يوم السبت
لم تلجأ جماعة قمران أو تسمح بتفاسير سهلة لكي تساير الشريعة والحياة اليومية لليهود والواقع التاريخي، بينما لجأ الفريسيون إلى ذلك. كانت الجماعة تحافظ، وتطالب بالمحافظة، على كل الشريعة، بكامل تفاصيلها ومتطلباتها. وانطلاقاً من هذا المفهوم الصارم نجد سلسلة طويلة من الشروط الخاصة بيوم السبت في وثيقة دمشق وللمحافظة على السبت بدقة. كانت تُتلى هذه الترتيبات عصر الجمعة، وتتضمّن أنه لا يجب العمل عندما يكون بُعد الشمس عن الباب الغربي مقدار محيطها ولا يستطيع المرء أن يتفوه بكلمة تافهة يوم السبت. لا يمكن الابتعاد عن المدينة أكثر من 1000 ذراع بينما يرى الفريسيون أنه يمكن السير 2000. إذا وقع حيوان في داخل حفرة لا يجب جذبه خارجاً يوم السبت. ونعرف أن يسوع يعتبر أن ذلك شيئاً مفروغاً منه مساعدة من يحتاج، حتى يوم السبت (مت12: 11، لو14: 5).
والعهد الذي ترتبط به الجماعة هو عهد موسى، وكما تسميه وثيقة دمشق العهد الجديد. ليس المقصود بالجديد عهداً حل محل الأول. إنهم يقصدون به عهد الله مع موسى، الذي تعيد الجماعة إحيائه. من يبتعد عن الغش والكذب يصبح عضواً في الجماعة ويهتدي إلى شريعة موسى وينزع من عالم الكذب الذي يسقط فيه الوثنيون، ومن لا يعيش بمقتضى الشريعة من بني إسرائيل. أما المختارون فيقودهم الحق والنور.
حرب النور والظلام
تعيش جماعة قمران أو جماعة العهد الجديد حالة صراع، تصفها الوثائق، بطريقة رمزية، بالتضاد بين النور والظلام: في الخارج مصير أبناء الظلام، قوات بليعال والشعوب الوثنية التي يذكرها العهد القديم باستمرار (أدوم، موآب، عمون، الفلسطينيين، الكلدانيين). ويعضد ميخائيل وقواته أبناء النور. ويوضع الصدام في قالب تعليمي، ويتم بأمر ترتيب إلهي لأنه من إله المعرفة يأتي كل إنسان وكل عمل.
الله خلق الإنسان لكي يسيطر على الأرض وأولاه روحين لكي يسير حتى نهاية الزمن المحدد لافتقاده وهما روح الحق وروح الضلال "أساس النور هو الحق بينما أساس الظلام هو الضلال". فمن ناحية نجد أمير النور الذي عهد إليه الأبرار النور. ويملك من الجانب الآخر ملاك الظلام. إنه يسيطر على أبناء الضلال الذين يسيرون في طريق الظلام. وتنبع من ملاك الظلام، كل أخطاء أبناء البر وكل خطاياهم وشرورهم وأعمالهم. كل ذلك هو نتيجة سيطرة ملاك الظلام حسب مخطط الله منذ البدء. وتحاول قوى الشر أن تجر أبناء النور، ولكن إله إسرائيل وملاك الحق يساعدان أبناء النور. وتكشف أعمال الإنسان في العالم الجهة التي ينتمي إليها. وحتى الإنسان الذي يعمل الخير لا ينجو من القتال، بل يجب عليه دوماً محاربة الكذب الضلال والظلام بثبات. يتصارع في قلب الإنسان ملاك النور وملاك الظلام حتى النهاية الأزمنة. ولا يستطيع أحد التهرب من هذا الصراع، حتى الصديقون يواصلون الحرب. بقدر ما يرث الإنسان الحق والعدل يكره الظلم، وبقدر ما يرث من الظلم يحارب ويكره الحق. وهكذا يظل القتال محتدماً إلى أن يضع الله له حداً. لأن الله وضع كل منهما (الروحيين) مقابل الآخر إلى الزمن المحدد والخليقة الجديدة.
تأثير فارسي
يرد ذكر ووصف التضاد بين النور والظلام في العهد القديم أكثر من مرة (راجع تك 1: 3-5؛ 1: 14-19؛ عا 5: 18..)، وتقليد الحرب المقدسة، التي فيها يقاتل إله إسرائيل مع أو عن شعبه معروفة منذ القدم، وازدهرت مرة أخرى في عصر المكابيين. الشيء الجديد والذي لا ذكر ولا مثيل له في العهد القديم ولا في التقليد هو الصراع بين الروحين. ولكن هناك أراء شبيهة في ديانات فارس، حيث تفهم الحياة على أنها صراع بين الخير والشر. وبدأ هذا الصراع منذ البدء ويستمر حتى ينتصر إله الخير على إله الشر. فالروح الصالح يحث الإنسان على العمل الجيد المنظم المفيد، بينما يدفع الروح الشرير الإنسان إلى ارتكاب المعاصي وعمل الشر. كما أن الأفكار والمفاهيم الفارسية أثرت على الأدب الرؤيوي عند اليهود، كذلك قد تكون ثنائية الحرب بين روح الحق وروح الغش متأثرة بالأفكار الفارسية. ولا يعني ذلك أن التأثير الفارسي على جماعة قمران هو تأثير مباشر. من المحتمل أن يكون التأثير الفارسي انتقل بطرق لا نعرفها حتى الآن، عن طريق يهود الشتات في بلاد ما بين النهرين.
ولكن هذه الآراء والأفكار لم تُقبل على علاتها إذ خضعت لتغير وتعديل حسب إيمان بني إسرائيل: الله هو خالق وسيد التاريخ وهو الذي خلق كل شيء وهو الذي سمح بالصراع بين الروحين والذي سيضع نهاية له في يوم من الأيام. وهكذا استخدمت جماعة قمران فكرة الثنائية للتعبير عن قدرة الله من ناحية، ولشرح وتبرير الصراع والقتال الذي تتعرض له الجماعة حتى اليوم الأخير. كما استخدمت الثنائية كنوع من التضاد، فهي تدخل من ناحية في مخططات الله منذ البدء ومن ناحية أخرى تتحقق بفعل اختيار الإنسان الانحياز للخير أو للشر.
فمن ناحية هناك تأكيد على أن الله يقود التاريخ وأن اختياره هو الذي يحدد مصير الإنسان ومن ناحية أخرى التأكيد المستمر على أن الشريعة تلزم الإنسان بالطاعة المستمرة والهداية واتباع الصراط المستقيم وتتميم جميع الوصايا لأنه مسؤول تماماً عن أعماله.
ضعف الإنسان
لا يمكن للإنسان أن يقاوم الله. هذا ما تعبر عنه صلاة الأبرار: "أنا أنتمي للبشرية الضالة لجماعة الجسد الشريرة. خطاياي وشروري وآثامي وميول قلبي الشريرة تضمني إلى جماعة الديدان السائرين في الظلام. ولأنه لا يوجد إنسان يستطيع أن يكون سيد طريقه ومسدد خطواته لأن العدل هو ملك الله ومن يده السلوك الكامل وبقدرته توجد الحياة . إنه يوجه كل كائن حسب خطته ولا يتم شيء بدونه. فإذا تزعزعت فإن جودة الله هي خلاص دائماً وإذا عثرت قدماي بسبب فساد جسدي فإن تبريري يأتي من عدل الله". ويصبح الإنسان الساقط مقبولاً فقط بفضل نعمة الله فهو الذي يخلصه ويضعه على الطريق المستقيم: أي مخلوق من تراب قادر على هذه العجائب؟ إنه في الخطيئة منذ الحبل به في بطن أمه وإلى الشيخوخة يظل مديناً. أعرف أنه لا عدل في الإنسان ولا سلوك كمال في بني البشر، الله وحده هو صاحب العدل بينما طريق الإنسان لا يستقيم إلا بقدرة الروح الذي خلفه الله لذاته لكي يجعل حياة بني البشر كاملة، ليعرفوا كل أعماله في قوة سلطانه وعظم رحمته على كل الأبناء الذين رضي عنهم.
وتظهر هذه العبارات ضعف وهشاشة الإنسان الترابي لأن جسده فانٍ ضعيف واهٍ. وينفصل الإنسان عن الله بسبب الخطيئة لأنه لا بر فيه وارتكب المعاصي. ونعمة الله هي التي تخلصه وتقربه منه تعالى وتدخله في جماعة العهد وتجعله عضواً في زمرة القديسين. لا ينقذ ولا يخلص الشرير إلا رحمة الله. فإذا تبرر الشرير لكنه إن يسلك الطريق المستقيم وحفظ الشريعة ومتطلباتها. لا ينجم تبرير الخاطئ الذي تتكلم عنه جماعة قمران من الشريعة لأنها هي طريق الخلاص الوحيد. نعمة الله ورحمته ينعشان ويقويان الخاطئ لكي يستطيع أن يحافظ على الشريعة. تفسر جماعة قمران الآية "البار بالإيمان يحيا (حبق 2: 4) بالطريقة التالية: ينطبق هذا على الذين يحافظون على الشريعة من بني يهوذا. الله يخلصهم من بيت الحكم (المحكمة) بسبب آلامهم وإيمانهم بمعلم العدل".
تحفظ جماعة قمران الشريعة كما يفسرها معلم العدل. بهذا تضمن الجماعة أنها تنال الخلاص الآتي. ولا تذكر نصوص قمران شيئاً عن قيامة الموتى. لذلك نقول إن تعليم الجماعة لم يسلك نفس الاتجاه الذي سار فيه تعليم الفريسيين. إنها تتوقع في كل لحظة قدوم المسيا. يهمها هذا الأمر أكثر من المستقبل.
الرجاء الإسكاطولوجي
تضع الجماعة رجاءها في مجيء النبي ومسيحي هارون وإسرائيل. ففي نهاية الأزمنة ستظهر 3 شخصيات: أولاً النبي الذي يبشر بالزمن المسياني ثم المسيحان . سيكون المسيح الكاهن والمسيح الملك جنباً إلى جنب، القيادة الروحية والقيادة الزمنية لجماعة الخلاص، كما ورد في زكريا النبي (زك4) زيتونتان = مسيحان. سيكون المسيح الملك على غرار داود ويملك على الشعب، ويسهر المسيح الكاهن على طهارة ونقاء وأمانة الجماعة الإسكاطولوجية . وللمسيح الكاهن المكانة الأولى، كما يتضح من ترتيب أماكن الجلوس في مراسيم العشاء المسياني في قانون الجماعة: "لا يستطيع أحد أن يمد يده إلى بواكير الخبز والخمر قبل الكاهن، لأنه هو الذي يتلو البركة على بواكير الخبز والخمر. هو الذي يمد يده أولاً إلى الخبز، بعده يمد مسيح إسرائيل يده إلى الخبز. وبعد أن يتلو البركة يمد كل واحد من الجماعة حسب ترتيب كرامته". ويقدمون دليلاً كتابياً على ذلك: نبوءة بلعام (عدد 24: 17) الخاصة ببزوغ نجم من يعقوب وصولجان من إسرائيل.
وينال المؤمنون المعرفة والفهم عن طريق الوحي، كما يقول المصلي: "من نبع علمه أشرق الله نوره فرأت عيناي عجائبه ونور قلبي فهم سر ما يحدث، ورأت عيناي ما هو أبدي الفهم العميق الخفي على البشر، المعرفة والأفكار الحكيمة المستورة عن بني البشر. لذلك تباركت يا إلهي يا من يفتح قلب عبده للمعرفة أنت علمت كل معرفة". ويختلف موضوع هذه المعرفة عن موضوع الغنوسية. معرفة أسرار الكون وأساطير خاصة بالوطن السماوي للإنسان المحكوم عليه بالسجن في المادة. وثنائية النور والظلام لا تطبق على الروح والجسد. على كل إنسان أن يقرر اتباع نداء التوبة والهدى. فإذا اهتدى وتبع شريعة موسى وضع ذاته في جانب الفوز وبنعمة الله يحصل على المعرفة الحقيقية. إنه يعترف بأن الله هو الخالق والسيد، ويفهم إرادته التي تتضمنها الشريعة، ويفهم أن الإنسان لا يقوم أمام الله، ويختبر جودته ورحمته. ويظهر الإنسان بتصرفاته لأي روح ينساق، روح الحق والبر أو روح الضلال والشر.
نتائج
بدراسة حياة وإيمان جماعة قمران من المخطوطات يجب أن نقر أن نسبة احتمال أنها جماعة إسنيين عالية جداً. فمكان إقامة جماعة قمران هو ضفاف البحر الميت مثل جماعة الإسنيين. يقود الجماعة كهنة وتقوم بغسولات شرعية يومية لكي تحافظ على الطهارة الكهنوتية، وتفصل ذاتها بدقة وحرص عن بقية أفراد الشعب لكي تحيا كجماعة قديسين بموجب الشريعة.
على من يريد الانتماء إليها أن يمر بفترة اختبار قبل قبوله عضواً فيها. وعليه أن يتفوه بقسم محنث يلزمه بطهارة الجماعة وواجباتها. لا يتصرف أحد في أي شيء من ممتلكات. والجماعة منقسمة إلى درجات ورتب متميزة. وهي تحافظ بدقة على الشريعة وترفض الزواج لتتجنب النجاسة. ويذكر فلافيوس أنه كانت هناك جماعة من الإسنيين المتزوجين. ونعرف من وثيقة دمشق أن بعض الجماعات القريبة من قمران كان أفرادها متزوجين ولهم حرية محدودة في التصرف في الممتلكات الخاصة. وربما يكون السبب الذي يبرر عدم ورود كلمة "اسنيين" في نصوص قمران أن آخرين أطلقوا عليهم هذا الاسم. الجماعة تعرف أنها هي إسرائيل الحقيقي، جماعة القديسين المختارين الذين كشف لهم الله أسراره.
عن مجلة صديق الكاهن