الأمثال (28)

الأمثال في إنجيل القدّيس لوقا

مثل "الزارع" (لو 4:815)

يورد إنجيل القديس مرقس (1:4-34) في مثل الزارع (1:4-9)، غاية يسوع من الأمثال (10:4-12)، تفسير مثل الزارع (13:4-20)، مثل السراج (21:4-23)، مثل الكيل (24:4-25)، مثل الزرع الذي ينمي (26:4-32) وأخيراً يسوع والأمثال (33:4-34). ينتقي إنجيل القديس لوقا، من كل ذلك، مثل الزارع (4:8-15)، غاية يسوع من الأمثال (9:8-10) وتفسير مثل الزارع (11:8-15) وبعض التشبيهات القصيرة.

ويضع إنجيل القديس لوقا هذا المثل في سياق مختلف عن سياقه في إنجيل القديس مرقس. يعلم يسوع، في إنجيل القديس مرقس من القارب (را مر1:4-2)؛ بينما يأتي الحديث في إنجيل القديس لوقا في إطار تجول يسوع وبشارته واحتشاد الجمع حوله (را لو 1:8-3). يضع إنجيل القديس لوقا، كإطار، يسوع الذي يسير إلى كل مدينة وقرية ينادي ويبشر بالملكوت. لذلك فالإطار هو إرسالي عالمي. وحركة الرسالة مزدوجة وفي اتجاهين: يسوع يسير من مدينة إلى مدينة، أي أنه يبحث عن الجموع، والجموع تبحث عن يسوع وتهرع إليه. يركز إنجيل القديس لوقا اهتمامه على الكلمة وبالتحديد الكلمة المرسلة.

المثل

لقد اختصر إنجيل القديس لوقا مثل الزارع وأدخل عليه تحسينات لغوية دقيقة، وإن حافظ على جوهر المثل، كما يرد في إنجيلي القديسين متى ومرقس.

إن تعديلات إنجيل القديس لوقا لا تقتصر فقط على الاختصار، بل طالت نقاط أخرى، بهدف توضيح المثل. تكشف تعديلات إنجيل القديس لوقا عن عدم إلمام الكاتب بالبيئة الفلسطينية. كان لوقا يونانياً ووجّه إنجيله إلى اليونانيين، وكان هو وقراؤه غير ملمين بعادات وأصول الزراعة في فلسطين.

يلقي الزارع في فلسطين البذر في أرض جافة، مليئة بكتل الطين الصلبة والشقوق الناتجة عن جفاف فترة الصيف. وعند هطول أمطار الخريف يعود إلى حقله ليحرك التربة لكي يغمر البذر ويغطيه. لا يبالي الزارع بتفادي المدقات التي تنشأ في فترة الجفاف. إن المارة في فترة خلو الأرض من الزرع يختصرون الطرق مارين بالحقول. ومع مرور الوقت (شهران أو ربما أكثر) تتكون هناك بعض المدقات. لا يبالي المزارع بهذه المدقات ويلقي بذره في الحقل كله، بما فيه المدقات. ثم يحرث الحقل كله. الخطر الوحيد هو هجوم طيور السماء. قد يدوس المارة البذار ولكن هذا لا يضره. كان كاتب إنجيل القديس لوقا يجهل هذا الأمر، وأراد أن يقوّي الصورة ويوضحها فأضاف "داسته الأقدام وأكلته طيور السماء" (5:8ب).

كان من الممكن أن يقع الحَب على أرض حجرة غير خصبة، لأن سطح أرض الحقل كان كله جافاً وما كان يكشف ما بداخله. يحدد إنجيلا القديسين متى ومرقس قائلين: "أرض حجرة" وهو أمر معقول ومنطقي. أما إنجيل القديس لوقا فيقول "وقع على الصخر". إنه من غير المنطقي أن يلقي أي مزارع الحَب على الصخر. أما بخصوص البعض الذي سقط بين الشوك: فإن إنجيل القديس لوقا يسقط  النتيجة، أي أنه لم يثمر، فلا يذكرها. لقد اعتبر الكاتب أن إضافة هذه العبارة أمر زائد لا يضيف أي معنى جديد على النص: إذا كان الشوك يمنع الزرع من النمو فإن هذا لن يعطي ثمراً. وكذلك بخصوص التربة الجيدة. يكتفي إنجيل القديس لوقا بالقول إنه يعطي مائة ضعف، بينما تدرج الإنجيلان الآخران من الثلاثين إلى الستين إلى المائة أو العكس.

الحوار

يبدو أن إنجيل القديس لوقا لا يولي لحوار يسوع مع التلاميذ ذات الأهمية التي يوليها له الإنجيلان الآخران. يبدو وكأنه يذكر هذا الحوار فقط من باب الأمانة على التقليد، لذلك فهو يختصره ويحاول أن يوضحه ويجعله أكثر فهماً ولكنه بذلك يفقره.

يوجّه التلاميذ وحدهم السؤال إلى يسوع. وموضوع سؤال التلاميذ هو مثل الزارع فقط. يتضح هذا من صيغة السؤال: "ما مغزى هذا المثل" (لو9:8). كما أن إجابة يسوع لا تبرز المقارنة والاختلاف بين الذين هم مع يسوع والذين هم من الخارج؛ كما هو الحال في إنجيل القديس مرقس (11:4) وإنجيل القديس متى (11:13). إنه يكتفي بالقول أنتم/ سائر الناس. بذلك تبهت صورة إنجيل القديس مرقس الرائعة التي تقيم تضاداً بين نوعية العلاقة بيسوع (من يكون معه ويتبعه، ومن لا يكون معه بل يظل خارجاً ينظر).

كذلك يختصر إنجيل القديس لوقا نص أشعيا النبي "غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأغمض عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى" (أش 10:6)، مكتفياً بعبارة "لكي ينظروا فلا يبصروا ويسمعوا فلا يفهموا" (لو10:8ب)، يوجز عبارة الإدانة "لئلا يؤمنوا فيخلصوا" (12:8).

تفسير المثل

قدم إنجيل القديس مرقس تفسير المثل بعبارة "الزارع يزرع كلمة الله" (مر14:4). يختلف هدف إنجيل القديس لوقا الذي يركز على الكلمة "الزرع هو كلمة الله" (لو 11:8). لا يبالي الإنجيلي بصورة الزارع ولا حتى بطريقة غير مباشرة. إن اهتمامه كله مركّز على مصير الكلمة وعلى شروط قبولها.

يعرف إنجيل القديس لوقا، مثل إنجيلي القديسين متى ومرقس، أن فشل الكلمة يرجع إلى ثلاثة عوامل: إبليس، التجربة وطريقة خاطئة للحياة (الهموم، المال، اللذات…). يُدخِل إنجيل القديس لوقا بعض التعديلات، نذكر منها أن إبليس ينتزع لكلمة "من قلوبهم"، ويورد بعد ذلك باقي نص أشعيا "لئلا يؤمنوا فيخلصوا". إن التعديل الذي يجريه إنجيل القديس لوقا، في الترتيب، يهدف إلى تفادي سوء الفهم. لا يتحمس الإنجيلي لجفاف المفاهيم اللاهوتية. إن ذكر نص أشعيا، كما هو، قد يُفهم منه أن عدم الإيمان يرجع إلى الله أو إلى الكلمة. بإجراء هذا التعديل يوضح أن سبب عدم الإيمان هو إبليس أو الإنسان.

وعندما يتناول إنجيل القديس لوقا بالوصف نوع التربة الثاني فإنه لا يتكلم عن "شدة أو اضطهاد" مثلما يفعل إنجيلا القديس متى ومرقس، بل عن "التجربة".

إن أسباب تنازل المسيحيين عن مبادئهم وسقوطهم في الأخطاء والخطايا ليست هي دائماً وفقط الاضطهادات والشدائد، بل قد تكون التجارب العادية العامة: الملل والرتابة العادة. ربما كانت خبرة حياة كاتب إنجيل القديس لوقا أكثر مرارة من خبرة الإنجيليين الآخرين: ينهار المؤمنون ليس فقط أمام الاضطهادات بل أيضاً أمام مشاكل الحياة اليومية. يكفي أحياناً مرور الزمن لإطفاء الحماس الملتهب! ولا يلجأ إلى كلمة "عثرة" وهي كلمة كتابية غنية بالمعاني والمفاهيم ويستعملها الإنجيلان الآخران، بل إلى كلمة عادية جداً "الارتداد". إن الصور التي تشير إليها هذه الكلمة في بساطتها هي صور الحياة اليومية المعتادة.

يسهب الإنجيلي في وصف النوعية الرابعة من أنواع التربة. إن أولى الخصائص التي تميز نص إنجيل القديس لوقا هي "سماع الكلمة بقلب طيب كريم". إن الثنائية اليونانية "جميل وحسن" أو كما تترجم هنا "طيب وكريم" تشير إلى الكمال والانسجام أي إلى شخص كامل من جميع الوجوه. إن زرع كلمة الله لا يمكن أن ينمو في شخص مضطرب ومتوتر، والخاصية الثانية هي القدرة على الاحتفاظ بالكلمة التي تم سماعها. يقتضي قبول كلمة الله وقتاً وسهراً وتركيزاً. أما ثالث الخصائص فهي المثابرة. وجدير بالذكر أن الكلمة اليونانية تعني شيئاً أكثر من المثابرة: القدرة على الاحتمال والصلابة والصمود أمام التحديات وصبر الانتظار.

عن مجلة صديق الكاهن