وتعليم الكنيسة الاجتماعي

البابا يوحنا بولس الثاني

كما تجلّى في الرسالة البابوية "العمل البشري"*

لعلنا لاحظنا جميعاً الاهتمام الإعلامي- دولياً ومحلياً- بالأخبار المتعلقة بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني في أثناء حياته الخصبة، وكذلك الاهتمام بكل تفاصيل مرضه وموته ودفنه، وإبراز ردود الأفعال لدى مئات الملايين من المسيحيين وغير المسيحيين. ونستطيع أن نؤكّد أن أفضل تكريم نقدمه لروحه الطاهرة وذكراه العطرة، أن نحاول تعريف أكبر عدد من المسيحيين بكتاباته الغزيرة وتعاليمه الإنجيلية، حتى يكون تكريمنا له موافقاً للهدف الذي عمل لأجله طول حياته: نشر البشرى السارة بين البشر، وترسيخ قيم الحوار والسلام والعدل بين الجميع.

يحتل تعليم الكنيسة الاجتماعي في عهد البابا يوحنا بولس الثاني مكاناً بارزاً في الوثائق الكنسية على اختلاف أنواعها. وهو بهذا يكمل عمل أسلافه العظام مثل: البابا لاون الثالث عشر، والبابا يوحنا الثالث والعشرين، والبابا بولس السادس، ويسير على نفس الدرب الذي سار فيه المجمع الفاتيكاني الثاني. ولغزارة كتابات البابا وغناها نحتاج لمجلدات ضخمة للحديث عنها. وفي هذا المقال البسيط سنركّز على رسالة هامة من رسائله بعنوان "العمل البشري". صدرت عام 1981، بمناسبة مرور تسعين سنة على الرسالة البابوية الشهيرة "الشؤون الجديدة"، التي أصدرها البابا لاون الثالث عشر. وكذلك بعض الفقرات من خطابه في الأمم المتحدة.

أولاً: رسالة "العمل البشري"[1]

"… إن العمل البشر مثل محور، ولربما هو المحور الرئيسي لمجمل القضية الاجتماعية. هذا إذا عنينا بأن ننظر إليها حقاً من زاوية خير الإنسان. وإذا كان هل- وبتعبير أصح التدرج في حل القضية الاجتماعية التي تزيد مع الأيام تشعباً- إذا كان هذا الحل يُطلب بغية إضفاء المزيد من الإنسانية على الحياة البشرية، إذ ذاك يكتسب محور هذه القضية أي العمل البشري، أهمية حاسمة وأساسية (…)

"ولابد من التذكير بالمبدأ الذي تعلمه الكنيسة دائماً: مبدأ أسبقية العمل على رأس المال (…) هذه الحقيقة هي في صلب تعليم الكنيسة الذي لا يتبدل. لابد من تسليط الأضواء عليها كلما طرحت قضية تنظيم العمل وقضية النظام الاجتماعي الاقتصادي برمته. يجب إعلاء وإعلان أسبقية الإنسان في عملية الإنتاج. أسبقية الإنسان على الأشياء. كل ما تعنيه كلمة "رأس المال" بالمعنى الحصري إنما هو مجموعة أشياء ليس إلا، الإنسان وحده هو سيد العمل، وهو بغض النظر عن نوع العمل، شخص حي والنتائج التي تترتب على هذه الحقيقة خطيرة وحاسمة".

" في معرض البحث في حقوق العمال من جهة علاقتهم برب العمل غير المباشر، أي الجميع ذوي الشأن في هذا الأمر، تسترعي انتباهنا بكل حق مشكلة توفير العمل الملائم للقادرين عليه. البطالة، أي عدم توفر العمل للقادرين هي حالة مخالفة للعدل والإنصاف، فواجب من يعنيهم الأمر ممن أسميناهم أرباب العمل غير المباشرين، هو النضال ضد البطالة، فهي شر في كل حال، وقد تغدو، إذا بلغت حجماً معيناً كارثة حقيقية"[2].

"المهم إذن فوق كل شيء ألا يكون هذا الإنسان الذي يعمل بعيداً عن مسقط رأسه كمغترب دائم أو كعامل مؤقت، مظلوماً في حقوق العمل دون سائر العمال في مجتمع ما. فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تصبح الهجرة للعمل فرصة بيد الغير للاستغلال المالي أو الاجتماعي. أما فيما يختص بعلاقة العامل المغترب بعمله، فينبغي أن تطبق القواعد ذاتها التي تطبق على سائر العمال في مجتمع ما"[3].

"نقدّر عدالة النظام الاجتماعي الاقتصادي، وسيره السليم، حسب طريقة دفع أجور العمال في هذا النظام. وهكذا نعود إلى المبدأ الأول لكل نظام أخلاقي اجتماعي، وهذا المبدأ هو المشاركة في استعمال الخيرات. وفي كل نظام مهما تكون العلاقات الأساسية بين رأس المال والعمل، يعتبر المرتب السبيل الذي تصل أغلبية الناس بواسطته إلى الخيرات المناسبة للاستعمال العام.. ومن هنا نستنتج أن الأجر العادل هو المقياس الواقعي لعدالة كل النظام الاجتماعي الاقتصادي. وعلى كل حال هو مقياس سيره السليم".

"بالإضافة إلى الأجر، نعرض هنا مسألة الفوائد الاجتماعية لتأمين حياة وسلامة العمال وأسرهم، النفقات المخصصة للصحة وبالأخص حوادث العمل… الحق في الراحة… ويأتي أخيراً حق التقاعد وتأمين الشيخوخة وحوادث العمل"[4].

"مهمة هذه النقابات هي الدفاع عن مصالح العمال الأساسية في جميع القطاعات، والتجربة التاريخية تعلمنا أن مثل هذه الجمعيات تشكّل عناصر لا بديل عنها في حياة المجتمع وبالأخص المجتمعات الصناعية الحديثة"[5].

"لكي تتحقق العدالة في مختلف أنحاء العالم، لابد من قيام حركات تضامن جديدة بين العمال ومعهم… وتشعر الكنيسة بأنها ملتزمة للغاية بهذه القضية لأنها تعتبرها رسالتها وخدمتها الخاصة، وبرهان أمانتها للمسيح، بحيث تكون حقاً كنيسة الفقراء… وهم يتمثلون غالباً في من يعانون امتهان كرامة العمل البشري سواء من البطالة أم من انخفاض الأجور وضياع حقوق العامل"[6].

ثانياً: مقتطف من خطاب قداسة البابا لمنظمة الأمم المتحدة عام 1955"

"ياللأسف! مازال العالم بحاجة إلى تعلّم التعايش وسط الاختلافات… إن اختلاف الآخر وخصوصيته هما أمور نشعر أحياناً بأنها وزن ثقيل أو تهديد… ويمكن أن يقود الخوف من الاختلاف إلى إنكار إنسانية الآخر المختلف، حينئذ يدخل الأشخاص في دوامة العنف الذي لا يرحم أحد ولا يستثني الأطفال…

علمتنا خبرات مُرّة أن الخوف من الاختلاف الذي يظهر بشكل التعصّب الوطني الضيق الذي يرفض الاعتراف بأي حق للآخر، ويمكن أن يقود الخوف إلى العنف والرعب. ولكن يجب أن نؤكّد إن ما هو مشترك بين الناس والشعوب أهم من كل الفروق والاختلافات بينهم. وبالفعل ليست الثقافات المختلفة إلا طرق مختلفة للتعبير عن مسألة عالمية وهي: معنى وجود الشخص… إننا نعتبر أن كل ثقافة اجتهاد فكري لفهم سر الكون وخاصة سر الإنسان، وهي طريقة للتعبير عن البعد السامي للحياة الإنسانية وقلب كل ثقافة هو بحثها عن أكبر سر في الكون وهو سر الله. إن الحق في حرية الاختيار الديني وحرية الضمير هما العمودان اللذان يتأسس عليهما هيكل الحقوق الإنسانية وحرية المجتمعات. ولا يحق لأحد أن يلغي هذه الحقوق بالقهر".



* جزء من هذا المقال مأخوذ من كتاب تحت الطبع بعنوان "عمل عدالة" صادر عن معهد التربية الدينية بالقاهرة بالاشتراك مع جمعية العاملين المسيحيين بمصر.

[1] مقتطف من الفقرة 3، الفقرة 12.

2 مقتطف من الفقرة 18.

3 مقتطف من الفقرة 23.

4 مقتطف من الفقرة  رقم 19.

5مقتطف من الفقرة رقم  20.

6 مقتطف من الفقرة رقم  8..