الأمثال (26)

الأمثال في إنجيل القدّيس لوقا

مثل "البيتين" (لو 46:6-49)

يرد أكبر عدد من الأمثال في إنجيل القدّيس لوقا. استقى الإنجيليّ أمثاله من إنجيل القدّيس مرقص ومن مصدر مشترك بينهما ثم أخيراً من مصدر خاص به.

يلاحظ القارئ من أول وهلة أن أمثال إنجيل القديس لوقا تمتاز بطابع حكمي أكثر منه لاهوتيّ. إنه انطباع غير دقيق، تؤدي دراسة متأنيّة إلى تصحيحه. لا يستطيع أحد أن ينكر بعض الملامح الحكميّة في الأمثال في إنجيل القدّيس لوقا، ولكن هذه الملامح لا تكوّن خاصيتها الأساسيّة: "إن هدف المثل ليس هو توضيح حقيقة عامة أو مجرد وصف طريق وجود وحياة المسيحي. إن حياة المسيح، كما يفهمها إنجيل القدّيس لوقا، ليست نتيجة بل كشف عن جدّة يسوع. هذا هو الطابع المميّز لعدد كبير من الأمثال في إنجيل القدّيس لوقا.

يعرف القديس لوقا جيداً أن الموضع الذي يتجلّى فيه حب الله في أوضح معانيه وبهائه هو الصليب. ومع ذلك لا تتعلّق الأمثال التي تبرز حب الله، بالصليب بطريقة مباشرة ولكنها تُظهره في تصرفات يسوع وتدخلاته الرحيمة وقبوله للخطأة. إنها طريقة رائعة لتناول موضوع الخلاص. وهناك مظهر آخر يتعلّق بالتلميذ عن قرب: الصلاة. يتناول إنجيل القدّيس لوقا الصلاة أكثر من باقي الأناجيل، كما يخصّص لها عدداً أكبر من الأمثال. إن هذا لا يرجع فقط لكونه يعتبرها أمراً هاماً للغاية، بل لأنه يرى فيها الموضع الذي تظهر فيه بنوع خاص جدّة الحياة المسيحية. إن أمثال إنجيل لوقا عن الصلاة هي في الواقع أمثال عن الله.

كما يمكن قول نفس الشيء عن الأمثال التي تتناول استعمال الخيرات، وهي مسألة يوليها إنجيل القديس لوقا عناية خاصة. إن متطلبات الإنجيل وشروطه لهي جذرية ويجب على المؤمن أن يعيش بموجبها كل يوم. ليس هناك تعارض بين "اليومي" و "الجذري" في مفهوم إنجيل القدّيس لوقا. هناك علاقة وثيقة وتناسق رائع بينهما. يمثّل هذا التناسق إحدى نقاط رسالة يسوع المميّزة والمقلقة في آن واحد. لا يعني تجسيد الإنجيل في الواقع اليومي التنازل عن بعض القيّم والشروط، بل يعني أن يعيش المؤمن، أو أقله أن يحاول أن يعيش، جذرية المسيحية كل يوم، لا بل كل لحظة.  

مثل: البيتين (لو 46:6-49)

يختم إنجيل القدّيس لوقا عظة يسوع في الوادي أو المكان المنبسط (را لو17:6) بمثل البيتين، وهو نفس المثل الذي يختم به إنجيل القدّيس متى عظة الجبل (مت24:17-27). هناك تشابه شديد بين المثل في الإنجيلين، وإن كان هناك اختلاف طفيف في المضمون وفي الإطار والسياق. يركّز إنجيل القدّيس لوقا أكثر من إنجيل القدّيس متى على تفاصيل بناء البيت: حَفَرَ، عَمّقَ، وضع الأساس على الصخر، بينما يكتفي إنجيل القدّيس متى بالكلام عن الرمل والصخرة. ربما يكون إنجيل القدّيس لوقا قد طوّع الصورة على أساليب بناء بيوت اليونانيين! كذلك يختلف وصف العاصفة في الإنجيلين: يقول إنجيل القدّيس متى: "نزل المطر وسالت الأودية وعصفت الرياح" (مت 25:7) بينما يتكلّم إنجيل القدّيس لوقا عن فيضان النهر من مجراه ( لو 48:6).

ويتفق المثل في الإنجيلين في النقطة الأساسية، وهي ثبات الصخرة. ترد هذه الصورة مراراً عديدة في الكتاب المقدّس للإشارة إلى كلمة الله. ولكن الصخرة، في هذا المثل، تشير إلى كلمة يسوع وبالتحديد إلى العمل بكلمة يسوع. إن مجرد سماع الكلمة غير كافٍ لمواجهة الصعوبات والتبرير أمام الحكم الإلهي.

يحدّد إنجيل القدّيس لوقا ملامح المسيحيّ الحقيقيّ بثلاثة أفعال: "يأتي.. يسمع.. يعمل" (لو 47:6). يعبّر الفعل الأوّل عن العزم والتصميم على اتباع يسوع. ويشير الفعل الثاني إلى قبول الكلمة عند سماعها. ولكن اللحظة الحاسمة هي الفعل الثالث: ترجمة الكلمة المسموعة إلى أعمال ملموسة. إذا غاب الفعل الثالث أصبح الفعلان الأوّلان بلا معنى. يقوم الفارق بين المسيحي الحقيقي والمسيحي اسماً في العمل. إن الأمر لا يتعلّق بالإيمان أو عدمه. فالمسيحي بالاسم يظل دوماً مؤمناً يدعو الرب ويتكلم عنه ويسمع كلمته ويصدّقها. ولكنه مسيحي غير حقيقي. إن الاستماع للكلمة وقبولها أمران هامان وحيويان، ولكنهما مثل مجرد مشروع على الورق. يتحقق المشروع فقط عندما يرى النور بالعمل.

ما يجب عمله، بالتحديد، إن كان الاستماع لا يكفي؟ ماذا يعني عمل؟ يظل المثل، بدون الإجابة على هذا السؤال، مثلاً نظرياً عامّاً. إن المثل، وحده، لا يعطي إجابات محددة على هذه التساؤلات. بالتالي يجب دراسة السياق الذي يرد فيه المثل. إنه أمر لا غنى عنه: يضع الإنجيلي المثل كخاتمة لعظة يسوع.

على المؤمن أن يترجم عمليّاً ما يقوله يسوع (46:6)، وكلماته (47:6) والتي يرد مضمونها الأساسيّ في (لو 26:6-38)، أي العلاقة مع الآخرين: حب الأعداء وعدم مقابلة الشر بالشر وعدم قصر الخير على الأصدقاء والأقارب.. بعبارة واحدة ترتكز وتركّز كلمات يسوع على وصية الحب، التي يتوسّع إنجيل القدّيس لوقا في شرحها. يقابل إنجيل القدّيس متى، في عظة الجبل، بين برّ الفريسيين والكهنة وبين المحبة. يكتفي القدّيس لوقا بأن يبرز وصية المحبة بلا مقارنات. هذا هو جوهر تعليم يسوع.

"أحبوا أعداءكم" (لو 27:6): لا يكتفي بذكر الأعداء عامّة بل يحدّد أعداء المخاطبين. يجعل هذا الأمر الحديث عمليّاً ملموساًَ. ويحدّد القدّيس لوقا الأعداء: "الذين يبغضونكم.. لاعنيكم.. المفترين عليكم" (را، لو 27:6-28).

يرى يسوع، على لسان الإنجيليّ، أنّه لا يكفي الصفح عن هؤلاء، بل يجب الإحسان إليهم، ويورد مجموعة من الأمثلة على ذلك (29:6-30) تمتاز بالحيوية والقوة: حوّل الخد الآخر… قدّم القميص.. أعط كل من يحتاج ولا تنتظر أن تسترد شيئاً مما أعطيت. كثيراً ما نلجأ إلى هذه النصوص. عند الحديث عن لاعنف الإنجيل. الأمر هنا يتعلّق بشيء أعظم وأسمى من اللاعنف: إنّه إعلان عن مفهوم برّ وعدل جديد يختلف جذريّاً عن مفهوم الإنسان عن البرّ والعدل. إنّه البر الذي ينظّم علاقتنا ويشكّل ضمائرنا. إنّه النظام الذي يجد توازنه في المساواة بين العطاء والأخذ.

إن البرّ، في مفهوم يسوع، شيء مغاير وبعيد عن نظام معاملاتنا، لا بل إنه مختلف عن فكرتنا عن الله. غالباً ما تكون صورة الله في مفهومنا هي صورة حارس دقيق ومراقب متشدّد ليوازن بين العطاء والأخذ.

إن مفهوم يسوع عن هذا الأمر، والذي يظهر في حياته ومعاملاته، يقلب الأمور رأساً على عقب. إن حب من يحبنا ليس علاقة بر في المسيحية (32:6-34). إنه المنطق القديم وهو نزاهة الوثنيين الخطأة.

إن الخاتمة: "لا تدينوا .. لا تحكموا.. أعفوا.. أعطوا.." (37:6-38) لا تضعف من قوة أفعال الأمر السابقة ولا تعود بالحديث على نقطة البداية. إنها تريد أن تؤكّد أن البر الجديد لا يلغي روح الحقيقة القديمة. إن من يترك ذاته لها لا يخسر شيئاً، بل يكسب كل شيء، ولكن على مستوى آخر وبمنطق آخر.

أمّا عن التساؤل الثاني: ماذا يعني العمل؟ فيجيب الجزء الثالث من عظة يسوع في السهل حيث تم جمع بعض التشبيهات، وأولها يسمّى "مثلاً" (لو 39:6). يبدأ هذا الجزء بنوع من المسافة: وضرب لهم مثلاً. وهو لا يقول ماذا يجب أن نعمل بل كيف يجب أن نعمل. إن ما يميّز العمل الإنجيلي هو بآن واحد المضمون والطريقة. ويولي إنجيل القدّيس لوقا هذا الأمر، أي طريقة العمل، اهتماماً خاصاً.

هنـاك مثـلاً مؤمنـون عميان يريـدون أن يقودوا عميانـاً آخـرين (لو39:6-40). يقوم خطأهم، لا في تعديهم للتعليم، بل في ادعائهم أنهم يتفوقون على يسوع. على هؤلاء أن يُقرّوا أنه ليس أحد أعظم من يسوع. حتى وإن كان هؤلاء معلمين أتمّوا دراستهم وتخصّصوا وحصلوا على معرفة العلوم إلا أنه يجب عليهم أن يرددوا بأمانة تعليم يسوع. إن مصداقية الكلمة التي يعلنون لا تكمن في مقدرتهم بل في الأمانة. إن ما يهم هو العمل بكلام يسوع لا بكلامهم هم.

وهناك مثل آخر هو مثل القذى والخشبة (لو 41:6-42). يقتضي العمل بكلام يسوع شجاعة الإصلاح الأخوي. يتعرّض الإنسان، في هذا المجال، إلى نوعين من الأخطار: الخطر الأول هو استعمال مكيالين ومعيارين. قد نكون مع الآخرين قاسين مدققين وأقل صبراً من الله ذاته: يمكن تفادي هذا الخطر في حالة واحدة وهي أن يبدأ الإنسان بإصلاح ذاته. عندما يكون الإنسان دقيقاً وأميناً في نقده لذاته فإنه يجد المعيار المناسب لإصلاح الآخرين.

والخطر الثاني هو الرياء. هناك من يستعمل كلمة الله لإيلام الآخرين دون أن يتعرّض بأي لوم لذاته. إن خاتمة هذا التشبيه "عندئذ تبصر فتخرج القزى الذي في عين أخيك" (لو 42:6) تشير إلى أن إصلاح الذات ليس مجرد أمانة جامدة إنما أسلوب حياة. إن من يضع ذاته موضع نقد وتساؤل هو وحده القادر على أن يرى ويفهم.

أمّا التشبيه الثالث وهو تشبيه الشجرة الفاسدة (لو 43:6-44) فهو يركّز على الأعمال. تبيّن الثمار نوعيّة الشجرة. تظهر طبيعة الإنسان الحقيقيّة من أعماله لا من أقواله فقط. ويتطوّر التشبيه حتى يمتزج مع المثل الذي يليه "الإنسان الطيب من الكنز الطيب في قلبه يخرج ما هو طيب والإنسان الخبيث من كنزه الخبيث يخرج ما هو خبيث" (لو 45:6).

يتم الحكم على الأعمال من الباطن أي من القلب. نعرف أن القلب، في مفهوم الكتاب المقدس، هو مركز الشخصية الذي يصبغ الأفكار والكلام والأعمال بصبغته الذاتيّة الخاصة. تجتاح التوبة الإنسان في كل جوانبه وأبعاد شخصيته وحياته. هكذا يستطيع الإنسان أن يعمل أعمالاً صالحة. إن الصخرة التي تجعل البيت ثابتاً هي الممارسة النابعة من قلب نقي.

عن مجلة صديق الكاهن