه يزيدها قوة، لا يوقف سيل التساؤلات الناتجة عنها بل يضاعفه.

وتظل الدهشة والعجب دائماً أمام حقيقة الصليب- حتى بعد القيامة. فإذا كان المصلوب قد قام فهو الرب، فلماذا يستمر البشر في رفض الملكوت؟ ولماذا يظل الملكوت مهمشاً مهزوماً؟ لقد قام المصلوب ولكن يبدو أنه يُظهر وجهه المتألم، وجه المصلوب، وهكذا يظل السؤال- وهو السبب الحقيقي للمثل- قائماً بلا جواب.

توجه الاعتبارات الأخيرة النظر تجاه مستمعي المثل وبين مستمعي المثل أيام المسيح، والجماعة التالية وجماعتنا الحالية هل هناك فترة زمنية أثرت تأثيراً بالغاً على معنى الأمثال؟ أم أنه هناك تواصل يحفظ لها معناها الأولي؟ المستمع نفسه هو الذي يحدد إذا ما كان هناك انقطاع أو تواصل، وذلك عن طريق السؤال الذي يطرحه. ورأينا أن السؤال يظل ذاته وقد طرحه أعداء يسوع وتلاميذه عليه، وطرحته الجماعة التالية ونطرحه نحن. إذا كانت الأمثال- وهذا واقع حقيقي- مازالت تعلّم حتى اليوم فذلك ليس لأنها عامة ومسطحة يمكن تطبيقها على أي زمان، ولكن لأنها دقيقة جداً وفريدة للغاية وتثير في كل الأزمنة نفس التساؤلات.

كيفية قراءة المثل

المثل عبارة عن رواية. وككل رواية- يقتضي تحليلاً أدبياً لفهم معناه، انطلاقاً من بنيته الأدبية ونقاط ارتكازه والشخصيات التي يتناولها والحركة الداخلية أو الخارجية التي تتخلله. يقود كل ذلك إلى النقطة التي تعطي المعنى العام للمثل الذي لا يجب بأي حال من الأحوال أن تفوت القارئ.

لا يخلو هذا المجال من بعض التصلب عند شُراح الكتاب المقدس. فمن ناحية يكون للأمثال نقطة ارتكاز أساسية ولكن هذه النقطة ليست دائماً سهلة الإدراك. قد تتناثر نقطة الارتكاز في المثل في اتجاهات متعددة. كما أنه من المعروف أن بعض- إن لم يكن معظم- التفصيلات الروائية تهدف إلى توضيح المعنى العام، أي أنها في خدمة نقطة الارتكاز. ولكن هذا لا يمنع أن بعض التفصيلات في بعض الأمثال، بالإضافة إلى توضيحها للهدف الأساسي، إلا أنها تضيف للمثل معان جانبية هامة. أمثال يسوع متأصلة في البيئة الزمنية، إذ تروي وقائع يومية بلغة كان سكان فلسطين يستطيعون فهمها. ولكي نفهم الأمثال فعلينا أولاً أن نعرف جيداً الإطار الاجتماعي والديني لزمانها. وهناك شرط هام جداً وهو عدم التجمد والمبالغة في التركيز على بعض أوجه التشابه. فالأمثال ليست بأي حال من الأحوال صورة ضوئية للواقع. فالمبالغة والمغايرة واللجوء إلى أحداث عجيبة هي طرق تعبير مؤثرة وقد يلجأ إليها قائل الأمثال.

كانت الأمثال إحدى الوسائل التي لجأ إليها يسوع لكي يقدم لسامعيه "جدة" رسالته. ولذلك يصبح من الأهمية بمكن التعرف على مظاهر هذه الجدة لفهم الأمثال. ونقول إنه من المستحيل أن نعيد بناء الظروف التي أدت إلى كل "مثل"، وإن كان من المستطاع- انطلاقاً من العناصر الرئيسية للأمثال- إعادة بناء الإطار العام الذي تدخل فيه الأمثال. إليكم كنوع من النموذج أهمها:

  أعلن يسوع عن ملكوت الله وعن حلوله. ومع ذلك ظل هذا "الملكوت"- في نظر المستمعين- موضوع مقاومة ضعيفاً وهناً، لا بل منهزماً.

  أعلن يسوع أنه المسيا وابن الله ولكنه- بشرياً- فشل فشلاً ذريعاً على الصليب. كيف يمكن فهم وقبول مجيء مسيا مهزوماً مصلوباً؟.

   كانت تصرفات يسوع التعليمية مختلفة تماماً عن العادات الدينية الراسخة وعن الفكرة الراسخة عن الله لدى الشعب. لقد بحث عن الفقراء، المهمشين، المحتقرين والخطأة- ما معنى تصرفه هذا؟.

  لقد رذلته خاصته: هل يعقل هذا؟ فأي معنى إذاً لأمانة الله واختيار شعب بني إسرائيل؟ لماذا لم يُفهم شعب الله المختار ولم يقبل ما فهمته وقبلته الألم؟

  على المسيحي أن يظل ساهراً في انتظار عودة الآب وعليه- في ذات الوقت أن يكون فعالاً في الحياة دون أن يلجأ إلى الاغتراب والهروب من المسؤولية. كيف يمكن التوفيق بين العنصرين؟.

  يقترح الإنجيل انطلاقاً من إعلان الملكوت- لائحة تصرفات أدبية لا تخلو من بعض التناقضات والمفاجآت: مواقف تجاه الغنى والثروة، تجاه الأعداء وتجاه الله ذاته. هل هي متطلبات لا منطقية أم أنها تتبع منطقاً خاصاً خافية معطياته عنا؟.

والآن نجد الأمثال في الإنجيل. لقد وصلت إلى المحطة الأخيرة في رحلة طويلة: لقد تفوه يسوع بالمثل لكي يرد على تساؤلات معاصريه ومحاوريه، وانتشرت فوراً في بشارة الجماعة المسيحية لكي تُشبع احتياجاتها وترد على تساؤلاتها، وأخيراً أدخلها الإنجيليون داخل وجهة نظرهم اللاهوتية. فإعادة بناء مراحل هذه المسيرة أمر هام جداً ولكن نتائج ذلك ليست سهلة القبول. ولا يتفق هذا الأسلوب وهدفنا. فإننا نهدف- الآن- إلى فهم المثل في شكله النهائي الذي وصلنا في نصه الحالي في الأناجيل. لذلك لن تتعرض لتاريخ نص الأمثال إلا في حالات خاصة جداً، مثل دمج فعلين كانا في الأصل مثلاً واحداً. لا يكفي الاقتراب من "الأمثال" في الإنجيل بسبب جاذبيتها الخاصة ولكن يجب علينا أن نحاول رؤية ذاتنا داخل "المثل" لأن الهدف منها هو إيقاظ ضمائرنا. القاعدة الأساسية هي أن نترك "المثل يفاجئنا. بهذه الطريقة فقط نفهم المثل".

عن مجلة صديق الكاهن