الأمثال (24)

مثلا: وليمة الملك (مت22: 1-14)

والوكيل الأمين (مت 45:24-51)

مثل: وليمة الملك (مت 1:22-14)

من المفيد أن نعيد قراءة المثل مراراً، مسترشدين بالحركة الداخلية التي تقوده، وواعين بالتساؤلات التي أثارها المثل في سامعيه آنذاك. إن مثل الوليمة مليء بالمفاجآت والتقلبات.

الرواية

دعا أحد الملوك رعاياه لحضور وليمة أقامها بمناسبة عُرس ابنه. إنها صور كتابية معروفة: ينتمي العُرس والوليمة إلى رموز ملكوت الله، ذاك الملكوت الذي بشّر به الأنبياء والذي ينتظره كل يهودي تقي بفارغ الصبر.

تتم الدعوة على مرحلتين وبالتالي هناك إصرار عليها. ويتوقع القارئ أن يهرول المدعوون لتلبية الدعوة. ولكن المدعوين يرفضون الدعوة في كلتا الحالتين: إنها المفاجأة الأولى. إن رفضهم لا مبرر له، إذ أن دعوة الملك هي أمنية غالية، وهي حلم كل يهودي، هي شيء هام جداً. لا يبالي المدعوون بدعوة الملك ويفضّلون عليها أشياء أخرى. لا بل يرى البعض في هذه الدعوة ما يثيرهم ضدها: فيضربون عبيد الملك ويقتلونهم . مَن هم هؤلاء المواطنون؟

أثار رفض المدعوين لتلبية الدعوة غضب الملك وتصرّف بصرامة لا يلومه عليها أحد. ولكن الملك، بعد أن انتقم من الرافضين، لا يستسلم: إنها مسألة أخرى غير متوقعة. إنه يرسل عبيده مرة أخرى ليدخلوا كل من يجدونه أشراراً وصالحين. إنه لم يطبق على المدعوين الجدد أي مقياس أو شرط. إن ما يهم هو أن تمتلئ ردهة العُرس. وهكذا حقق الملك هدفه. كان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد. ولكنها تستمر، مقدمة مفاجئة أخرى: دخل الملك إلى الردهة فوجد أن أحد المدعوين لا يلبس ثياباً تليق بعُرس ابن الملك، فيعنّفه ويعاقبه. إنها نهاية غير متوقعة ونهاية سيئة لقصة فاشلة! لا يقع الرفض من المدعوين الأولين فقط فينالون عقابهم، بل يقع أيضاً على بعض المدعوين في الدفعة الثانية: قد يثير هؤلاء أيضاً غضب الملك وقد يقع عليهم عقابه.

شخصيات المثل

ويمكن استعراض المثل بطريقة أخرى: عن طريق شخصياته وأعمالهم. يدور المثل كله حول بعض الصور المركزية: الملك، الوليمة، العُرس والدعوة. ولكن الصورة المسيطرة هي صورة الملك. كما تُنسب إليه أهم الأعمال والمواقف، دور الآخرين هو تنفيذ أوامره ومبادراته بكل عناية. ولا ترد في المثل كلمات مباشرة إلا كلمات الملك، بينما يتحرك الآخرون بصمت: الابن، العبيد، المدعوون في الدفعة الأولى، والمدعوون في الدفعة الثانية، والرجل الذي ليس عليه ثياب العُرس.

وتقود دراسة الأفعال إلى نفس النتيجة. تعبّر أفعال الملك عن مبادرة تجاه العبيد (يقول ويرسل) والمدعوين (يأتي ويدعو). أمّا أفعال العبيد فتعبر كلها عن تنفيذ (ذهبوا، خرجوا، جمعوا) وبالتالي نقول إن بطل القصة هو الملك، ويتم التركيز كله عليه وعلى أعماله. ويمكن أن نلاحظ أن "شخصية هامة تقوم بعمل يبدو أولياً أصلياً في مرحلة حاسمة قياساً بكل الأعمال التي نقابلها في التاريخ وتنتظر مبادرته، على تنوعها، وتخضع كل الردود للفحص". يتم عمل الملك على ثلاثة مراحل: يبادر الملك وتفشل المبادرة، ثم يتغلّب الملك على الفشل. ويتم التغلّب على الفشل باستبدال (يدخل آخرون بدلاً من المدعوين الأولين) يصاحبه فرز وانتقاء (حتى الذين قبلوا، في مرحلة لاحقة الدعوة، يخضعون للفحص).

الظروف التاريخية

هنا يبدو أنه قد تم توضيح هدف المثل الرئيسي، ولكن ظاهرياً فقط! يرتكز المثل كله على نقطة تضاد: مدعوون يرفضون الدعوة، مدعوون يلبون الدعوة. مَن هم المدعوون في الحالتين؟ ما هي الخلفية التاريخية وراء صور وأبطال المثل؟ لدينا اقتراحان:

الاقتراح الأول: يروي يسوع هذا المثل رداً على الشكوك التي أثارتها مخالطته للخطأة والعشارين لدى الفريسيين والمكتفين بذواتهم. لا يعي الفريسيون أهمية دعوة الله، التي وجهها إليهم يسوع، ولذلك لم يلبوا الدعوة. عندئذ يقبل الله، بدلاً منهم، العشارين والخطأة والزناة والوثنيين. إن التضاد بين مدعوين يرفضون تلبية الدعوة ومدعوين يلبونها ينطبق على كل تاريخ بني إسرائيل: من ناحية هناك الشعب، الناس البسطاء والخطأة الذين يستقبلون ويقبلون يسوع؛ ومن ناحية أخرى هناك السلطات والمعلمون الذين يرفضونه. يتفق هذا الاقتراح مع ظروف حياة يسوع، لأنه كان يتعامل مع الخطأة والعشارين. إن هذا الاعتراض ليس قوياً، كما يبدو لأنه ليس من الضروري أن يتناول المثل حقيقة ما بكل تفاصيلها، فمعارضو يسوع يرفضونه ليس بسبب صداقته مع الخطأة فقط بل أيضاً لأن طريقة إعلانه الخبر السار لا تتفق مع توقعاتهم.

الاقتراح الثاني: يتناول المثل واقعاً تاريخياً لاحقاً أي بعد القيامة. يشرح المثل واقعاً تاريخياً غير متوقع، أثار، بالتأكيد، دهشة المسيحيين الأوائل: يرفض بنو إسرائيل الخبر السار بينما يستقبله الوثنيون. إن التضاد لا يقوم في داخل فئات شعب بني إسرائيل بل بين بني إسرائيل والشعوب الأخرى.

يميل بعض المفسرين إلى الاقتراح الأول بينما يحبّذ آخرون الاقتراح الثاني. ونتساءل لماذا لا نحتفظ بالاقتراحين معاً؟ وليس من الضرورة أن نختار اقتراحاً ونرفض الآخر إذ يمكن الجمع بينهما. ففي الاقتراحين يوجه الله نفس الدعوة والتي يرفضها البعض وبوعي. إذا صادق يسوع الخطأة والعشارين، إلا أنه لا يهمل توجيه الدعوة للصديقين، ولكن رفض هؤلاء تلبية هذه الدعوة. وإذا كان الملكوت قد نقل من بني إسرائيل إلى الأمم، فذلك لم يتم لأن الله أهمل شعبه، بل لأن الشعب هو الذي رفض إلهه. إن الله لم يتصرف بعشوائية بل بحكمة: هذا هو جوهر الرسالة التي نقلها المثل ونقلتها الجماعة الكنسية. لم تتغير الرسالة بل الشعب. إن الرفض الثاني هو توسّع في الرفض الأول.

إن نقل المثل وتطبيقه على مرحلة تاريخية لاحقة استوجب بعض التغييرات وكلها طفيفة. فمثلاً عبارة "أهلك هؤلاء القتلة وحرق مدينتهم" (7:22) أضيفت على الأرجح على ضوء حصار الرومانيين لأورشليم وهدمهم وحرقهم إياها. لكن لا هذا التعديل ولا التعديلات الأخرى غيّرت مضمون المثل وهدفه الأساسي.

التفسير: الدعوة والدينونة

الخلاصة هي أن المثل يقوم بشرح حدثين تاريخيين شرحاً لاهوتياً: الحدثان هما رفضُ السلطات اليهودية ليسوع، ورفضُ الشعب اليهودي لرسالة المسيحية. ولكن المثل لا يقف عند هذين الحدثين. إنه تنبيه أن الساعة قد أتت وكل شيء مُعدّ. تجتاح المثل نبرة استعجال: لا مجال للتشتت والتردد تجاه دعوة الإنجيل ولا يوجد ما هو أهم من تلبيتها.

تفسير حدث ودعوة لأخذ قرار: المثل هو أيضاً إعلان دينونة الله. إنها دينونة قاسية لا يفلت منها أحد: لا تخص الدينونة فقط مدعوي الدفعة الأولى، بل تمتد إلى مدعوي الدفعة الثانية أيضاً، الذين قد يعتقدون أنهم بتلبيتهم للدعوة أصبحوا في مأمن من الدينونة. تطال دينونة الله كل إنسان ودائماً لا مجال للأوهام. الجميع مدعوون ولكن ليس الجميع مختارين. إن دخول الردهة ليس ضماناً: يجب أن يظل المرء ساهراً وفي موقف طاعة دائمة. لقد طالت الدينونة على بني إسرائيل وتطال أيضاً المسيحيين. هذا ما تعنيه ثياب العُرس.

مثل الوكيل الأمين (مت 45:24-51)

ينقسم خطاب إنجيل القديس متى الإسكاتولوجي (مت 24-25) إلى جزئين: الأول (4:24-35) يتناول التعاليم الإسكاتولوجية بحصر المعنى والتي استقاها الإنجيلي من التقليد المرقسي، والثاني (36:24-46:25) يتناول النتائج المترتبة على ذلك، عن طريق تطوير مضمون إنجيل القديس مرقس، بهذا الصدد. يبدو اهتمام إنجيل متى الكبير بتحديد معنى السهر وطريقته، ويلجأ لكي يحقق هذا الهدف، إلى ثلاثة أمثال: الوكيل الأمين (مت 45:24-51)، مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات (مت 1:25-13) ثم مثل الوزنات (مت14:25-30).

يبدأ مثلُ الوكيل بحرف " مما يجبرنا على ربط المثل بما يسبقه مباشرة أي تشبيه رب البيت واللص (مت 42:24-44). كما أن تأكيد الرب بأن السيد "يأتي في يوم لا يتوقعه وساعة لا يعلمها" (مت 50:24)، يشير إلى أن المثل مرتبط بالتأمل الممتد من (مت 26:24 حتى 13:25). وموضوع هذا التأمل هو أن الرب يأتي فجأة بلا إعلان مسبق في ساعة لا يعلمها أحد (26:24و 42و 44و 50؛ 13:25). يؤكد مثل الوكيل الأمين هذه الحقيقة الهامة.

تتعرّض قصة الوكيل وسيده لمشهدين متناقضين، كما هو الحال في أمثال عديدة. يوحي إسهاب الرواية في المشهد الثاني بالبحث عن معنى المثل فيه، وليس في المشهد الأول. يهدف المشهد الأول إلى إبراز الثاني، الذي ينعكس فيه الموقف الذي يهم المعلم. بدأ التراخي يضرب بجذوره في الجماعة. لقد أدى تأخّر مجيء الرب الثاني إلى تكاسل العديدين: "إن سيدي يبطئ" (48:24)، قال العبد في قلبه واستغل هذا أسوأ استغلال. إن مرور الزمن وتأخّر السيد هما حقيقة واقعية وأمر لا يُنكر. ولم يخطئ العبد في هذا، إنما أخطأ في النتيجة التي وصل إليها. هنا يقوم هدف المثل: النتيجة التي يجب استخلاصها من تأخر السيد هي عكس النتيجة التي توصل إليها العبد تماماً.

إن المثل لم يلجأ لعبدين ليكوّن منهما مشهدين متناقضين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، وهو في الواقع أسهل. إنه لجأ إلى شخص واحد أمامه اختياران متناقضان. وهذا اختيار ذكي للغاية: لا ينتمي بالضرورة الخير والشر، الحكمة والحماقة، الصراحة والرياء إلى أشخاص مختلفة متعددة ولكنها تمثّل خيارات أمام نفس الشخص في مواقف عديدة.

قد تقود ملاحظة تأخّر عودة السيد إلى استنتاج خاطئ تماماً، إذا أغفلنا أن عودته، في كل الأحوال، تكون في وقت غير متوقع، وبلا إنذار سابق كما يكون مجيء اللص ليلاً (را 43:24). يبدو أن السيد يتأخر، ولكنه قد يعود في أية لحظة. سواء كان هناك تأخير أم لا، يظل الموقف المسئول هو السهر الدائم. إن تأخّر عودة السيد لا تقلل من ضرورة السهر، إنها تجعله يطول. وإذا استغنينا عن الحديث الرمزي نقول إن الوقت يضيق بالنسبة للمسيحي، لا لكونه قصيراً بل لأنه طال أم قصُر، هو وقت تتم فيه اختيارات حاسمة.

يدين المثل الاسترخاء وينبّه على أهمية السهر ويشير إلى نتيجتين خطيرتين: إساءة معاملة الأصحاب وحياة الترف والخلاعة. وكان الإنجيلي قد أعطى مثلاً عن أحد أشكال التراخي الأكثر انتشاراً مثل نوح وأبناء جيله (مت 24: 37-39). إن عكس السهر لا يقوم فقط في التسلّط على الآخرين واستغلالهم وفي حياة اللذة، إنما يقوم أيضاً في الغفلة والحياة بلا اهتمام ولا تفكير في أي أمر غيرها. كان الناس أيام نوح يحيون ويتزوجون ويأكلون ويشربون دون أن يدروا أن الطوفان قريب: الانشغال بأشياء عديدة، حتى وإن كانت الأشياء مجردة أو مشروعة، يؤدي إلى الغفلة والسهو وعدم السهر، مما يشغل عن مجيء الرب وعن الدينونة التي تتم في التاريخ والحياة.

سبق وقلنا إن المشهد الأول هو إبراز المشهد الثاني والإعداد له. ونضيف الآن للمشهد الأول دوراً إيجابياً آخر إذ يظهر معنى السهر. إن السهر الحقيقي هو عدم التسلّط والعدل وتدبير شئون المنزل بحكمة: "لتعطيهم طعامهم في أوانه" (مز104 [103]:27). إن التذكّر بما يقوم به الله من توزيع الخيرات لهو أمر هام جداً. يريد السيد في مثل البواب الساهر (مر 33:13-36) أن يجده ساهراً مستيقظاً. أما هنا فيريد السيد أن يجد الوكيل عاملاً مشغولاً.

يوجّه مثل الوكيل، مثل باقي الأمثال، إلى الجميع. تخص الجوانبُ السلبية والجوانب الإيجابية، التي يتناولها، كل إنسان. ولكن لا ننسَ أنه يتكلم عن "وكيل"، وبالتالي نقول إن المثل موجّه بنوع خاص إلى المسئولين والخدام.

عن مجلة صديق الكاهن