البابا ليون الثالث عشر (5) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

في مقال العدد الماضي تحدثنا عن المهمة السياسية والديبلوماسية التي قام بها الأنبا كيرلس مقار في الحبشة، وذلك بناءً على تكليف من البابا ليون الثالث عشر للتوسط باسمه لدي ملك الحبشة النجاشي منيليك الثاني كي يطلق سراح الأسري الإيطاليين الذين وقعوا في أيدي الأحباش على أثر معركة عدوة في أول مارس 1896.

وإن كانت تلك المهمة لم تنتهي بالنجاح المرغوب فيه للأسباب التي شرحناها في العدد الماضي، إلا أنها أتاحت الفرصة لوسائل الإعلام في ذلك الوقت لتسليط الأضواء على طائفة الأقباط الكاثوليك والآمال المعقودة عليها من قبل البابا ليون الثالث عشر والكنيسة الكاثوليكية جمعاء، بالإضافة إلى شخصية الأنبا مقار وثقافته ولباقته وطاعته لأمر البابا بالتصدي لمشكلة لا تخص طائفته ولا هو شخصياً.

مع بداية عام 1897 أخذ الأنبا مقار وبتعضيد من البابا ليون في التفكير جدياً في مستقبل الطائفة، خاصة في المشروعات الكبيرة التي كانت في انتظارها مثل: تكوين الإكليروس القبطي الكاثوليكي وتثقيفه، تنظيم هيكل الكنيسة القبطية الكاثوليكية نفسها، توضيح علاقة هذه الكنيسة بالكنيسة الجامعة خاصة في الأمور العقائدية، القانونية والرعوية. وأخيراً التفكير في النواحي المادية التي كانت الطائفة بحاجة إليها: كتغطية احتياجات الكهنة المادية، وبناء كنائس جديدة للطائفة، بالإضافة إلى مشروعات أخرى من بينها مقري البطريركية في كل من القاهرة والإسكندرية.

1– المعهد الإكليريكي البطريركي بمدينة طهطا بصعيد مصر

في أوائل شهر مايو 1896 عقد الأساقفة الثلاثة: الأنبا كيرلس مقار، الأنبا مكسيموس صدفاوي والأنبا أغناطيوس برزي اجتماعاً لتدارس أمور البطريركية، رفعوا على أثره تقريراً إلى البابا ليون تضمن أحوال الأيبارشيات الثلاث: القاهرة، المنيا والأقصر. كذلك حاجة الطائفة إلى كلية إكليريكية خاصة بها تدرس فيها المواد الفلسفية واللاهوتية باللغة العربية؛ وبالطبع ستكون خاضعة للوائح والقوانين الكنسية المنظمة لهذه الكليات. وقد وقع اختيار الأساقفة الثلاثة المجتمعين على مدينة طهطا أو طحطا في محافظة سوهاج الحالية والواقعة قديماً ضمن حدود إيبارشية طيبة (الأقصر)، لتكون مقراً لهذه الكلية الإكليريكية، وذلك لأنها تحوي العدد الأكبر من الكاثوليك بالإضافة إلى وجود مقر أسقف الأقصر بها.

قبل البابا ليون اقتراح الأحبار الأقباط، وكلف المونسنيور فرنشيسكو سوجارو النائب الرسولي في السودان بالتوجه إلى مصر ودراسة الطلب. وبعد أن وصله رأى هذا الأخير المؤيد لاقتراح الأساقفة الأقباط تبرع البابا بمبلغ يكفي لشراء 2400 متر مربع من الأرض. وقد أضاف إليها يسى بك نخلة عميد الأقباط الكاثوليك بطهطا مساحة أخرى من الأرض تبلغ مساحتها 1200 متر مربع لتكون حديقة للكلية المذكورة.

وقد غطت مجلة Bessarione  المذكورة سابقاً خبر وضع الأساس لهذه الكلية الإكليريكية في مقالين نشرا على مدى عامين متتاليين. وجاء في المقال الأول:

" في 25 يناير، عيد ارتداد رسول الأمم العظيم، وباحتفال رسمي كبير حضره الأساقفة الأقباط الكاثوليك، وممثلون عن السلك الديبلوماسي بالقاهرة وجمهور غفير من الأقباط الكاثوليك والأرثوذكس، تم وضع حجر الأساس للمعهد الإكليريكي الجديد بمدينة طهطا (كبرى مدن إيبارشية الأقصر الكاثوليكية)، والذي سيبدأ في بنائه بناءً على أمر وسخاء قداسة البابا. إن المعهد الجديد سيسهم بصورة رائعة في تعجيل وتكثيف تكوين الإكليروس القبطي الكاثوليكي والذي عليه بدوره أن يكثف ويعجل من حركة الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية."[1]

أما المقال الثاني والذي نشر في العام التالي فقد جاء فيه:

"لا يمكن أن يشك أحد في إخلاص وصدق المشاعر الأبوية التي أبداها البابا ليون الثالث عشر نحو كنائس الشرق عامة، وكنيسة الإسكندرية بنوع خاص. ففي الواقع أنه منذ أخذ يظهر عطفه واهتمامه بالأمة القبطية، لم يكف يوما عن تشجيع أبناء هذه الأمة على العمل على نهضة ورفع شأن طائفتهم. ولهذا القصد أعاد تنظيم السلطة الكنسية بتأسيس إيبارشيتين جديدتين هما هيرموبوليس (المنيا) وطيبة (الأقصر)، ومعيناً لهما منذ وقت قليل أسقفيهما. ولم تتوقف هنا محبته الفائقة ولا غيرته الرسولية. فقد قبل التوسلات المرفوعة إليه من قبل الأنبا أغناطيوس برزي أسقف طيبة، وأمر ببناء معهد إكليريكي قبطي محلي في مدينة طهطا، أملاً أن يعود من وراء هذه المؤسسة بالنفع العظيم، أدبياً كان أو دينياً للأمة القبطية… وهنا بعد أن تم تحديد الشخصيات المحلية التي سترافق الأحبار الأقباط الثلاثة والمندوب البابوي فوق العادة مونسنيور سوجارو، بالإضافة إلى صاحب الفخامة سفير الإمبراطورية النمساوية المجرية (السيد البارون دي سونّينلايتنر)، توجه الجميع إلى هناك للاشتراك في الاحتفال الرسمي الذي أقيم لهذا الغرض. وبعد الاستقبالات الحافلة التي خصهم بها شعب مدينة طهطا. تحرك الجميع من الكاتدرائية مصحوبين بالألحان والأناشيد القبطية ومحاطين بحرس الشرف نحو المكان المحدد لبناء المعهد العتيد…

ومن المؤكد أنه بإقامة معهد طهطا الكبير، بدأ قداسة البابا عهداً جديداً يحمل مجداً عظيماً للأمة القبطية ولكنيسة الإسكندرية."[2]

استغرق بناء معهد طهطا الإكليريكي ثلاث سنوات، وكانت أعمال بناءه قد وضعت تحت أشراف الأب جوليان اليسوعي وهو الذي كان مسئولاً عن بناء كنيسة العائلة المقدسة للأباء اليسوعيين بالمطرية.

بعد انتهاء البناء تحدد يوم 15 نوفمبر لافتتاحه. وقد نشرت مجلة الأسد المرقسي التي أسسها الأنبا كيرلس مقار تفاصيل حفل الافتتاح وجاء فيها:

"جاءنا من مدينة طهطا، أن الاحتفال بافتتاح المدرسة الإكليريكية قد تم على غاية الرونق والبهجة بحضور غبطة البطريرك المعظم والسيد غودنسيو القاصد الرسولي نائباً عن الحضرة البابوية وسيادة الأنبا مكسيموس صدفاوي أسقف المنيا وسيادة الأنبا أغناطيوس برزي أسقف تيبا والصعيد وجناب مندوب دولة النمسا والمجر وحضرة الأب جبرائيل صفير النائب البطريركي على الطائفة المارونية في القطر المصري وحضرات الآباء اليسوعيين والفرنسيسكان والفرير بالمنيا وحضرة الوجيه الخواجه خليل أندرواس قنصل دولة النمسا والمجر بجرجا وغيرهم من الوجهاء والأعيان الذين أموا المدينة لمناسبة هذا الاحتفال وفي أثناء تقدمة الذبيحة الإلهية بكنيسة المدرسة المؤما إليها (يقصد المشار إليها) التي كانت غاصة بجماهير المؤمنين وبعض كبار موظفي الحكومة المحلية قام حضرة القمص أثناسيوس سبع الليل وألقى خطبة أنيقة استرعت الأسماع آتى فيها بفصيح العبارة على تاريخ الأمة القبطية وما عانته من المشاق والاضطهادات وكيف أتاح لها المولى جلت قدرته بعد كل هذه المحن من أسباب التقدم والترقي على يد عظيم الأحبار البابا لاون (البابا ليون) الثالث عشر ولم يفت جناب الخطيب ذكر ما لحضرات الآباء المرسلين وخصوصاً اليسوعيين والفرنسيسكان من الأيادي البيضاء على تلك الأمة وقد أثنى حضرته ثناءً طيباً على ما بذلته عائلتا يسّى والمصري من الهمة والمساعي في سبيل إنجاز المدرسة الإكليريكية مما يخلد لهما في بطون التاريخ ذكراً جميلاً وبعد إتمام القداس الإلهي قصد الجميع دار المدرسة حيث ألقية (يقصد ألقيت) الخطب الرنانة طبقاً للمقام وخص بالذكر حضرات الأدباء أمين أفندي رفلة يسّى وميخائيل أفندي فرج المحامي والخواجه فرنسيس الساعاتي وحضرة الأب أنطون برايا وأخيراً تفضل غبطة البطريرك المعظم بخطاب اختتم به الحفلة وقبل أن يتم غبطته المقال التفت نحو جناب القمص أثناسيوس سبع الليل وكيل أسقفية طهطا فسلمه مفاتيح المدرسة عاهداً إليه بإدارة شؤونها وانتقل من ثم الجمع إلى قاعة الاستقبال حيث أديرت المرطبات وانصرف الحاضرون وهم عاجزون عن تعبير ما يخالج أفئدتهم من السرور والانشراح وكان غبطة البطريرك المعظم وحضرات السادات والآباء المحترمين ضيوفاً كراماً بدار صاحب العزة والوجاهة نخلة بك يسّى وجناب شقيقه الفاضل الخواجه سمعان يسّى الذين اظهرا من الكرم وحسن الوفادة ما استوجب طيب الثناء وجزيل الشكر"[3]

2– بناء الكاتدرائية البطريركية بالإسكندرية

كان بناء مقراً بطريركياً في الإسكندرية حلماً للأنبا مقار طالما سعى إلى تحقيقه. وقد ذكرنا في مقالنا الثاني من هذه السلسلة أن مقار عرض هذا الموضوع أثناء زيارته لفيينا في شهر أكتوبر 1895على الإمبراطور فرانز جوزيف إمبراطور النمسا والمجر، وأشرنا أن الإمبراطور وعده بتقديم 300.000 ألف فرنك لتحقيق هذا المشروع. في 5 مايو 1899، تم وضع حجر الأساس لهذه الكنيسة البطريركية بالإسكندرية في نفس المكان الذي كان يضم معبد السيزاريوم (القيصري نسبة إلى قيصر)، والذي أصبح المقر القديم لبطاركة الإسكندرية، كما يؤكد ذلك الأنبا مقار نفسه. وكان يحضر هذا الحفل بالإضافة إلى الأنبا مقار، كل من الأسقفين القبطيين الآخرين وجمع كبير من كبار الضيوف. ويذكر المؤلف بول رينودين نقلاً عن إحدى الصحف تفاصيل هذا الحفل بقوله:

"إن صحيفة "Le Phare d’Alexandrie" في عدد الاثنين 5 مايو 1899 روت بطريقة مطولة هذا الحفل، الذي حضره M. de Velics  ممثل دولة النمسا، ومعه قناصل دول إيطاليا، البرتغال، ألمانيا والبرازيل. وألقى البطريرك (لم يكن تعيين الأنبا مقار بطريركاً قد صدر بعد) بهذه المناسبة كلمة باللغة الفرنسية ختمها بقطعه نذراً بأن "إعادة تشييد هذا الصرح المسيحي لمعبد السيزاريوم سيمثل نهاية لتشتت هذا الجيل وارتداداً للقلوب بواسطة استحقاقات ابن الله."[4]

وفسّر المؤلف في نفس الحديث غياب ممثل فرنسا عن حضور هذا الحفل، بسبب أن الأقباط الكاثوليك يتمتعون بحماية الحكومة النمساوية، وذلك بخلاف بقية الجماعات المسيحية الكاثوليكية في الشرق الأوسط التي تتمتع بحماية الحكومة الفرنسية. بدأت أعمال حفر أساسات هذه الكنيسة البطريركية في أواخر شهر نوفمبر 1899، وقد نشرت مجلة الأسد المرقسي نقلاً عن صحيفة الأهرام عدد 6599 بتاريخ 1 ديسمبر 1899 خبراً جاء فيه:

"جاء في العدد 6599 من جريدة الأهرام الغراء الصادر في غرة ديسمبر الجاري ما يأتي بالحرف الواحد: " بينما كان العمال يحفرون أساسات الكنيسة الجديدة للأقباط الكاثوليك في الإسكندرية عثروا على بناية قديمة فواصلوا الحفر فوصلوا إلى حجرة كبيرة فيها الأواني الكنسية وتمثال العذراء على صفيحة من الخزف وبعض المباخر وسواها ويؤكدون أن هناك كانت الكنيسة المرقسية الكبيرة وأن ما عثروا عليه من الجدران ينطبق على ما قاله مريت باشا عن الكنيسة المرقسية."[5]

وبخصوص هذا المكان ونسبته إلى معبد السيزاريوم والذي تحول إلى مقر لبطاركة الإسكندرية قرر الأنبا مقار أن يلقي محاضرة أمام الجمعية الجغرافية الخديوية. وقد نشرت مجلة الأسد المرقسي نبأ هذه المحاضرة في عدد الخامس وجاء فيه تحت عنوان "أمة الأقباط والسيزاريوم":

"سيلقي غبطة البطريرك الإسكندري المعظم يوم السبت القادم 27 يناير الجاري الساعة الثالثة افرنكي بعد الظهر بالجمعية الجوغرافية (يقصد الجغرافية) المعتاد انعقادها بسراي الحقانية المختلطة مقالة باللغة الفرنسية بشأن السيزاريوم الذي عثرت على أثاره أمتنا لدى حفر أساسات كنيستنا البطريركية الجديدة بثغر الإسكندرية ولسنا في حاجة إلى حث الجمهور على الحضور فإن ما في هذا الموضوع من الأهمية الكبرى علمياً وتاريخياً يستغني معه عن كل حض من هذا القبيل وإنا (إننا) سنوافي القراء الكرام بترجمة هذه المقالة في الأعداد المقبلة إن شاء الله."[6]

وفي عددها السادس نشرت مجلة الأسد المرقسي ما دار أثناء المحاضرة التي ألقاها الأنبا كيرلس مقار أمام الجمعية الجغرافية الخديوية في 27 يناير 1900. وجاء في الخبر ما يلي:

"ما وافت الساعة الثالثة ونصف افرنكي من مساء يوم السبت الواقع في 27 يناير الماضي حتى غصت قاعة سراي المحكمة المختلطة بمصر مع سعتها ورحبها بجماهير الوفود الذين أقبلوا وحداناً وزرافات لسماع الخطاب الذي وعد به غبطة بطريركنا المعظم بإلقائه في الجمعية الخديوية الجغرافية بشأن الكنيسة البطريركية التي عثرت الأمة على أثارها بمدينة الإسكندرية كما سبقت مجلتنا ونشرته في عددها السابق وعندما انتظمت الحفلة وكانت مؤلفة من رؤساء الطوائف والبعثات المسيحية على اختلاف أجناسهم وأكابر العلماء وأكبر الموظفين وأشهر الأفوكاتية وأشرف العقيلات الأوروبيات هلّ غبطة البطريرك وبمعيته سيادة المونسنيور سوجارو ورجال إكليروسه الكرام فنهض القوم نهضة الإجلال والإكرام وريثما استقر بالحاضرين الجلوس افتتح الجلسة سعادة الفاضل أباته باشا رئيس الجمعية فبدأ غبطة البطريرك خطابه باللغة الفرنسية والناس جميعاً عيون تلحظه وآذان تصغي إليه فسرد بلسان فصيح ولهجة أنيقة ومهارة فائقة تاريخ الهيكل القيصري المعروف بالسيزاريوم وكيف تحول على عهد قسطنطين الملك إلى معبد مسيحي وأصبح مقراً لبطاركة الإسكندرية وأجرى من ثم مقارنة ما بين الآثار التاريخية الثابتة وما بين المعالم الحالية والآثار التي وجدت اليوم بمدينة الإسكندرية مما ثبت معه ثبوتاً لا ريب فيه بأن ما عثرت عليه الأمة إنما هو كنيسة أجدادنا البطريركية وقد استغرقت خطابة غبطته ساعة وأكثر من الزمن وقد تخلل الخطابة من حسن التعبير وبديع الحوادث التاريخية وسديد البراهين العلمية ما أخذ بأعنة أفئدة الحاضرين وسحر ألبابهم فطاب لهم المقال وانتهت الخطابة وهم معتقدون أنه لم يمض عليهم إلا بضع دقائق فقام عندئذ سعادة رئيس الجمعية وقال: " لا يسعني أيها السادة الأفاضل إلا إسداء الثناء العاطر والشكر الجميل لغبطة الحبر المفضال البطريرك الإسكندري على ما تفضل به علينا اليوم من الفوائد العلمية والإرشادات التاريخية وإني والحق يقال لم أسمع حتى الآن تاريخاً عن السيزاريوم افصح عبارة وابلغ بياناً وأوفى صحة مما سرده غبطة البطريرك الإسكندري كيرلس الثاني ولا ريب في أن علماء الآثار والمؤرخين سيجدون في مقالة غبطته هذه ما يصل بهم إلى نهاية مقاصدهم ويرشدهم في أعمالهم إلى سواء السبيل" وعند ذلك ارفضت الجلسة والقوم أجمعين لسان واحد في ترديد عبارات الشكر والثناء على ما تكرم به غبطة بطريركنا المعظم وكنا نود أن نزين اليوم صفحات بتلك المقالة لو لم تقض لائحة الجمعية الخديوية الجغرافية بأحقيتها في نشر ما يلقى في جلساتها قبل غيرها من الصحف والمجلات وعلى ذلك فإنا منتظرون ظهورها بمجلة الجمعية المشار إليها وعندئذ ندرجها وإن غداً لناظره قريب."[7]

بالفعل فقد وفت مجلة الأسد المرقسي بوعدها وقامت بنشر ترجمة محاضرة الأنبا كيرلس مقار عن السيزاريوم والتي ألقاها أمام الجمعية الخديوية الجغرافية يوم 27 يناير، وذلك بدءاً من العدد 13 الصادر في 23 مايو 1900، واستكملت في الأعداد رقم 14، 15، 16، 17، 18.

انتهت أعمال بناء الكنيسة البطريركية في الإسكندرية، وقد تحدد يوم 4 مايو 1902 موعداً لتكريسها. وكتب في هذا الشأن المؤلف بول رينودين السابق ذكره ما يلي:

"إن طائفة الأقباط الكاثوليك الوارثة لماض مجيد، وبالرغم من قلة أتباعها حالياً، حظيت بسعادة غامرة بمعايشتها يوم 4 مايو 1902 تكريس الكنيسة البطريركية الجديدة، والتي بنيت في نفس مكان كنيسة بطاركة الإسكندرية القديمة، وقد حضر حفل التكريس العديد من أعضاء الرهبانيات العاملة في مدينة القديسين أثناسيوس وكيرلس. إن ذلك الحفل يبدو وكأنه إحياءً للعهد المنير والأيام الخصبة بالقداسة، ودعوة لآمال موعودة لمستقبل مشرق."[8]

كان الأنبا كيرلس مقار بطريرك الطائفة قد أصدر بهذه المناسبة رسالة رعوية، ذكرها المؤلف روزاريو اسبوزيتو الذي ذكرناه في الأعداد السابقة بقوله:

"في 4 مايو 1902ـ تم تكريس الكنيسة البطريركية في مدينة الإسكندرية باسم كنيسة القيامة، والتي أقيمت في محيط المعبد القيصري القديم. وبهذه المناسبة أصدر الأنبا مقار رسالة رعوية من بين ما قاله فيها: " إن اسمها – القيامة – يمنحننا إمكانية الأمل في قيامة قريبة لكل أمجاد الماضي. إن الحلم الذي يداعبنا بصورة كبيرة، و أعز الآمال يا كنيسة السيزاريوم المقدسة، هو أن تستطيعي يوماً الاحتفال بتحقيق الوحدة الكاثوليكية والترنم بنشيد الأخوة الكبيرة لجميع كنائس الله".[9]

3– مشروعات لمساعدة الكهنة مادياً وبناء كنائس جديدة

أدرك الأنبا مقار منذ اللحظة الأولى لتحمله مسئولية الطائفة أن مجالات العمل متسعة جداً، وفي الوقت نفسه فإن المصروفات ستكون دوما في ازدياد، ولم يكن ينتظر الكثير من الرعية، إذ كان الغالبية الساحقة منها تعيش في فقر مدقع. كانت المطالب الملحة ببناء كنائس ومدارس في القرى التي انضمت إلى الكنيسة الكاثوليكية تتوالى باستمرار. وقد حاول مقار أن يجد حلولاً لهذه الاحتياجات. وكما ذكرنا سابقاً فإنه خلال زيارته للنمسا في شهر أكتوبر 1895، عرض احتياجات الطائفة المتزايدة على الإمبراطور فرانز جوزيف الذي تبرع لهذا الغرض بمبلغ 45.000 فرنك. وكان ينتهز أي فرصة للحصول على مساعدات للإكليروس الفقير ولبناء الكنائس. ولحل هذه المشكلة بطريقة نهائية توجه إلى البابا ليون الثالث عشر، الذي عرض الموضوع في الجلسة الأخيرة للجنة الكاردينالية للعمل على وحدة الكنائس المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية، المنعقدة بتاريخ 20 يوليو 1902، ونقرأ في محضرها الأتي:

"إن أخبار التقدم الذي تحرزه الوحدة المقدسة في الأمة القبطية لهي أخبار معزية. فبعد أن تم إعادة تأسيس بطريركية الإسكندرية والرئاسة الكنسية الكاثوليكية، فكرنا أن نخصص منحة نسبية. إذ تم توظيف نصف مليون من الفرنكات في شراء ثلاث مزارع، وهذه المزارع التي تروى بماء النيل يمكنها أن تدر محصولاً كافياً لتلبية كافة الاحتياجات. في طهطا تم الانتهاء نهائياً من بناء المدرسة الإكليريكية. والشباب القبطي يلتحقون بهذه المدرسة التي يديرها الآباء اليسوعيون. إننا نعول كثيراً على حركة الارتدادات بين الأقباط، وذلك للصدى الذي يمكن أن تحدثه هذه الارتدادات بين الأحباش، نظراً للصلة الكبيرة التي تجمع الأقباط بالأحباش. وعندما يكون لدينا كهنة تم إعدادهم وتثقيفهم جيداً، فإن الحبشة يمكنها أن تنضم إلينا."[10] 

وقد ذكر الأنبا أليكسندروس إسكندر في مؤلفه عن تاريخ الكنيسة القبطية، هذه المزارع الثلاث التي تم تخصيها كوقف ثابت للصرف من إنتاجها على احتياجات الطائفة.[11] أما الدكتور مارك حبشي فقد قدر قيمة هذه الأوقاف في الوقت الذي كتب فيه مؤلفه بمرة ونصف ثمنها الأساسي.[12]

5- إعادة طبع الكتب الطقسية

كنا قد أتينا في معرض حديثنا في المقالات السابقة على ذكر المطبعة التي اشتراها الأنبا مقار بتعضيد من البابا ليون الثالث عشر، لطبع الكتب الطقسية ومشاريع أخرى من إصدارات وصحف ومجلات كان مقار ينوي القيام بها.

بالفعل تم إعادة طبع الخولاجي المقدس، والترجمة العربية للأناجيل الأربعة، وترتيب الأسرار، والدليل أو الدلال السنوي، ودليل طقوس أسبوع الآلام، وترتيب صلوات أسبوع الآلام بالإضافة إلى قطمارس الرسائل. وقد عاب الأنبا أليكسندروس إسكندر في مؤلفه "تاريخ الكنيسة القبطية" على هذه الطبعات عدم احترامها للنصوص الأصيلة لهذه الكتب فقد تم حذف واختصار بعض النصوص اقتناعاً من الأنبا مقار بحتمية هذه التغييرات لمواكبة تغييرات الزمن. ويضيف الأنبا أليكسندروس أن هذه الاختصارات التي قام بها الأنبا مقار قد تم تلاشيها في الطبعة التي تمت على عهد الأنبا مرقس الثاني خزام ثاني بطريرك للطائفة (1947-1958).

6- إصلاح التقويم القبطي

كان إصلاح التقويم القبطي إحدى محاولات الأنبا كيرلس مقار للنهوض بطائفة الأقباط الكاثوليك. فالمعروف أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لم تتبنى مطلقاً الإصلاح الذي قام به البابا غريغوريوس الثالث عشر (1572-1585)، والذي يعرف بالتقويم الغريغوري، وذلك بحذف الأيام من 5 –15 أكتوبر 1582، مما نتج عنه اختلاف بين التقويمين الغربي والشرقي مقداره عشرة أيام ازدادت إلى ثلاثة عشرة يوما مع مرور الزمن. وقد قبل البروتستانت هذا الإصلاح البابوي بمرور 118 عاماً عليه، أما الروم الأرثوذكس فقد قبلوه في القرن العشرين.

ويتضمن هذا الإصلاح الذي قام به مقار في توفيق التقويمين ببعضهما بحذف مجموعة الأيام الفرق بعد حسابات دقيقة. وألقى بهذه المناسبة محاضرة أمام الجمعية الخديوية الجغرافية، وقد نشرت الجمعية هذه المحتضرة في مجلتها في سنة 1902. كما أصدر مقار رسالة رعوية لهذا الغرض. ومن المعروف أن الإصلاح الذي قام بع مقار للتقويم القبطي لا يطبق إلا في الكنيسة القبطية الكاثوليكية إلا في الكنائس الواقعة في القاهرة والإسكندرية.    

 للمقال بقية

 

عن مجلة صديق الكاهن



1  راجع مجلة Bessarione  ، الجزء الأول، السنة الأولى 1896-1897، روما 1897، ص 742، 743.

 

2– راجع نفس المجلة، الجزء الثاني، عدد سبتمبر- أكتوبر 1897، رقم 17-18، روما 1897، ص 338-356.

3 راجع مجلة الأسد المرقسي، عدد 3، السبت 23 ديسمبر 1899، ص 27،28.

[4] Paul Renaudine, Questions Religieuse Orientales, Paris 1913, p. 167.

5 راجع مجلة الأسد المرقسي ، عدد 2، السنة الأولى، 10 ديسمبر 1899، ص 61.

6 راجع نفس مجلة الأسد المرقسي، عدد 5، السنة الأولى 23 يناير 1900، ص 52.

7 راجع الأسد المرقسي، عدد 6، السنة الأولى، الأربعاء 7 فبراير 1900، ص63.

[8] Paul Renaudine, Questions Religieuse, pp. 166,167.

[9] Esposito, Leone XIII, p. 347.

[10] Verbali…, p. 292:

11 أليكسندرس إسكندر (الأنبا)، تاريخ الكنيسة القبطية، الجزء الثاني، القاهرة 1962، ص94.

[12] Marc Habachi, L’Eglise d’Alexandrie et sa Béatitude le Patriarche Kyrillos Macaire, le Caire 1921, p. 18.