مخطوطات قمران (17)

جـ- نصوص أخرى

نشير بهذه التسمية العامة إلى كل النصوص الأخرى التي تعبِّر عن آراء ومعتقدات الجماعة، التي كانت تعيش في منطقة قمران. ومع ذلك سنتناول بعض الكتابات التي يدور جدال حول علاقتها بجماعة قمران. إنّ حدود وخصائص هذه الكتابات غير محدّدة جيداً نظراً لقلة المعلومات المتوفرة عن جماعة قمران والجماعات الأخرى التي كانت تعيش في الأرض المقدسة في تلك الفترة. ولكن المخطوطات التي وُجدت في المغاور هي وثائق ونصوص كتبت لاستخدام جماعة قمران، وللجماعة الأوسع التي كانت تعيش في صحراء يهوذا، وللجماعة الأكثر اتساعاً، الأسينيين، التي كانت تعيش في فلسطين. والنصوص التي نتناولها الآن هي عيّنة من النصوص التي كان العلماء إجمالاً يجهلونها، قبل اكتشاف مخطوطات قمران.

1.      تفاسير كتابية

كانت جماعة قمران تكرس جزءاً من يومها لدراسة الكتب المقدسة، التي كانت تُعتبرْ أساس حياة الجماعة. ويقول قانون تنظيم الجماعة: "لا يغيب عن المكان الذي يتواجد فيه عشرة أعضاء شخص يقرأ ويفحص الشريعة ليل نهار، لكي يساعد قريبه أن يحيا حياة أفضل. ولتسهر الجماعة معاً ثلث الليل كل السنة لقراءة الكتاب وبحث الشريعة والبركة العامة" (قانون الجماعة 6:6-8).

ويظهر اهتمام الجماعة بالكتب بطرق مختلفة، أهمها عدد المخطوطات الكتابية التي عثر عليها في المغاور الإحدى عشر. وهناك عامل آخر يظهر أهمية الكتب هو التفاسير المختلفة للكتب المقدسة التي عثر عليها في مختلف المغاور. والكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى ذلك هي بشير وجمعها بشاريم: تفسير، تفاسير. إنها كلمة شاملة، أطلقها العلماء على بعض التفاسير، وتنطبق بنوع خاص على الجزء الأول من المخطوطات التالية.

أ‌.         تفاسير شاملة

لقد عرفت جماعة قمران، وتشهد بذلك التفاسير التي وجدت في المغاور، شرح الكتاب المقدس بطريقة يمكن وصفها أنها المرحلة السابقة للتفاسير الحديثة. يبدأ مفسرو جماعة قمران، كما يفعل المفسرون الآن، ببعض كلمات النص المقدَّس ثم يلحقون ذلك بشرحه. ثم كانوا يرجعون إلى العدد أو الأعداد التالية لما سبق شرحه… وهكذا حتى نهاية الكتاب أو الجزء الذي يريدون شرحه. وكانوا يفصلون، بطريقة واضحة، بين النص المقدس (كلام الكتاب) وشرحهم هم (كلام المفسرين) بعبارات مثل "تفسير ذلك ومعنى ذلك." وحيث أن المفسِّر كان يذكر النص قبل شرحه فأصبحت التفسيرات مصدراً آخر لمعرفة النص المستعمل في تلك الفترة.

فحص العلماء بتدقيق تفسيرات جماعة قمران وتوصلوا إلى هذه النتيجة: يرتكز تفسير الكتب المقدسة لدى جماعة قمران على عاملين أساسيين: أولهما يتناول الكاتب المقدس، في نبوءاته، الأيام الأخيرة ولا يتناول أحداث عصره، وثانيهما كان المفسر يعتقد أنه يعيش الأيام الأخيرة؛ وبالتالي فإن النص الذي يتناوله موجه إليه وإلى معاصريه. وكان على المفسر بالتالي أن يكتشف ويكشف غموض الكلمات ويحل الألغاز ليصل إلى الرسالة التي يوجهها الله، إليه وإلى معاصريه، من خلال الكاتب. وكان المفسرون يذكرون أسماءً وأحداثاً محددة، تتناولها النبوءات حسب رأيهم. وبالتالي فإن هذه النصوص مصدر هام للمعلومات عن الجماعة وزمانها.

اتَّبع مفسرو جماعة قمران مبدأً آخر وهو أن الله كشف أسراره لعبيده الأنبياء ومعلم العدل، رأس الجماعة وأول قائد لها. ويعبِّر تفسير حبقوق عن هذه الحقيقة بوضوح شديد وخاصة تفسير (حبق 1:2-2): "على محرسي أقف وعلى مرصدي أنتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي وماذا يجيب عن معاتبتي. فأجابني الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح حتى يُسرَع في قراءتها" قال الله لحبقوق أن يكتب الأشياء التي ستحدث في الأزمنة الأخيرة ولكنه لم يكشف له زمن تحقيق ذلك. وما قاله: "حتى يُسرَع في قراءتها" يُشرَح بمعلم العدل الذي كشف الله له كل أسرار كلمات عبيده الأنبياء" (مغ1 تفسير حبق 11:6-5:7).

اعتبرت جماعة قمران ذاتها في وضع أفضل من وضع أي قارئ آخر للكتاب المقدس، إذ تميّزت بأنها تملك نصاً موحى به (الكتب المقدسة) ومفسِّراً موحى إليه (معلم العدل). كان أعضاء الجماعة مقتنعين بأنهم يستطيعون تفسير أصعب النصوص الكتابية، بفضل الوحي الذي انفرد به قائدهم. وصلت معظم التفاسير الشاملة في حالة سيئة وأغلبها وصل في جزئيات صغيرة، وعددها 17 أو 18 تفسيراً شاملاً. والكتب التي يتناولها التفسير الشامل هي: 6 تفسيرات لأشعيا، و 3 للمزامير، تفسيران لهوشع، وتفسيران لميخا، وتفسيران لصفونيا، وواحد لناحوم وواحد لحبقوق. ومن الملاحظ أن أشعيا، مثل النصوص الكتابية، يحظى بنصيب الأسد وتليه المزامير. وقد يبدو غريباً أن تكون هناك تفاسير شاملة لكتاب المزامير وكأنه بكيفية ما كتاب نبوي. وإليكم ما يقوله المخطوط الأول، الذي وُجد في المغارة الحادية عشرة عن داود: "أعطاه (داود) يهوه روحاً رفيعاً ومستنيراً: كتب 3600 مزموراً: 364 نشيداً، نشيد لكل يوم من أيام السنة تتلى أمام المذبح أثناء تقدمة المحرقة الدائمة اليومية. و52 نشيداً لتقدمة أيام السبت و 30 نشيداً لتقدمة رؤوس الأهلّة أثناء اجتماعات الجماعة وليوم التكفير.

عدد الأناشيد التي أملاها 446 و 4 أناشيد تصاحبها آلات العزف وتتلى لراحة المعذبين من الأرواح الشريرة. والإجمالي هو 4050، لقد أملى كل هذه الأشياء بالروح النبوية التي نالها من العلي (مغ11 مز 4:27-11). ذكر النص العديد من الأرقام. لذلك يجدر بنا التوقف لكي نعرف كيف وصل إلى الإجمالي 4050. تخص الوثيقة أولاً المزامير وعددها 3600 وتعطي بعض التفاصيل: مزامير تُتلى كل يوم ومزامير تُتلى أثناء تقدمة السبت وأخرى في رؤوس الأهلة وفي يوم التكفير. جميع الأرقام المذكورة تدخل في الرقم 3600، يُضاف إلى هذا الرقم الأناشيد التي أملاها والمزامير التي تصاحبها الآلات والتي تُتلى لراحة المعذبين = 3600 + 446 + 4 = 4050

والعهد الجديد أيضاً يعتبر داود نبياً ويطبق نصوصه على حياة يسوع والكنيسة الأولى (راجع أع39:2-31 وأيضاً 15:1-26). وتختلف العلاقة بين النص الكتابي والتفسير حسب المقطع ذاته. فأحياناً يقترب التفسير جداً من النص الكتابي وأحياناً أخرى يتوقف المفسِّر عند كلمة أو كلمتين ويفسرهما عن طريق الرموز، وأحياناً تكون العلاقة بين النص والتفسير غامضة. إن أحسن التفاسير حفظاً هي تفسير حبقوق وهو أحد المخطوطات السبعة التي وُجِدَت في أول اكتشاف، وتفسير ناحوم وتفسير المزمور 37. وتُعتبر تفاسير أشعيا المصدر الأساسي للتعرف على المفاهيم المسيانيّة عند جماعة قمران.

1)      تفسير حبقوق

يحتوي المخطوط نص حبقوق 1-2 وتفسيره، ولا يرد حبق 3، وهو النشيد أو المزمور. وهناك فراغ في نهاية العامود (حوالي ثلثا العامود الأخير وكل العامود التالي) ومع ذلك ينتهي التفسير بالفصل الثاني. ويعني هذا أن المفسر توقف عند نهاية الفصل الثاني متعمداً، وأن الفصل الثالث لم يكن يهمه. مارس حبقوق نشاطه النبوي ما بين 650 و 600 ق.م، وأعلن أن يهوه بصدد إثارة الكلدانيين (أي البابليين) لكي يعاقب مملكة يهوذا المتصلبة. وفي إطار وصفه لجبروت الغازين، يعرض حبقوق شكواه من بطشهم فيرد عليه يهوه بأنه سيعاقب الكلدانيين بدورهم. يحدد المفسر الكلدانيين بالكيتيم، ويبدو أنه يقصد بهذا الاسم الرومان. تلقى النبي أمراً بكتابة الرؤيا التي شاهدها: "فإنها أيضاً رؤيا للميقات تصبو إلى أجلها ولا تكذب. إن أبطأت فانتظرها فإنها تأتي إتياناً ولا تتأخر" (حبق 3:2). وبكلمات أخرى كشف الله نفسه لحبقوق أن الرؤيا تخص الأيام الأخيرة، والمفسر يعرف أن الحياة لم تنته أيام حبقوق، ومن هنا يستنتج الزمن الذي يتكلم عنه النبي. كما يزود حبقوق القارئ بمفتاح قراءة آخر: الصراع بين الصدِّيق والشرِّير (حبق13:1؛ 4:2).

وإليكم بعض نماذج تفسير هذا النص. يتناول حبق5:1 دهشة الأمم تجاه ما يحل بيهوذا: "فإن عاملاً يعمل في أيامكم لا تصدقون إذا جاءكم الخير" يرى المفسر في هذه العبارة نبوءة عما يتحقق الآن في تاريخ جماعته: "يعود تفسير النص على الخائنين، (السائرين) مع رجل الكذب، لأنهم لم يؤمنوا بكلام الله عن فم معلم العدل، وعلى الذين خانوا العهد الجديد لأنهم لم يؤمنوا بعهد الله وأهانوا اسمه القدوس. ويعود أيضاً تفسير النص على الذين سيخونون في الأيام الأخيرة، هؤلاء هم الطغاة الذين يفصمون العهد والذين لن يؤمنون بما يسمعون من فم الكاهن والمعلم بالأشياء التي ستتم في الأيام الأخيرة. لقد وضع الله في قلب الكاهن المعلم الفهم لتفسير كلام عبيده الأنبياء الذين أعلن الله بواسطتهم الأشياء التي ستحل بشعبه وبالعالم" (تفسير حبق 17:1-10:2). ويبدو أن رجل الكذب هو أحد أعضاء الجماعة الذي رفض معلم العدل. وترد نفس الفكرة في تفسير حبق 13:1ب: "فلِمَ تنظر إلى الغادرين ولِمَ تصمت عندما يبتلع الشرير مَن هو أبرّ منه؟" ويرجع التفسير إلى بيت أبشالوم وأعضاء مجلس شورته الذين صمتوا أثناء محاكمة معلم العدل ولم يساعدوه في نضاله ضد رجل الكذب الذي رفض الشريعة في وسط مجلس الجماعة (راجع تفسير حبق 8:5-12). وهناك آخرون أيضاً لم يقبلوا تعليم معلم العدل الذي اعتبرته الجماعة العهد الجديد، وكما يرفض آخرون التعليم في الأيام الأخيرة. والنقطة المركزية هنا تتعلق بسلطة معلم العدل وتعاليمه. وتنبأت الكتب المقدسة نفسها أن بعضهم سيرفض تعاليم معلم العدل. والنظرة إلى النبوات هنا لا ترتكز على بحث إطارها التاريخي بل تتجه إلى الحاضر.

وإليكم مثالاً آخر يبين كيف اعتبر المفسر أن النص يتكلم عن أيام (المفسر) وبالتالي يعطينا بعض المعلومات التاريخية: اعتبر المفسر أن الكلدانيين الذين يتكلم عنهم نص حبقوق هم الكيتيم، وهو تعبير يشير إلى شعب يأتي إلى فلسطين من البحر (راجع تك 4:10) ويستخلص المفسر بعض التفاصيل الدقيقة من نص حبقوق.

"حينئذ يمرّ كالريح ويعبر أثيم يجعل من قوته الهه… (حبق 11:1) التفسير يتعلق بقادة كيتيم، الذين، حسب مشورة بيتهم الآثمة، يعبرون الواحد تلو الآخر ويأتي قادتهم هذا بعد ذاك لإفناء الأرض" (تفسير حبق 9:6-13).

الكيتيم هم الرومان وقادتهم هم القناصلة الذين كانوا يتغيَّرون كل سنة وكانوا خاضعين لرقابة مجلس الشيوخ (البيت الأثيم). ويوالي النبي كلامه في (حبق16:1) قائلاً: "لذلك يذبح لشبكته ويحرمه البخور لشركه.." "أما بخصوص قوله يقدم ذبائح لشبكته ويحرق البخور لشركه.. فإنه يقصد بذلك أنهم يقدمون ذبائحهم لرياتهم وآلاتهم الحربية هي محل إكرامهم" (تفسير حبق 2:6-5). إن عبادة الرايات هي إشارة واضحة إلى ممارسات الرومان. وإليكم مقطعاً آخر، هو الأكثر انتشاراً بين نصوص قمران:

"ويل لمن يسقي قريبه مازحاً مسكراً حتى يسكره لينظر إلى عورته" (15:2) يعود التفسير على الكاهن الشرير الذي اضطهد معلم العدل وابتلعه في ثورة غضبه في بيت منفاه يوم عيد الراحة يوم التكفير، ظهر لهم لكي يبتلعهم ويقضي عليهم في يوم الصوم، في سبت راحتهم" (تفسير حبق 2:11-8). من المرجح أن يقصد المفسر هنا بالكاهن الشرير رئيس الكهنة.

عن مجلة صديق الكاهن