مخطوطات قمران:جماعة قمران والأسينيون (9)

لا يرد لفظ "أسينيون" في أي من مخطوطات قمران ولكن من المرجّح أن يكون مرادفاً لكلمة قديس، المتكررة كثيراً في المخطوطات. كما أن كتابة الكلمة ترد بصورة مختلفة، فعند فيلون نجد كلمة أسايوي، أما يوسيفوس فلافيوس فإنه نادراً ما يستعمل الكلمة. وعندما يستعملها فهو يكتب "أسينوي". وشكل الكلمتين مشتق على الأرجح من الكلمات العبرية أو الأرامية "حِسين: قديس حَسايا: موقر، وإن لم يكن العلماء قد اتفقوا بعد على أصل اشتقاق الكلمة. وواضح من كتابات فلافيوس وفيلون إعجابهما بقداسة هذه الجماعة.

ولا تعطينا المصادر معلومات أكيدة عن نشأة هذه الجماعة. ويرجع بلينيوس نشأتها إلى زمن بعيد القدم وهذا من باب المبالغات الأسطورية، بينما يصمت الآخرون عن تاريخ النشأة وكذلك عن مؤسس الجماعة. ويتفق كل من فلافيوس وفيلون على عددها الذي كان يصل إلى 4000 عضواً.

يؤكد فيلون أنهم كانوا يسكنون في القرى ويتفادون سكنى المدن، بينما يذكر فلافيوس أنه لم تكن لهم مدينة خاصة، بل كانوا منتشرين متناثرين في كل مكان، وحيثما وجدوا كانوا يكونون جماعة. أما بابينيوس فإنه يعطي معلومات أكثر دقة إذ يقول إنهم كانوا يسكنون شمال غرب ضفاف البحر الميت. ويتفق الجميع على أنهم كانوا يمارسون الزراعة والرعي وأعمال أخرى، ماعدا التجارة بمعناها الحصري.

كما يتفق المؤرخون أيضاً على نظام الجماعة وأهمية ومكانة الشيوخ ومركزية السلطة والتمييز بين الفئات لمختلفة، وإذ لم تكن لديهم المساواة المطلقة وأول مظاهر التمييز تخص درجة المبتدئ. وأكثر المصادر وضوحاً في هذا المجال هي كتابات يوسيفوس فلافيوس ويليه هيبوليتوس الذي يعطي معلومات هامة جداً.

أهم شيء أثّر في كل هؤلاء الكتاب هو قداسة الجماعة والنمط الأدبي الأخلاقي لحياة أفرادها والحس الديني العميق السامي الذي ميز هذه الجماعة عن باقي الجماعات اليهودية المعاصرة لها والمحافظة الدقيقة  على  الشريعة الموسوية وعلى الشرائع الخاصة بالجماعة، والغيرة الحماس لقراءة ودراسة الكتب المقدسة ومهارتها في التفسير الرمزي الروحي للكتب وبراعة أعضائها في علم الأجرام والتنبء بالمستقبل. أما بخصوص العبادة فإن الجماعة تتميز بالمحافظة الدقيقة جداً على يوم السبت، وفي هذا تفوق الجماعة كل اليهود المعاصرين. وتمتاز كذلك بغسولات التطهير العديدة.

لم يكن لأي من أعضاء الجماعة عبيداً، كما أنهم تخلوا جميعاً عن أملاكهم الخاصة أو ما يعود عليهم من العمل. كانت حياتهم بسيطة تميل للتقشف الشديد. وكانوا يعيشون في جماعات، ويفصل بينهم محكمة خاصة بهم. كانوا يلتزمون بأقسام مغلظة في علاقاتهم مع الله ومع الجماعة وكانوا يعرضون عن الزواج.وهنا نجد ذواتنا أمام معلومات متضاربة. وسنعود لمناقشة هذه القضية فيما بعد.

يخبرنا قانون الجماعة أن أعضاءها ينقسمون إلى 3 فئات أساسية : الكهنة، اللاويين، العلمانيين (19:2…) لم يكن جميع الأعضاء يقيمون في قمران، والدليل على ذلك أن قانون الجماعة يوصي أنه أينما وجد عشرة أعضاء يمكن إقامة جماعة تحت قيادة كاهن. وكان الأعضاء من جهة أخرى ينقسمون إلى جماعات من ألف ومائة وخمسين وعشرة (القانون 3:4، 21:2-22).

كان لكل منهم مكانه المحدد في الاجتماعات العامة. وتقوم المشاركة في المناقشات على مكانة كل منهم. ولم يكن يسمح لأحد بمقاطعة آخر أثناء كلامه (القانون 8:4…). أما شؤون الجماعة فكان يبت فيها مجلس إدارة يتكون من اثني عشر عضواً وثلاثة كهنة (القانون 1:8) يتقدم الكهنة على الجميع، وكانوا يجلسون في المقدمة وقبل الآخرين (القانون 8:6-9) وكان هناك مفتش (متفقد) ومشرف وحكيم. ومازال الجدال مستمراً بين خبراء القمرانيات عن دور كل واحد من هؤلاء (القانون 12:6و 14و20…إلخ).

إذا أراد أحد الإنضمام للجماعة كان يخضع لفحص المفتش، الذي كان يحق له قبوله في الجماعة متى رآه أهلاً لذلك (القانون 14:6) ولكن المرشح لا يقبل فوراً كعضو كامل  العضوية ، إذ  يخضع  لفترة  اختباره  يعرض  أمره  بعدها على "الكثيرين" (القانون 15:6-16) الذين كانوا يقررون نقل المرشح أم لا إلى المرحلة التالية، ومدتها سنة. وفي حالة القرار الإيجابي لم يكن يسمح له بعد بالاشتراك في "طهارة الكثيرين" (القانون 16:6-17) وبعد نهاية سنة الاختيار هذه، تدرس حالته من جديد للتأكد من فهمه الكافي للشريعة ومطابقة حياته لقانون ونظام الجماعة (القانون 18:6-19). وإذا قُبل وكان رأي الجميع الكثيرين في صالحه فإنه يبدأ سنة الاختبار الأخيرة وتضم كل ممتلكاته وكل أنشطته إلى الجماعة، ولكن لا تدخل بعد في خزينة أو كنز الجماعة. وخلال هذه السنة لم يكن ليسمح له بعد أن يتناول الطعام مع أعضاء الجماعة. وقبوله بعد نهاية هذه السنة، يعني اندماجه التام في الجماعة: تدخل ممتلكاته في كنز الجماعة وكان ينال بركة الكهنة ويتلو القسم الرسمي وذلك في احتفال طقسي يعترف خلاله بصلاح الله ويعترف فيه بكل خطاياه. بعد ذلك كانت تعين له درجته في الجماعة (القانون 16:1..؛ 22:6).

وكانت الجماعة تخضع لنظام صارم. وكل عام، بمناسبة تجديد الوعد، يتم فحص جميع الأعضاء: ويمكن أن يرتقي أي عضو إلى درجة أعلى أو ينزل لدرجة أدنى (القانون 23:5-24) ويوقع عقاب على من يخالف نظام الجماعة، قد تصل العقوبة لمدة سنة وقد تقل حصته في الطعام. وإذا كانت المخالفة جسيمة فإنه يطرد من الجماعة (القانون 14:6-3:7). وكان أحد التزامات العضو أن يعيش بتواضع متجهاً (باحثاً عن) البر (القانون 1:6) وحينما وجد عشرة أعضاء كان لزاماً عليهم دراسة الشريعة ليل نهار: كان على العضو أن يقضي ثلث الليل في هذه الدراسة (القانون 6:6). وكان واجباً عليهم أن يأكلوا معاً ويباركوا معاً ويتشاوروا معاً: فكل فكرهم وكل قوتهم وكل خبراتهم وممتلكاتهم كانت في خدمة الجماعة (القانون 2:6-3ب 11:1-12).

وترد في قانون دمشق بعض الاختلافات الهامة. فهو يأمر قبل كل شيء بالزواج (قانون دمشق 6:7) ويذكر أربعة فئات من الجماعة الكهنة، اللاويين، أبناء اسرائيل، والمهتدين من الوثنيين (قانون دمشق 3:14) وقانون قبول المرشحين في الجماعة أكثر بساطة وطول فترة الاختيار غير محدد. يقول قانون دمشق إن من يريد الانضمام إلى الجماعة يخضع لفحص المشرف: تفحص أعماله وعقله وقوته وشجاعته وممتلكاته. فإن حاز الرضا يتلو القسم ويصبح عضواً فعلياً (قانون دمشق 11:13، 1:15) ولا يذكر قانون دمشق فحص الكثيرين ولا ضم ممتلكات المرشح للجماعة. ولكنه يذكر شيئاً لا يذكره قانون الجماعة: على كل واحد أن يدفع شهرياً في صندوق الجماعة مبلغاً لسد احتياجات الفقراء والمساكين (قانون دمشق 12:14) كما أن القانون لا يذكر شيئاً عن الحياة الجماعية.

ويشير قانون دمشق بإيجاز إلى الغسولات الشرعية ( قانون دمشق 11:10) ويبدو أن الجماعة كانت مقسمة إلى معسكرات (قانون دمشق 3:14).

ويتناول قانون دمشق شرعية الهيكل ويحدد كونه شرعياً فقط إذا كان هناك كهنة رعويين يتمون الطقس حسب قوانين الجماعة (قانون دمشق 2:4، 11:6، 17:10) أما قانون الجماعة فإنه لا يذكر لا المحرقات إلا بالمعنى الرمزي، ولا الهيكل (قانون الجماعة 9:8، 4:9-5). وإذا رجعنا إلى كتابات فيلون ويوسيفوس فلافيوس وبلينيوس وهيبوليتوس وسولينوس، نلاحظ الشبه الكبير والعميق بين رواياتهم، وفي نفس الوقت اختلافات حقيقية. إذا كانت هذه النصوص كتبت كلها في نفس الفترة فمن المستحيل أن تتكلم عن ذات الجماعة، بل يجب الإقرار أنها تتحدث عن ثلاث جماعات مختلفة. ومن جهة أخرى قطع العلماء الشك باليقين: فإن قانون الجماعة وقانون دمشق يرجعان إلى مصدر واحد وبالتالي لابد من الإقرار أننا بالفعل أمام جماعة واحدة، خضعت لتطورات وتغييرات ديناميكية، وضعها كل من فيلون وفلافيوس وبلينيوس وهيبوليتوس وسولينوس أثناء إحدى مراحل التطور هذه.

هناك ثلاثة صعوبات تحول دون القول إن جماعة قمران هم أسينيون طابع الإسنيين المسالم ويشهد فيلون أنهم لا يهتمون إطلاقاً بالأسلحة بينما يقول فلافيوس أنهم يحملون سلاحاً فقط للدفاع عن النفس أثناء السفر. ولكن سبق وبيننا أن ذلك نسبي ولا يمكن التسليم المطلق به إذ لم يكن كل الإسنيين على نفس درجة السلم. والصعوبة الثانية  تقوم  في الزواج والبتولية والثالثة تخصّ الذبائح في هيكل أورشليم. والأخيرتان تمثلان أهم الملامح ولكن المصادر الرئيسية تختلف حولهما. لذلك نرجح الرأي القائل أن الإسنيين، أو أقله فئة منهم، هم جماعة قمران وإليها تعود قوانين الجماعة، لا بل معظم المخطوطات إن لم تكن كلها، التي وجدت في المنطقة.

إذاً كانت جماعة قمران من الإسنيين الذين كتب عنهم فيلون ويوسيفوس فلافيوس وبلينيوس وهيبوليتوس وسولينوس، وجب الإقرار أن كل النصوص التي وصلتنا وتعتمد عليها، بما فيها مخطوطات قمران، لا ترجع إلى نفس الفترة الزمنية، كما نلاحظ ذلك من الفارق الواضح بين قانون الجماعة وقانون دمشق. يتناول كل من هذه النصوص فترة محددة من فترات تطور الجماعة قد تتفق أو تختلف عن الفترة التي يتناولها نص آخر. ولذلك يمكن استخدام هذه النصوص للتعرف على المراحل المختلفة لتطور الجماعة، أضف إلى هذا أن كتّاباً أمثال فيلون وفلافيوس عندما يتناولون الإسنيين، يفعلون ذلك بهدف واضح ومحدد. لقد عرف هؤلاء الكتّاب الإسنيين من الخارج فقط وبالتالي بطريقة سطحية تنقصها الدقة ولذلك لأن هذه الجماعة لم تكن لتبوح بحياتها وخصوصيتها واتجاهاتها لغير أعضاء الجماعة، بينما تزود مخطوطات قمران الباحثين، ولأول مرة، بمعلومات عن حياة الجماعة الداخلية.

عن مجلة صديق الكاهن