الأمثــال (9)

حبة الخردل (مر30:4-32)

يشبه أسلوب هذا المثل أسلوب تشبيه الزرع الذي ينمي وحده، والذي تناولناه في العدد الماضي ، فالإيقاع سريع ، غير متسق التتالي : إنه يكشف سرعة الحركة والفكر.

ويسبق المثل سؤالان متوازيان تماماً

بماذا نشبّه ملكوت الله

أو بأي مثل نمثله؟

ويجدر بنا أن نلاحظ أن السؤال يرد في صيغة المتكلم الجمع، وبذلك يُضمِّن الراوي نفسه مع السامعين أو القارئين في التساؤل.

بأي مثل

تقديم الحديث بتساؤلات طريقة خطابية واسعة الانتشار ومعروفة. يهدف السؤال إلى جذب انتباه المستمع إلى الموضوع الذي يُراد تناوله. كما أنه يوحي للمستمع بالرد . ولكننا لسنا هنا أمام مجرد أسلوب خطابي . فليس هدف السؤالين اللذين يسبقان المثل البحث عن وسائل إيضاح تساعد على القاء الضوء على موضوع صعب الفهم، ولكنهما يهدفان البحث عن وسيلة ربط بين خبرة الإنسان وملكوت الله. لا يهدف المثل أن يكون مثالاً توضيحياً، ولكنه يهدف لأن يكون خبرة حقيقية مقنعة، يصل فهمها إلى الجميع، ولكنه يفتح، في ذات الوقت، الأفق والأذهان على سر عمل الله.

تثبت كل كلمات يسوع المسيح وأمثاله وتعاليمه (بالأمثال) أن هدفه الأساسي هو مساعدتنا، نحن البشر، على اكتشاف علامات ومظاهر التشابك والتلاحم بين خبرتنا وبين الملكوت. إنه لم يكن فعل ذلك، ما كان بإمكانه أن يكلمنا عن الله كلاماً متفرِّداً ومختلفاً عن كلامه عن البشر.

تقوم عظمة وروعة إعلانات يسوع المسيح في حديثه عن الله وعن الإنسان معاً، لذلك كانت إعلاناته بالأمثال، وهكذا يجب أن تكون حياة كل مسيحي.

وعندما يفعل ذلك، أي عندما يريد الحديث عن الله والإنسان في ذات الوقت ، فإنه لا غنى عن الالتجاء إلى التشابيه والأمثال ، وليدة الخبرة وليست الناتجة عن التأمل والتخيّل. كان القديس مرقس واثقاً من وجود علاقة وثيقة، لا بل انتماء متبادل بين المثل والملكوت، لذلك يتساءل: "بماذا نشبه ملكوت الله أو بأي مثل نمثله؟" (مر30:4). يجب أن يكون ملكوته دائماً المركز ونقطة الالتقاء، بين وجوده وخبرتنا الإنسانية، وألا يصبح جسماً غربياً ولغواً غير مفهوم.

ولا تقدم لنا هذه الجوانب مجرد إشارات غامضة، وإنما تقدم رؤى. يتلاقى الملكوت والحياة ولكنهما لا يتواجدان معاً. ونقطة التقابل هي أداة التشبيه "كما" أي "تقريباً"، وبالتالي هناك تشابه وليس تساوياً: بماذا نشبه؟.. إنه يشبه حبة خردل…". وكلمة "بماذا" تنتمي إلى طبيعة المثل الذي يوحي بأشياء دون أن يحدها أو يحددها . كما أنها تنتمي قبل كل شيء إلى طبيعة الملكوت ، الذي يمكن اختباره واختبار قربه ، ولا يمكن تملكه والإمساك به.

أصغر البذور

لا يصف تشبيه حبة الخردل واقعاً جامداً ثابتاً ولكنه يروي "متغيرات". يستعمل يسوع دائماً صورة حية ديناميكية للكلام عن الملكوت. ولا يمكن إلا ذلك لأن الملكوت هو تاريخ، إنه حدث وليس حقيقة خارج الزمان، مثل مبدأ حكمي أو مبدأ لاهوتي.

وأول انطباع يكوّنه القارئ هو أن المثل قائم ومرتكز في التناقض بين أصغر البذور (31:4) وأكبر البقول (32:4)، بين تواضع البداية وعظمة وبهاء النهاية. إنه انطباع صحيح، ولكنه يظل ناقصاً. الوصول إلى عمق معنى هذا المثل يقتضي قراءة متأنية. هيكل المثل قائم في سلسلة سريعة من الأفعال: تُزرع… ارتفعت… صارت أكبر البقول… أرسلت أغصانها. فاعل كل هذه الأفعال هو حبة الخردل وحدها. حتى عملية الزرع يعبر عنها المثل في صيغة المبني للمجهول وبذلك يكون نائب الفاعل أيضاً هو حبة الخردل ولا يرد ذكر الزارع. وبالتالي يجب أن يتركز كل الانتباه على حبة الخردل.

ولكن الذي يهمنا ويهم كاتب المثل ليست قصة الحبة في حد ذاتها: لا الزراعة التي ترد في زمن الماضي ، كفعل مضى واكتمل، ولا النمو ، الذي لم يرد عنه أي شيء  في  المثل سواء كان نمواً بطيئاً أو سريعاً ومتواصلاً . النقطة  الهامة  التي  يجب أن يتركز الانتباه عليها توحي بها الطريقة التي يلجأ إليها الراوي وندرة استعمال الصفات: الوصف "أصغر سائر البذور التي في الأرض" وأكبر البقول كلها وأغصاناً كبيرة. واضح أن التركيز منصب على التناقض بين وضع حبة الخردل في البداية ووضعها في النهاية. المركز هو التناقض. ومع ذلك تظل الأفعال والحركات الوسيطة ما بين البداية والنهاية هامة ، لا بل أساسية ، لأنها توضح أن التناقض الكبير هذا  هو نتيجة استمرارية وليس نتيجة قطع. إن للاستمرارية ذات درجة أهمية التناقض. إنهما هدفا المثل: هذه الحبة الصغيرة هي بذاتها التي تصبح شجرة كبيرة. 

الأغصان الكبيرة

لا يجب علينا أن نعتبر الخاتمة "وأرسلت أغصاناً كبيرة حتى وأن طيور السماء تستطيع أن تعشش في ظلها" (32:4ب) مجرد وسيلة تجميل وديكور. ففي الأمثال الإنجيلية نادراً ما ترد أوصافاً لمجرد ملء الفراغ أو تجميل الصورة .  وفي  هذا  المثل يؤدي هذا الوصف دورين هامين.

يقوم الدور الأول في تقوية التضاد وإبرازه بالتركيز، بنوع من المبالغة، على كبر البقلة، الذي يمكن مقارنته بصغر الشجيرات الأخرى. النتيجة هي شجرة حقيقية. أما الدور الثاني فهو إعطاء القارئ مفتاح فهم المثل . فالشجرة  التي تحتمي طيور السماء بها هي  صورة  كثيراً  ما  ترد في النصوص الكتابية : قضاة  8:9-15 ، حزقيال 22:17-24و 4:31 دانيال 10:4-12و17-23. تشير كل هذه الإيحاءات والإشارات المباشرة أو الغير مباشرة إلى انتظار ملكوت الله. وتقاوم وتناقض هذا الملكوت الظروف الصعبة التي يعيش فيها الآن الشعب. تشير الشجرة مثلاً في أحد نصوص أشعيا إلى سيادة وقدرة الله التي يجد الشعب في ظلالها الخير والسعادة: "فيكون… وكوخ ظلاً في النهار من الحر ومعتصماً وستراً من السيل والمطر" (أش6:4) . الفعل الذي يستخدمه الإنجيليون في مصل حبة الخردل يقود إلى نفس المعنى. الفعل هو كاتسكينو: يضرب الخيمة. يسكن بسلام في الظل. وينفرد إنجيل القديس مرقس بمسألة الظل . إنه يقدم المثل بطريقة مختلفة عما يقدمه بها انجيلا القديسين متى (31:13-32) ولوقا (18:13-19): لا تأوي أو تعشش الطيور بين أغصان الشجرة، إنما أرضاً في ظلها.

ويعتقد معظم مفسري اكتاب المقدس أن ختام الشكل الأولي للمثل كان عظمة الشجرة . أما مسألة الطيور التي تستظل أو تعشش فيها فهي إضافة  لاحقة . وقد يكون هذا الرأي قابلاً للإثبات، ولكني لا أر، مع بعض المفسرين، ضرورة هذا الافتراض. فإدراج تفصيلاً أو تفاصيل في القصة، تتفق من ناحية مع السياق وتوسع الأفاق من ناحية أخرى وتفتحها على ثقافة وعقلية المستمع، لا تشير بالضرورة إلى ترقيع: إنه دليل على عبقرية الراوي. وينطبق هذا على مثل حبة الخردل والطيور التي تستظل للمساعدة على الحل والفهم إنها تفاصيل لا تبعد عن مركز القصة بل تعطي إطاراً وشفرة للحل.

حبة صغيرة شجرة كبيرة

أوضح لنا تحليل بنية المثل أن النقطة المركزية التي يركز عليها هي التناقض بين صغر الحبة وكبر الشجرة.

ولكن، لكي نفهم جيداً معنى هذا التناقض، يجب الخروج من بنية التشبيه، والدخول في الإطار الذي قيل فيه والذي يستمر. يوحي السؤالان التمهيديان بذلك ويثبتا السياق العام للإنجيل، يجب فهم هذا التشبيه انطلاقاً من شخص يسوع المسيح،  الذي يقدم ذاته متواضعاً صغيراً إلا أنه في النهاية يتمجد وكذلك الملكوت يبدأ صغيراً ويصير أكبر من كل شيء. لقد أثار هذا التناقض عدة تساؤلات لدى الجماعة المسيحية بعد القيامة. ولكن بفضل استمرارية الوضع هذه، استمر التشبيه حياً وأميناً لأصله.

وإذا أخذنا في الاعتبار عظم الآمال والانتظار الذي كانت تثيره وتحييه كلمة ملكوت، لأدركنا عظم خيبة الأمل ، لأن يسوع شبهه بحبة الخردل ، الخاضعة لكل قوانين الطبيعة : أولاً البذور ثم الشجرة، البداية ثم الخاتمة … ألم يكن متوقعاً أن يدخل الملكوت العالم كعمل مكتمل، يحل كل المسائل؟ ولكن آخر عمل الله- الملكوت- هو عمل ذو بداية، لا بل بداية متواضعة للغاية يمكن مقارنتها بحبة الخردل التي هي أصغر سائر البذور التي في الأرض.

كون يسوع يطلب أن يتم اعتباره بداية الملكوت يقتضي من المستمعين اهتداء لاهوتياً قبل الاهتداء الأدبي والأخلاقي: حتى في وقت الاكتمال لا يلقي الله أشجاراً إنما بذراً. إنها طريقة جديدة تماماً لفهم الاكتمال.

ليس أول هدف للتشبيه هو الدعوة إلى الرجاء أو الإيحاء للإنسان بطريقة السلوك والتعامل مع الله. إنه يهدف إلى الإيماء، بطريقة تصور جديدة، لملكوت في التاريخ. فالتشبيه هو تشبيه لاهوتي، ولذلك فإنه من الخطأ المرفوض تماماً تطبيق صورة الحبة على رسالة يسوع أو الكنيسة الأولى، وتطبيق صورة الشجرة على الكنيسة. ففي الواقع ليس الزمن الذي عاش فيه يسوع هو فقط بداية وأساس زمن الكنيسة ، ولكنه هو قانون الوراثة الذي يحدد هويتها وملامحها وطبيعتها . فزمن  الكنيسة  أيضاً  هو زمن بذر وليس زمن أشجار.

وهناك سؤال يطرح نفسه دائماً: هل يوجد هنا ملكوت الله؟ إن قلب التشبيه أي الانطلاق من الشجرة، كانت الكنيسة بذراً ثم أصبحت جماعة كبيرة، هو سوء فهم للتشبيه. وذلك لأن يسوع رواه لأولئك الذين يعيشون في حالة البذر.

من الشجرة إلى البذر

سبق وقلنا إن بنية التشبيه توجه النظر للأمام، للشجرة ولكن لا لتثبيت النظر على المستقبل، إنما كي تعيده مرة أخرى للحاضر. لأنه بالنظر إلى الشجرة يمكن فهم قدرة الحبة. لا يقاس كبر الشجرة على صغر الحبة ولكن العكس: يقاس صغر الحبة على كبر الشجرة. والدهشة أمام الشجرة يجب أن تتحول إلى دهشة أمام الحبة. فإذا كان يسوع يوجه أنظارنا للمستقبل، مستقبل أكيد كما هو شيء أكيد أن تصبح الحبة شجرة ولكنها بالطبع ثقة في الإيمان الناتج عن وعد، فذلك لكي يؤكد على قدرة وقوة الحاضر.

إذا قرأنا تشبيه حبة الخردل بهذه الطريقة، فإنه لا يقدم فقط درساً في الثقة ولكنه يقدم أيضاً تحذيراً: الحاضر مؤثر جداً، مهما كان صغيراً وضئيلاً.

قال أحد العلماء عن هذا المثل: يتعلق هذا المثل بالمستقبل. ليس هدفه هو تعليمنا أن ملكوت الله سيأتي بالتأكيد، أو سيأتي قريباً أو أن رسالة يسوع ستأتي بالتأكيد بثمار كثيرة. ويتعلق الأمر بإعطاء معنى للزمن الحاضر وتأثيره.

عن مجلة صديق الكاهن