الأمثال (22)

عمّال وأجرتهم (مت19: 30-16:20)

»كثير من الأولين يصيرون آخرين والآخرين أولين«

إن مثل عمال الكرمة الذين كلّفهم السيد بالعمل فيها في ساعات مختلفة ثم ساواهم جميعاً في الأجر يثير الكثير من الصعوبات. هل يُعقل أن يمثّل الله بهذا السيد الذي يتصرّف بطريقة عفوية عشوائية مساوياً مَن عمل ساعة واحدة بمن عمل اليوم كله؟ من الواضح أن المثل لا يهدف التوقّف على علاقات العمل وعلى أسس العدل ومبادئه التي تحكم العمل. يدور المثل في إطار العلاقات الدينية والاجتماعية. إنه يتكلّم عن عدل الله لا عدل البشر. بالرغم من وضوح هذا الآخر إلا أن المشكلة تظل قائمة. هل يتصرّف الله حتى في العلاقات الدينية، مثل ذلك السيد؟

نعود إلى المثل. يكتري صاحب كرم عمالاً بالأجر اليومي. اكترى عمالاً في الساعة الأولى واتفق معهم على أجر يومي قدره دينار: إنه أجر عادل. وحتى هنا تسير الأمور سيراً عادياً بلا مشاكل إنه مشهد يتكرر يومياً، في المواسم، في قرى فلسطين وقرانا في مصر.

ويكتري السيد عمالاً آخرين في ساعات مختلفة، وبعضهم قبل غروب الشمس بساعة. وهنا العجب، لأنه أمر غير مألوف. يبدأ القارئ والمستمع في التساؤل. لا يبرم السيد مع العمال الجدد أي اتفاق على الأجر بل يكتفي بالقول: »سأعطيكم ما كان عدلاً« (مت4:20). ولا يقول حتى هذا لعمال الساعة الأخيرة! يتساءل المستمع / القارئ بفضول: كيف يعامل السيد هؤلاء العمال؟ وأي أجر سوف يعطيهم؟

وعندما يبدأ السيد بمحاسبة الأخيرين معطياً لهم قدر ما اتفق عليه مع الأولين، يزداد فضول المستمع/ القارئ وينقلب السؤال رأساً على عقب: كيف يعامل السيد الأولين؟ أي أجر سوف يعطيهم؟ والرد على السؤال غير متوقع، غريب ومثير للدهشة: يعطي السيد الجميع أجراً مساوياً. ويحتج عمال الساعة الأولى ويعتبرون تصرّف السيد ظلماً صارخاً، ويشاركهم في هذا الرأي المستمع القارئ: لا تساوى ساعة عمل واحدة أجر يوم عمل كامل!

يقدّم المثل في هذه النقطة: ظلم السيد! يتضامن المستمع/ القارئ مع عمال الساعة الأولى في احتجاجهم ويتوحّد معهم وينتظر تفسيراً. بالفعل يتوسّع السيد في هذه النقطة مفيضاً في شرح تصرفّه وتبريره. إن طول الحوار وجديته يثبتان-إن الأمر مازال يحتاج إلى إثبات. إن هذه النقطة هي مركز المثل والتي يجب إيلاؤها كل الاهتمام.

لقد ابتعد تفسير المثل- بالأخص من منظور وعظي تعليمي عن المركز متجهاً إلى نقاط هامشية. وإليكم بعض الأمثلة. يرى بعض المفسرين القدماء أن مركز المثل هو الدعوة: الله يدعو في كل ساعة متى شاء وكيف شاء. قد تكون لحظة الدعوة مبكرة أو متأخرة وهذا لا يهم. المهم هو أن يكون المرء مستعداً ويتجاوب مع الدعوة متى وصلت ويتشبث بالفرصة عندما تُتاح له.

ويرى آخرون، استناداً على بعض مخطوطات إنجيل القديس متى التي تضيف في نهاية المثل عبارة: المدعوون كثيرون والمختارون قليلون، إن هدف المثل هو الدينونة ويستطيع الإنسان، بالرغم من دعوة الله له من الساعة الأولى، والذي عمل النهار كله في الكرم، أن يرفض. قد يفقد الإنسان ملكوت الله في اللحظة الأخيرة، بعد أن يكون قد عمل النهار كله، فقد يسمع الأمر: »خذ ما لك وانصرف« (مت14:20).

ويركّز آخرون، ومنهم إنجيل القديس متى ذاته، على ترتيب المحاسبة، حيث يبدأ بحساب الآخرين ثم الأولين. وأكّد الإنجيلي على ذلك بالعبارتين اللتين تسبقان المثل وتختمانه: »وكثير من الأولين يصيرون آخرين ومن الآخرين أولين« (مت30:19)، »فهكذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين« (مت16:20). يقلب الملكوت المناصب والمقاييس التي وضعها الإنسان ورسخها. فقياس الله يختلف عن قياس البشر: إنه يفضّل الفقراء على الأغنياء والخطأة التائبين على الأبرار والمتواضعين على الحكماء. وتؤكد نصوص عديدة في الإنجيل على هذا الأمر »الحق أقول لكم: إن العشارين والبغايا يتقدمونكم إلى ملكوت الله« (مت31:21).

ويركّز آخرون على الحوار الذي دار بين رب الكرم والعمال: »لماذا قمتم ههنا طوال النهار بطالين: قالوا له: لم يستأجرنا أحد« (مت6:20-7). هل هي حجة؟ هل يختلف تصرّف الله عن تصورنا لأنه يعرف ما في قلب الإنسان؟ إن الله يعاملهم معاملة عمال الساعة الأولى لأنه لا ذنب لهم أن يعملوا آخر ساعة. يستحق حوار السيد مع عمال الساعة الأخيرة اهتماماً خاصاً والله يعرف فعلاً ما في قلب الإنسان. لكن يجب أن نلاحظ أن السيد عندما يبرر تصرفه في نهاية المثل لا يذكر هذا الأمر إطلاقاً. كما أن تفسير المثل بهذه الطريقة يفقده قوته: إن عدل الله يصبح مثل عدل البشر. صحيح أنه أقوى وأعمق وأكثر عدلاً ولكنه ليس جديداً! يهدف المثل إلى إعلان أن عدل الله وعلمه أكثر عمقاً ولكن الأكثر من ذلك أنهما أكثر جدّة.

إن طرق التفسير التي أوردناها بالرغم من تنوعها واختلافها، تشترك في محاولة التغلّب على الدهشة والحيرة اللتين يثيرهما المثل. عندما أعدنا رواية المثل بيّنا أن مركزه بعيد عن تبرير هذه الحيرة. هناك شيء صحيح في كل تفسير من التفسيرات السابقة ولكنه جانبي وهامشي. لا يركّز المثل لا على الدعوة في كل ساعات النهار ولا على الدينونة والرفض الذي قد يقع حتى على عمال الساعة الأولى ولا على أن الأولين يصيرون آخرين والآخرين أولين ولا على الحقيقة الواقعة أن الله يعرف ما في قلب الإنسان معرفة عميقة وجيدة. إن المثل يركّز على أن الآخرين حصلوا على نفس الأجر الذي حصل عليه الأولون. إن من يريد أن يفهم المثل عليه أن يواجه هذه المفارقة.  

أم عينك حسود

هل يريد يسوع أن يعلمنا من خلال حصول الآخرين على نفس أجر الأولين أن ما يبدو لنا ظلماً هو عدل في عيني الله، لأنه يسمو على المقاييس البشرية ولأنه حر في تصرفاته لدرجة أنه يقلب مقاييسنا البشرية؟ يختلف عدل الله، بكل تأكيد، عن عدلنا نحن ولكن ليس هذا ما يريد أن يركّز المثل عليه. إن عدل الله هو نابع من طبيعة الله وله مقاييسه الخاصة. لا نستطيع أن نضيف شيئاً آخر.

صحيح أن الله حرّ ولكن حريته ليست حرية عشوائية. لقد واجه اعتراض العمال بقوله: »ألا يجوز لي أن أتصرّف بما لي كما أشاء؟« (مت 15:20). ورد الله هذا يختلف تماماً عمّا نعنيه نحن بقولنا: »أفعل ما بدا وما حلا لي« يؤكد هذا أن السيد لم يرفض بتسلّط احتجاج عمال الساعات الأولى، بل حاورهم وشرح لهم وحاول أن يفهمهم أن احتجاجهم لا أساس له ولا مبرر. إن تصرّف السيد بهذه الطريقة لا يعني أنه يتجاهل تعب من عمل أكثر من غيره أو أنّه لا تعنيه كثرة عمل البعض، إنما يعني أنه يحب أيضاً الأخيرين وليس فقط الأولين. إنه يريد أن يكون الجميع أولين: »ساويتهم بنا« (مت12:20).

»إن الله لا يخرق العدل بل يتخطى النسب«. الله متسامٍ لا لأنه ضد العدل بل لأن جودته وحبه وتسامحه تفوق العدل. إن مجال عمل الله هو اتساع جودته، لا ضيق الحق والفروق. يريد الله أن يقابل الإنسان، أي إنسان وكل إنسان: باراً كان أم خاطئاً. إن مجانية الله لا تناقض الحق بل توسعه. وعندما يدخل الإنسان هذا المجال فإنه عندئذ فقط يستطيع أن يقول إنه يعرف، بطريقة ما، الله.

يوجّه الله للعامل المتذمّر سؤالاً عميقاً يصل إلى أساس المشكلة: »أم عينك حسود لأني كريم؟« (مت15:20). إنه سؤال عادل. لا يتذمّر عمّال الساعة الأولى لأن السيد اقتطع جزءً من أجرهم، بل لأنه أعطى الآخرين أجراً مساوياً لهم! لا يعبّر احتجاجهم عن الغيرة على العدالة بل عن غيرة وحسد. إن حريّة تصرّف السيد وجدّته ومفارقته لا تنبع من عشوائية وتخبّط؛ بل تتحرّك في اتجاه منطقي متسق وثابت: مجال المجانية اللامتناهية. إن إله يسوع المسيح ليس إلهاً ظالماً إنما هو إله لا يدع شيئاً من النسبية …… وتبدو النسب للإنسان قانوناً مقدساً لا يمسّ كان هذا رأي مستمعي يسوع وهو أيضا رأينا نحن اليوم. من المؤكد أن »للنسب« حقيقتها ولكنها ليست تلك الحقيقة القادرة على أن تساعدنا على الانفتاح على سرّ يسوع المسيح.

اتضح الآن مركز المثل: إن ما يكشف سرّ الله ويعلنه ليس هو العمل/ الجزاء بل هو المجانية. إن المثل يكشف لنا عن الله ولكنه في نفس الوقت تنبيه قوي لكل إنسان: إن أردت أن تكتشف سرّ الله فتخلّص من معايير النسب الجامدة.

يصير الآخِرون أولين والأولون آخِرين

لاحظنا أن إنجيل القديس متى يجمع بين المثل والقول الحكمي »كثير من الأولين يصيرون آخرين ومن الآخرين أولين« (مت30:19). إنه يكرّر هذا في بداية المثل وفي خاتمته، مع تغيير طفيف. ويعبّر هذا القول الحكمي، بما فيه من تناقض صارخ عن اختلاف تصرّف الله عن تصرّف البشر. ساهم التناقض الحاد في القول الحكمي في إبعاد القرار عن معنى المثل العميق. إن السيد، في المثل، باستثناء أنه بدأ بمحاسبة الآخرين قبل الأولين لا يحدث أي انقلاب: إنه يرفع الآخرين ولكنه لا يحط الأولين. إن سياق هذا القول الحكمي، كما يتضح هذا أيضاً في نشيد مريم العذراء: »حط الأقوياء عن العروش ورفع الوضعاء، أشبع الجياع من الخيرات والأغنياء صرفهم فارغين« (لو 52:1-53)، هو سياق مختلف تماماً. إنه ليس رصداً للواقع بقدر ما هو أمنية ورغبة وصلاة وحلم الفقراء والمضطهدين والمتألمين والمهمشين.

أراد إنجيل القديس متى بهذه القراءة أن يقي القرّاء من مغبة سوء الفهم لا يهم الله أن يعمل الإنسان قليلاً أو كثيراً، أن يكون خاطئاً أو باراً. إن تخطّى حدود النسب، كما فعل المثل، له أخطاره الكثيرة. يحتفظ تفسير إنجيل القديس متى لهذا المثل بدور النسب وهذا صحيح إلا أنه يحمل بالتأكيد بعض المخاطر. يعتقد الإنسان أن النسب قانوناً لا يُمَس. إن للنسب، بالتأكيد، جانب صحيح ولكنها لا تفتح الطريق على سرّ الله. إنها حقيقة ولكنها ليست جِدّة. لا يجب أن ننسى هذا. إذا نسبنا هذا لتشوهت صورة وأصالة الإله الذي بشّر به يسوع المسيح، هذا الإله الذي لم نصنعه نحن والذي يأتي تجاهنا ويقابلنا. إن النسب هي مثل حجر من أحجار البناء ولكنها ليست حجر الزاوية. هناك خطر أن تأخذ هذه النسب مكانة هامة، تقودنا إلى خلق إله على صورتنا!

مثل للخطأة أم للأبرار؟

يمكن تطبيق هذا المثل سواء على الخطأة أو على الأبرار ولكن من زاويتين مختلفتين: الزاوية الأولى: يعلن للخطأة بشرى أنهم ليسوا آخِرين، والزاوية الثانية يحذّر الأبرار من الانغلاق في حدود عدالتهم الضيقة. يحذّر هذا المثل الأقوياء من بطش قوتهم والضعفاء من وهن ضعفهم. يدعو المثل الجميع، أبراراً وخطأة، إلى التوبة. تنبع التوبة والرجوع عن الخطيئة من الاكتشاف المذهل لوجود عفو مجاني وصفح لا يخضع لمنطق بشري. تنبع توبة البار من لقاء غير متوقع مع الله يجعله يتجاوز ضيق أفق »العدل« ليدخل في أفق المجانية المتسع واللامحدود. إن التوبة في الحالتين كلتيهما: الأبرار والخطأة، هي انفتاح على المجانية. ولكن، إحقاقاً للحق، تكون أحياناً توبة البار أصعب بكثير من توبة الخاطئ.

يبدو أن المثل موجّه أساساً إلى الأبرار. غالباً وهم الذين يحتجون ويطالبون بالفرق: »هؤلاء الذين أتوا آخراً لم يعملوا غير ساعة واحدة، فساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار وحرّه الشديد« (مت12:20). إن العالم مليء بالأشخاص، أقصد المؤمنين، الذين يصرخون مطالبين بالعدالة لا لأنهم مظلومون، بل لأنهم يرون تزايد ضيق الفرق بينهم وبين الآخرين. لا يعرف هؤلاء المؤمنون شيئاً عن الإله الحقيقي. كما أن تبرير السيد المسهب والمطوّل موجّه إلى الأبرار لكي يدفعهم للتفكير ويقنعهم أن رغبتهم في العدل خارجها مطالبة بالعدل وباطنها حسد. إن الحسد هو إحساس يظل متربصاً إذا ظلّ البار مقتنعاً في داخله أنه يتمّ الحصول والوصول إلى الإنجيل بمجهوده الفردي وليس كهبة من الله.

عن مجلة صديق الكاهن