الأمثــال (6) أمثال إنجيل القديس مرقس

تنحصر الأمثال، في إنجيل القديس مرقس، على أمثال الزرع في الفصل الرابع: مثل الزارع (مر 3:4-9)، والزرع الذي ينمي (مر 26:4-29)، وحبة الخردل (مر 30:4-32)؛ ثم مثل الكرامين القتلة (مر 1:12-12)، ومثل البواب الساهر (مر 34:13)، وهو مثل قصير.

يلجأ يسوع، بالإضافة إلى هذه الأمثال، إلى الأقوال والأمثال الشعبية القصيرة. وإليكم أهمها:

"ليس الأصحاء بمحتاجين إلى الطبيب، بل المرضى" (مر 17:2)

"ما من أحد يرقع ثوباً عتيقاً بقطعة نسيج خام" (مر 21:2)

"إذا انقسمت المملكة على نفسها فلا تستطيع تلك المملكة أن تثبت" (مر 24:3).

" أيأتي السراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير ؟ ألا  يأتي ليوضع على المنارة" (مر 21:4).

"فبما تكيلون يكال لكم وتزادون" (مر 24:4).

"لا يزدرى نبي إلا في وطنه وأقاربه وبيته" (مر 4:6)

"فلا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى صغار الكلاب" (مر 27:7)

"الملح شيء جيد، فإذا صار الملح بلا ملوحة فبأي شيء تملحونه؟ (مر50:9).

وقد استعمل يسوع بعض هذه الحكم الشعبية الشائعة ليشرح رسالته، والمصير الذي ينتظره، والجديد في تعليمه، والتوبة الجذرية التي يقتضيها قبوله وقبول تعليمه (مر 17:2-21؛ 27:3؛ 4:6؛ 27:7)؛ بينما يوضح البعض الآخر تصرفات التلميذ المثالي (مر 24:3؛ 15:7؛ 50:9).

ولا نتناول في دراستنا، بطريقة مباشرة، هذا الجانب. أما سبب إشارتنا إليه، فلكي نظهر أن الأمثال جزء من طريقة كلام يسوع المعتادة. إنه يعطي التعليم بتأكيدات عامة شاملة، ولكن بصور وتشابيه. وتعتبر الأمثال قمة لغته العبقرية. إنها القاعدة وليست الاستثناء.

هوذا الزارع خرج ليزرع (مر 3:4-9)

ألقيت أمثال الفصل الرابع  الثلاثة  بجانب البحر أمام ازدحام الجمع الكبير (مر1:4). ولا يستوحي يسوع الصور من حياة البحر، إنما من حياة الريف. والعامل المشترك بين هذه الأمثال هو صورة الزرع (الزارع والزرع الذي ينمي وحبة الخردل). كان لعمليات الزرع والنمو والنضوج الطبيعية قيمة رمزية خاصة بالنسبة ليسوع.

إسمعوا (مر 3:4)

يسوع في موقف المعلم، الذي يعلم الجماهير وهو جالس (مر 1:4) ويكرر القديس مرقس أن يسوع يعلم ثلاث مرات في عددين: "عاد إلى التعليم… فعلمهم… في تعليمه " (مر 1:4-2) . ويقصر القديس مرقس ، في إنجيله ، مهمة التعليم على يسوع فقط، باستثناء مرة واحدة يقوم بهذه المهمة الرسل: "فاجتمع الرسل عند يسوع وأخبروه بكل ما عملوا وعلموا" (مر 30:6). كان واجب التلاميذ هو إعلان البشارة، أما التعليم فهو من اختصاص يسوع. إنه وحده المعلم.

يبدأ المثل وينتهي بفعل أمر :  "اسمعوا" (مر3:4) ؛ ويرد الأمر في الاستماع فيما بعد: "من كان له أذنان تسمعان فليسمع" (مر9:4). ويعني السماع، في لغة الكتاب المقدس، أكثر من المفهوم العادي للسمع، لا بل أكثر من الفهم. إنه يتطلب عمل والتزام السامع: فمن السماع إلى الفهم، ومن الفهم إلى الحياة. والإصغاء يعني السمع والطاعة.

وعبارة "من كان له أذنان تسمعان فليسمع" (راجع مت 15:11؛ 43:13؛ لو 35:4) تعبير يستخدمه الساميون، ويعني إصغاءً واعياً منتبهاً، وتشير الأذن إلى اليقظة لالتقاط كل ما يقال وبالتفصيل وعدم فقدان أية كلمة منه. كما يوحي هذا التعبير بأهمية وسرية ما يقال. وتحل الأذن هنا محل العقل، لأن ما يُقال يحتاج لتفسير وفهم، ويتطلب إنتباه العقل والقلب.

لكن ليس الجميع مستعدين، إذ أن عبارة "من كان له أذنان تسمعان فليسمع" تعني أن الاحتمال قائم بألا يسمع البعض. إن مثل الزارع مثل هام ويجب فهمه ويجب أن يكون موضوع تمييز: يفهمه البعض والبعض الآخر لا يفهمه. وتُشرح الأمثال لمن لديهم الاستعداد للفهم. وتظل غامضة لقساة القلب.

الزارع أم الزرع

يروي المثل عملية زرع: "هوذا الزارع خرج ليزرع. وبينما هو يزرع…" (مر 3:4-4أ) إنها عملية زرع واحدة والزرع واحد والحبوب واحدة والحركات واحدة والتعب واحد، لكن النتائج مختلفة.

ولا يتوسط لا الزارع ولا التربة المثل. فيظهر الزارع في بداية المثل ثم يختفي، ولا يرد عنه الحديث ولا يُذكر عنه سوى فعل الزرع. فلا تُذكر له صفات ولا ردود أفعال، ولا يُذكر تعبه ولا آماله ولا خيبة آماله ولا سعادته بالمحصول الوفير. إن فاعل كل الأفعال هو الزرع. لذلك يجب أن نركز الانتباه عليه وعلى مصيره ونهايته.

ولكن التوقف فقط على الزرع خطأ جسيم، وذلك لأن الزارع يلعب دوراً هاماً في القصة. إنه العنصر الذي يجمع ويوحد باقي العناصر. تشير عبارة هوذا الزارع خرج ليزرع فوراً إلى المشاهد الأربعة التي يتكون منها المثل، إنها ليست أربع قصص مختلفة ولكنها قصة واحدة لزارع يلقي الحبوب في نفس الحقل وفي نفس اليوم. ونقول، بعيداً عن الرمز، إن النتائج الأربعة المختلفة للثمر هي عبارة عن نتائج مختلفة لعملية زرع واحدة قام بها يسوع. فالمثل يتكلم عن سره: إنه مثل كريستولوجي، حتى وإن قرأت فيه، فيما بعد، جماعة التلاميذ تاريخها الخاص. وليس هذا مجرد تغيير في التفسير بل هو نتيجة موقفين. إنه يعكس خبرة الرفض التي مرت بها رسالة يسوع وخبرة الرفض التي مرت بها الجماعة المسيحية. لا يتغير مفهوم المثل بنقله من يسوع إلى الكنيسة وتطبيقه عليها، ولكنه يطرح نفس السؤال: لماذا تظل كلمة الله، التي أعلنها يسوع أولاً ثم الجماعة بعده، تظل عقيمة بلا نتيجة؟.

يُمَّد التأمل في سؤال يتكرر دوماً معنى المثل على قصة ملكوت الله كلها وليس فقط على بدايته. وفي ذات الوقت يتم تغيير النظرة أيضاً في صورة الزرع: يتم استبدال صورة يسوع الذي يعلن الملكوت بصورة التلميذ الذي يواصل التبشير به. وبعد هذه العملية يجب الانتقال إلى عملية أخرى: يمثل الزارع المستمع أيضاً، الذي توجه إليه الكلمة. لأن المثل، في قراءة الكنيسة، موجه إلى الكثيرين الذين يزرعون الكلمة.

نهاية سعيدة

لنعد مرة أخرى إلى بنية المثل. تمثل المشاهد الثلاثة الأولى قصة الفشل المتكرر: "الحب الذي يقع على جانب الطريق… في أرض حجرة… في الشوك…" (مر7:4) لا يأتي بثمر. ونقرأ في المشهد الأخير فقط أن الحب الذي يقع "على الأرض الطيبة" (مر8:4) هو الذي يأتي بثمار وفيرة.

إن التركيز الواضح على سوء حظ الزارع يؤكد قولنا في أن الإطار الذي يجب أن يوضع فيه المثل هو التعب، الذي كثيراً ما يبدو غير مُجدٍ، وفشل كلمة الله الذي يبدو تاماً أو شبه تام. ولكن المثل يعلن لنا أن ذلك غير صحيح. توجد بالفعل محاولات فاشلة كثيرة، ولكن هناك دائماً جزء يأتي بثمر. إنها دعوة للثقة.

ولا توضع حقيقة وصحة كلمة الله موضع تساؤل إنما فاعليتها. ليست المشكلة جودة الحب الذي يُزرع ولكن الإمكانية الفعلية لإعطاء الثمر. وكثيراً ما تكون ثقتنا في فاعلية كلمة الله أقل من ثقتنا في صدقها وحقيقتها. وبذلك يمكن مقارنة المثل بقصة تُختم بنهاية سعيدة: بعد محاولات فاشلة عديدة يأتي النجاح الكبير، وربما على غير انتظار ، فيعوض التعب السابق . إنها قصة ذات نهاية سعيدة، ولكن هذه النهاية ليست شيئاً مضموناً أو معروفاً مسبقاً كما هو الحال في قصصنا.

يجب التوقف أمام هذا التساؤل: لماذا لا يثمر الحب في عدد كبير من أنواع التربة؟ إنه سؤال هام يجيب الإنجيل عن جزء منه في (مر 14:4-20). ومع ذلك يولي المثل شيئاً آخر أهمية أكبر، لأن السؤال عن عدم سماح التربة بإنتاج الثمر سؤال مهم، ولكنه، في نهاية الأمر، لا يهدف إلى الحديث عن أسباب مرات الفشل المتكررة بل إلى الثقة التي يجب أن يتحلى بها الزارع عند مقابلته صعاب الفشل.

يؤكد المثل على الفشل ثلاث مرات ويحدد هذا الإطار الذي يجب أن يُقرأ فيه المثل: إنه وضع لا يجد فيه القارئ المسيحي أية صعوبة في رؤية خبرات المسيح وخبراته الذاتية. وبعد ذلك ينقل المثل اهتمام القارئ إلى وفرة المحصول وذلك عن طريق مجموعة من التناقضات الدقيقة المثيرة . ففي وصفه للحبوب التي لم تأتِ بثمر في المشاهد الثلاثة الأولى يورد الفعل في زمن الماضي aoriste: "فأكلته… احترق… خنقه" (مر3:4-7)، أما عندما يتكلم عن الحبوب التي "ارتفعت ونمت وأثمرت" (مر8:4)، فإنه يستعمل الماضي المستمر imparfait. والفارق بين المعنيين كبير إذ أن الأول يحد حدوث الفعل عند نقطة معينة، في حين يحمل الثاني معنى الامتداد والتكرار. وبذلك يوجه هذا المثل إنتباه القارئ إلى الحَب الذي ينمي ويثمر.

وهناك خاصية أخرى: ترد كميات الحَب التي وقعت في أرض غير جيدة في المفرد: "بعض الحب… بعضها الآخر… بعضها الآخر" (مر 3:4-7). أما كمية الحبوب التي وقعت في أرض جيدة فإنها ترد في الجمع: "ووقعت الحبات الأخرى…" (مر8:4). صحيح أن الحب لم يثمر ثلاث مرات ولكنه صحيح أيضاً أن الجزء الذي لم يُفقد كبير جداً.

أما الأمر الذي يثير الدهشة، فهو وفرة المحصول. إن سنسب ثلاثين وستين ومائة بالمائة لهي نسب مرتفعة جداً ولا يمكن أن تنتج في أي تربة في فلسطين. إنه شيء يثير الدهشة. ليس سبب الدهشة هو الفشل المتكرر إنما هو المحصول غير العادي، إنه يفوق عادات الطبيعة! ويشير هذا إلى أن الملكوت لا يدخل ضمن الحسابات البشرية والطبيعية، إنه نتيجة معجزة إلية. إن مشهد الطبيعة والزارع الذي خرج ليزرع، وهو ما انطلق منه يسوع للحديث عن الملكوت، يتمدد حتى يحطم قوانين العادة. فالملكوت هو في يد الله، إنه هبة مجانية حرة.

ثقة في الحاضر

كثيراً ما نقرأ المثل معتقدين أن الثقة المطلوبة من الزارع ثقة موجهة للمستقبل. إذا كان الأمر كذلك لكانت رسالة المثل المركزية شيئاً مفروغاً منه. ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الثقة المطلوبة تتعلق بالحاضر اكثر منه بالمستقبل. هذه هي خاصية المثل الفريدة. لا ترد مشاهد الفشل المتكرر والنجاح في إطار خط زمني: اليوم نعاني فشل المجهودات وغداً نسعد بالمحصول الوفير . إن مشاهد المثل موضوعة ومرتبة في إطار خط مكاني: لأن الفرق يقوم بين تربة وأخرى وليس بين زمن وآخر. ففي عملية الزراعة الواحدة، في الوقت الواحد، لا تثمر بعض الحبات ويثمر البعض الآخر. هناك من يقبل الكلمة وهناك من يرفضها، في الوقت نفسه.

من يعيش بموجب هذه الثقة لا ينتظر أن يثمر الحب دائماً وفي كل مكان. ولكن الثقة بأن الحب يعطي الآن، بكيفية ما، ثمراً يسمح برؤية ذلك وليس لمجرد الصبر. لذلك لا عجب في ألا يكون كل اليهود قد آمنوا برسالة المسيح ولا عجب أن تظل جماعة المؤمنين أقلية. ففي الحالتين كلتيهما لا مبرر للإحباط ولا للشك في وجود الملكوت. إن ثقة الزارع تدعو إلى تخطي الفشل للتيقن أن كلمة الملكوت، بين فشل ونجاح، فعّالة الآن أيضاً. وهنا يمكن للمرء أن يتذكر كلام المسيح: "ارفعوا عيونكم وانظروا إلى الحقول، فقد ابيضت للحصاد" (يو 35:4).

ويظل السؤال

ربما يندهش البعض من إهمال الزارع الذي يلقي الحب على الطريق وعلى الصخور. ولكن إذا عُرفت طبيعة الأرض في فلسطين، زال العجب. فالفلاح الفلسطيني يلقي بالفعل بذاره بالطريقة التي يوردها الإنجيل. ففي نهاية الصيف تكون الأرض جافة ومحروقة ويابسة ولا يمكن تمييز المدقات والطرق على جانب ووسط الأراضي الزراعية، فيقع عليها الحب وتأكله الطيور. والتربة غير عميقة بسبب طبيعة الأراضي الجبلية. وقد تكون الصخور على السطح مباشرة أو تحته بقليل. وتنتظر جذور الأشواك الرطوبة لكي تخرج هي أيضاً. إنه يصعب التمييز بين تربة جيدة وأخرى رديئة. يتعرض المزارع دائماً لخطر فقدان نسبة من حبوب البذر.

فرواية الإنجيل إذاً رواية واقعية حتى وإن كان من غير المعقول أن يجهل فلاح حقله بهذه الطريقة. ربما يبسط المثل الأمور أكثر من اللازم. ومع ذلك يقوم المثل على هذا التشابه حتى وإن كان من الضروري في نهاية المثل، كما سبق ورأينا، أن يدخل الوفرة غير العادية للحصاد، قياساً لما كان ينتظره، منطقياً، الزارع.

هذه هي قصة المثل: ما يحدث لعمل الزارع ، يحدث لعمل الله . ولكن لماذا يشبه زرع الله بزرع فلاح؟ قد لا يثير العجب خسارة زرع الفلاح، إنما خسارة زرع الله فهي التي تثير العجب. فلو استطاع الفلاح تفادي الخسارة لما توانى. ولكن ألا يستطيع الله تفادي خسارة زرعه؟ إنه سؤال يدفع لإعادة قراءة المثل. ولا يمكن الحصول على إجابة شافية لهذا السؤال. ما لم يوضع المثل في إطار حياة يسوع. عندئذ يتضح معنى المثل. ولا يمكن قراءة هذا المثل وأي مثل آخر بعيداً عن هذا السياق. وذلك لأن عمل الزارع يختلف عن عمل الله. حياة يسوع وحدها هي التي تسمح باكتشاف نقاط التشابه. حياة يسوع، كلماته، أعماله، الصلب والقيامة هي المثل الذي يوضح كل الأمثال. لا تتضح معاني كل الأمثال إلا بعد القيامة.

إذا تشابه زرع المزارع مع زرع الله فذلك لأن عمل الله يخفي وراءه ويقوم على حب لا متناهٍ. قد يبدو وكأنه إتلاف وخسارة، وصليب يسوع فقط هو الذي يكشف معناه (أي الحب) الحقيقي: إنه ليس إتلاف أو خسارة أو ضعف وعجز فاعلية، إنما مجانية وكشف عن نور الله.

هنا تختلف ملامح صورة الزارع: حركاته ليست بعد حركات فلاح فلسطيني عادي ولكنها حركات كشف عن الكرم والجود الإلهي، كرم مجاني لا يبحث عن أية مصلحة، كرم فائض لحد الإسراف. إنه كرم حب غير قائم على الحسابات.

عن مجلة صديق الكاهن