مخطوطات قمران: اليهود والرومان (6)

يرفض تيشر نتائج الحفريات الأركيولوجية حول مباني قمران وعين فشخة ويرفض كذلك المعطيات والنتائج المترتبة على فحص المغاور وقطع الخزف والمخطوطات.

ويكتب بهذا الصدد :  " إنهم ( من يعارضونه الرأي )  يؤكدون  أنه يجب  رفض  نسبة   المخطوطات   إلى   المسيحيين  بحجة  أنه  أمر  يتعارض  مع  المعطيات  الأركيولوجية ،  متناسين  أنه  يمكن  أن  يكون العكس: المعطيات  الأركيولوجية  لا  يمكن  أن  تكون  صحيحة  لأنها  متعارضة  مع نسبة هذه المخطوطات للمسيحيين".

يجب الإقرار بالتشابه بين نصوص مخطوطات قمران والمسيحية وبالمشاكل التي أثارها اكتشاف قمران بالنسبة لتاريخ الكنيسة  الأولى  وتاريخ  اليهودية وبالمجال  الواسع  الشائك  الذي فتحته هذه الاكتشافات أمام الدارسين والباحثين. ولكن مع الإقرار بهذا كله لم يقتنع أي من العلماء بنسبة مخطوطات قمران إلى جماعات مسيحية.

سادت حالة من الفوضى والاضطراب العلمي بعد اكتشاف المخطوطات لدرجة أن البعض أنكروا الوجود التاريخي للأسينيين الذين ذكرهم ووصف حياتهم يوسيفوس فلافيوس وفيلون الإسكندري وبلينيوس، معتبرين ذلك أسطورة من نسج الخيال.

ختم تيشر JL. Teicher محاضرته في غطار مؤتمر المستشرقين الثالث والعشرين المنعقد في كامبريدج في أغسطس 1954 بهذه العابرات: "توصلت في دراسة   بدأتها ،  ولم   اختمها ،  حول   المصادر   التاريخية  للأسينيين  إلى  هذه النتيجة : هذه  الجماعة  اليهودية  كما  يصفها يوسيفوس فلافيوس لم توجد على الإطلاق . أما  وصف  فلافيوس  فهو  من  ابتكاره  ،  تعود  ملامحه   الأساسية   إلى   ملاحظته  الخارجية  لحياة  الجماعات  المسيحية  الأولى .  ينبع   هذا   التشابه   بين   الإسنيين   والمسيحيين  ومخطوطات  البحر  الميت".

أتم ديل ميديكو E.Del Medico هذه النظرية مؤكداً أن مغاور قمران ما هي إلا جنيزوت أي مكان لحفظ الكتابات التي بطل استعمالها لقدمها أو لأن بها أخطاء تعليمية. ويظهر هذا من آثار الحرق في بعض المخطوطات. ويُرجع ديل ميديكو المخطوطات الموجودة إلى الغيورين والبعض الآخر إلى الفريسيين أو الصدوقيين إلخ… ويؤكد أن منطقة قمران لم تُسكن علىالإطلاق. أما آثار المباني والخزانات كانت لخدمة المدافن: ففي المباني كان يسكن حراس المدافن وخزانات المياه كانت لتغسيل أجساد الموتى وتطهير العاملين في المدافن والزوار. أضاف المسيحيون على هذه المباني مسحة إنجيلية مثلاً مكان نسخ المخطوطات، الحديث عن الكنز.

أما أهم نقطة في نظرية ديل مديكو فهي أن الأسينيين لم يوجدوا على الإطلاق. إنهم من نسج خيال فيلون وسذاجة بلينيوس الذي صدق الأمر، وعدم دقة نساخ كتابات يوسيفوس فلافيوس.

لا يمكن إنكار صعوبة تحديد هوية الأسينيين كسكان للمنطقة قمران ومؤلفي لمعظم المخطوطات الموجودة. ولكن ديل ميديكو كثيراً ما أهمل دراسة المخطوطات والآثار الأركيولوجية، تاركاً لخياله العنان. لذلك رفض الدارسون والباحثون النتائج التي توصل إليها.

وبعد نشر وثيقة دمشق 1910 اهتم بعض العلماء بدراسة جماعة الأسينيين. ففي 1934 كتب بونسيرفن J.Bonsirven: "جماعة ضالة ومنشقة تدعو   إلى  تعاليم  الأسينيين  .  هذا  ما  تظهر  عليه  جماعة  عهد  دمشق  التي   تعرفنا   بها   الوثيقة   ذات   الأصل   الصاروفي  التي  اكتشفها  ونشرها شيشتر Schechter سنة 1910".

كانت اكتشافات قمران هي الحكم الفيصل في مسألة تحديد هوية وكيان الأسينيين طرح سوكينيك E.L. Sukenik الفكرة. أما صاحب الفضل الأكبر في توضيح وإثبات ذلك فهو أندريه ديبونت-سومر André Dupont-Sommer، أستاذ العلوم السامية بجامعة السربون. حدد ديبونت-سومر هوية سكان منطقة قمران: إنهم إسينيون ويعود إليهم الجزء الأكبر من المخطوطات. إنها الكلمة الأخيرة في المسألة.

مصدر معلوماتنا عن الأسينيين هو كتابات الفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري، والمؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس ونص لبلينيوس. ونظراً لأهمية ذلك تكرس المقالات التالية لترجمة هذه النصوص.

فيلون الإسكندري (13ق.م – 45م)

يتناول فيلون في كتاب Quod omnis probus sit liber عبث نظرية الرواقيين التي تقصر الحرية على الحكماء. يعرض فيلون النظرية ويثبت أنه يوجد أهل الحكمة وأهل الفضيلة وأهل البر، حتى وإن كان عدهم قليلاً. ويدعم نظريته بأمثلة من اليونان وفارس والهند وفلسطين.

[75] ولا يغيب سمو الفضيلة في سوريا وفلسطين، حيث يوجد عدد كبير من أمة اليهود العظيمة. هناك جماعة يصل عددها إلى 4 آلاف على حد قول البعض، اسمها جماعة الأسينيين وبالرغم من أنها ليست كلمة يونانية بحصر المعنى إلا أنها قريبة من osiotgd= القداسة، وذلك لأنهم انقطعوا بنوع خاص لخدمة الله، لا بتقديم الذبائح ، بل بتقديس أفكارهم.

[76] وأول ما يخص هؤلاء هو تفضيلهم سكنى الريف والهروب من المدن بسبب الشرور التي غالباً ما يقترفها سكان المدن، لأنهم يعرفون أن معاشرة هؤلاء معدية لنفوسهم، كما يعدي الوباء. ويعمل بعضهم بالفلاحة وآخرون بمهن أخرى تهدف إلى إقرار السلام لصالحهم ولصالح القريب. إنهم لا يكنزون ذهباً أو فضة ولا يملكون مساحات شاسع من الأراضي بهدف الكسب ولكن للحصول على احتياجاتهم الأساسية.

[77] إنهم وحدهم، دون سائر الناس، يعيشون بلا خيرات ولا ممتلكات باختيارهم الحر وليس لأن الزمن أحنى عليهم. لذلك يتقدون أنهم أغنياء جداً لأنهم يعتبرون الفقر مع الفرح خير فائق، وهو كذلك.

[78] ولا يوجد إطلاقاً بينهم صانع سهام أو رماح أو سيوف أو خوذات أو صدرات أو ترس ولا مركبات حربية ولا وسيلة حرب ولا أشياء سلمية يمكن إساءة استعمالها. ولا يخطر على بالهم، ولا في الخيال، أمر التجارة في البر أو البحر. إنهم يعزفون عما يمكن أن يثير الأطماع.

[79] ولا يوجد بينهم عبد واحد: إنهم جميعاً أحرار متعاونون فيما بينهم. إنهم يدينون الأسياد بظلمهم، إذ أنهم يخالفون المساواة بين البشر، ويعتبرونهم أشراراً لأنهم يخالفون الناموس الطبيعي الذي كأم ولد جميع البشر وعالهم وجعلهم أخوة ليس بالاسم ولكن بالفعل. لقد جرحت هذه القرابة بسبب الطمع اللئيم الذي وجه إليها طعنات قاتلة مُحِّلاً العداء بدلاً من الصداقة، الحقد بدلاً من الحب.

[80] أما فيما يخص الفلسفة فإنهم يتركون علم المنطق للمتلاعبين بالألفاظ، إذ أنه لا يجدي في اكتساب الفضيلة، وعلم الفيزياء للرائين الثرثارين، لأنه يفوق إمكانيات الطبيعة البشرية، ماعدا تعاليمه عن وجود الله وطبيعة الكون. ولكنهم يدرسون بعمق شديد علم الأخلاق، مستخدمين في ذلك شرائع أبائهم، التي لم يكن في إمكان أحد التوصل إليها بدون الوحي الإلهي.

[81] إنهم يدرسون هذه الشرائع كل يوم ولكن بنوع خاص في اليوم السابع لأنهم يعتبرونه يوماً مقدساً ينقطعون فيه عن سائر الأنشطة ليجتمعون في أماكن مقدسة، يسمونها مجامع ويصطفون في المجامع حسب السن: أولاً الشيوخ ثم الشباب ويجلسون وآذانهم مصغية.

[82] ويأخذ أحدهم الكتب ويقرأ بصوت عالٍ، بينما يتقدم آخر، من المتقدمين في العلم، ويفسر ما يصعب فهمه. إنهم يعلمون عادة بالرموز، كعادة الأقدمين.

[83] إنهم يتعلمون التقوى والقداسة والبر وأداب المعاملات في الأسرة والمجتمع، والتمييز بين الخير الحقيقي والشر وحسن اختيار ما يجب عمله وما يجب تفاديه. ويستندون في ذلك على 3 قواعد أساسية: محبة الله، محبة الفضيلة، ومحبة البشر.

[84] وهناك أدلة كثيرة تبين حبهم لله: الطهارة الدائمة والمستمرة طوال الحياة، تفادي القسم رفض الكذب، اعتبار الله أصل كل شيء خير، ولكنه ليس أصل الشر. يظهر حبهم للفضيلة في احتقارهم للثروة والمجد والملذات. كما يظهر في تجردهم وبساطتهم وسرورهم وتواضعهم وطاعتهم للقانون واتزان تصرفاتهم وكل الفضائل المشابهة لذلك. أما حبهم للبشر فيظهر في حقوقهم والمساواة بين الجميع والحياة الجماعية التي هي أكبر من أي مدح ويجدر الكلام عنها.

[85] أولاً: لا يملك أحد أي منزل: المنزل ملك الجميع. إنهم يعيشون في أخويات لذلك فالمنزل مفتوح لكل الزائرين الذي يشاركونهم الاقتناع والهدف، من أي مكان كانوا.

[86] ثانياً: صندوق واحد مشترك لسد الاحتياجات العامة: الملابس والوجبات عامة. إنه من المستحيل أن يجد المرء نموذجاً للحياة المشتركة أكثر كمالاً من هذا. لا يحتفظ أي منهم بأجره اليومي بل يودعه الصندوق العام لكي يكون في خدمة واستعمال الجميع.

[87] ولا يُهمَل المرضى لأنهم أصبحوا غير منتجين. فمصروفات علاجهم مكفولة من الصندوق العام ولا يخشون ارتفاع تكاليف العلاج. ويحاط الشيوخ باحترام وخدمة وعناية الشباب عنايتهم بوالديهم. إنهم لا يبخلون عليهم بأي نوع من المساعدة والاهتمام الحاني.

[88] هؤلاء هم الأبطال الذين تفرزهم هذه الفلسفة التي تجهل أساليب البلاغة اليونانية ولكنها تعرض ممارسات بالغة السمو ويستطيع اتباعها وتتميمها بفضل درجة الحرية التي وصلوا إليها.

[89] ساد هذا البلد حكام مختلفون في الطباع والميول: نافس بعضهم الحيوانات المفترسة، مستعملين شتى أنواع القسوة والقمع مضحين بالناس كما تذبح الشياه، كما لو كانوا جزارين ولم يكفوا عن طغيانهم إلى أن أذاقهم الله الساهر على مصائر الناس من نفس الكأس.

[90] وتفادى آخرون إثارة الشعب وإغضابه بطريقة أخرى لئيمة. بالرغم من قسوتهم الباطنية التي تفوق الحدود، كانوا يتكلمون بهدوء، مخبئين بريائهم وحلو كلامهم الأحقاد التي تملأ نفوسم، وأنيابهم تقطر سماً فسببوا أضراراً لا علاج لها تاركين في كل مدينة كوارث لا تنسى متمثلة في الأشخاص الذي عانوا بسبب شرورهم وحقدهم.

[91] ومع ذلك لم يستطيع ولا أكثر هؤلاء الحكام خبثاً أن يوجه اتهاماً أو لوماً لجماعة الأسينيين أو القديسين، بعكس ذلك كان الجميع مقتنعون بفضيلتهم وكانوا يعاملونهم معاملة الأحرار بالطبيعة، إذ كانوا يحتفلون بوجبات طعامهم الطقسية وحياتهم الجماعية التي تفوق كل مدح، كدليل على حياة كمال وتسامي عاليين.

عن مجلة صديق الكاهن