تنظيم الأسرة من وجهة نظر مسيحيّة

منذ عقود، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، بدأ علماء الديموغرافيا (تطوّر السكان) ينظرون بقلق متزايد إلى عدد سكان الكرة الأرضية الذي يتكاثر باستمرار، والذي قفز من مليار نسمة سنة 1850 إلى 4مليارات نسمة سنة 1980 وتوقعوا له أن يصل إلى 8 مليارات في نهاية القرن العشرين، على أن يتضاعف كل عشرين عاماً – على ما يقولون – إلى ما لا نهاية، بحيث يتعرَّض العالم إلى مجاعات رهيبة، ولا يبقى هناك موطئ قدم لأي إنسان جديد على وجه الأرض!!!
أمام هذه التوقعات المتشائمة يتسائل كثيرون عن رأي الدين في مسألة تنظيم الأسرة، وهل يعتبر هذا "التنظيم" تدخلاً في إرادة الله؟ أو معارضة للطبيعة الإنسانية؟ أو عدم إيمان بأن الله قادر أن يرعى أولاداً مهما كان عددهم؟ أما هو مجرد انخراط غير واعي للكنيسة في برامج الدولة في هذا المجال؟ وما هي الرؤية اللاهوتية المسيحية التي تعبّر عن رأي الكنيسة في هذه المسألة؟ إنها تساؤلات كثيرة حول قضية يومية وهامة.
ماذا نقصد بـ"تنظيم الأسرة"؟
بدايةً نقول أن المصطلح الذي ظهر حديثاً نوعاً ما يُقصد به أن تنظيم الأسرة إنجابها للأطفال بحسب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية وبحسب قدرتها على القيام بمسئوليتها في رعاية أبنائها روحياً واقتصادياً واجتماعياً بحيث يتم تربية هؤلاء الأطفال تربيةً صالحةً تفضي إلى نشوء جيل واعي وقادر على مسايرة التطور الاجتماعي والتكنولوجي والعلمي الذي طرأ على المجتمعات في السنوات الأخيرة.
طبعاً ثمة وسائل كثيرة لتنظيم الأسرة، نترك تفاصيلها العملية والعلمية لأهل التخصص، ولكنه من المعروف أن منها ما هو طبيعي، أما أكثرها فهو طبي توصّل إليه الباحثون والأطباء بعد أن شغلتهم المسألة لسنوات طويلة.
الأسرة من المنظور المسيحي
لا تشكّل البنية العائليّة نظاماً (system) للحياة في المفهوم الأنثربولوجيّ المسيحيّ، ولكن غاية الحياة وطريقتها. فالحياة في المسيحيّة ليست حياة الفرد. لأنّه، من وجهة نظرنا الأنثروبولوجيّة، لا يمكن أن تقوم حياة الإنسان وحده "ليس حسناً أن يكون الإنسان وحده، فلنصنعنَّ له معيناً بإزائه" .
إن ما يميّز الفكر المسيحيّ الكتابيّ حول موضوع العائلة هو أمران. الأول أنّ العائلة المكونة من الزوج والزوجة والأولاد، ما هي إلاّ جزء من العائلة الإنسانيّة الواحدة كلّها. والأمر الثاني هو سبب الأوّل، أنّ الله هو الأب الحقيقيّ لكلّ عائلة ولكلّ إنسان وللإنسانيّة قاطبة. "فالوالد" هو الوالد وليس الأب. لأنّ الله الآب هو الأب. والوالد يلد لكي يسلّم أولاده لأبيهم الحقيقيّ .
إن العائلة هي اللبنة الأولى التي يتكون منها المجتمع والوطن، والوطن في مفهومنا مكان المحبة والخدمة لكل البشر. لهذا يجب أن تكون العائلة هي المدرسة الأساسيّة التي يبدأ فيها الإنسان التمييز بين الشّر والخير، ويمتلك مبادئ الحياة. ومن هذه العائلة السليمة سوف تتكوّن العائلة الأكبر بشكل سليم. إنّ مستقبل البشر ومستقبل الوطن والمجتمعات مبنيّ على بنية وتركيب عائلاتهم.
مسألة الإنجاب
لقد كان الإنجاب وعدد الأولاد يحتل موقعاً هامّاً في المجتمعات البطريركيّة والزراعية القديمة، حيث كان عدد الأولاد الكبير يشكل غنى العائلة وقوّتها لانشغالها بالزراعة والصراعات القبلية. أما اليوم فقد تغيّرت تماماً كل الأسباب الداعية إلى اعتبار عدد الأولاد الكبير أمراً لا غنى عنه في الأسرة. إن التطور العملي الهائل واتساع دائرة التحصيل العلمي صارت هي العوامل الحاسمة في انخراط الفرد في المجتمع بحلولها مكان القوة البدنية والفتوة.
والحق أن مسألة الإنجاب تطرح على الفكر الديني عامة سؤالاً جوهرياً حيث يبدو للأديان أن منع الإنجاب، بطرقه المتعددة، هو نوع من أنواع منع عمل الخالق وحجب بركته الإلهية. ولكننا في الكنيسة نؤمن أن الشروط الروحية هي المبرر الوحيد لوجود العائلة، فهي بالتالي المبرر الوحيد الذي يمكنه أن يكون وراء إنجاب عدد كبير أو عدد صغير من الأولاد.
إن عدد الأولاد في المفهوم المسيحي لا يعدّ ضرورياً لنشوء العائلة. فالعائلة كيان قائم بالحب الذي يجمع الزوجين فيصير "الاثنان واحداً" . «ما من شك في المسيحية أن الأب والأم اللذين لم يرزقا أولاداً يشكلان عائلة، وإذا لم يكن أولاد فالعائلة كاملة والمحبة كاملة. في الأرثوذكسية لا نقول أن غاية العائلة الإنجاب، ولكننا نقول أن الإنجاب إذا تمّ هو ثمرة التقديس الذي يجمع الأبوين. إلى هذا نقول أن العائلة هي الكنيسة الصغيرة، ويقول الكتاب أن كل أبوة على الأرض هي صورة عن أبوة الله لنا» .
إن "الإنجاب" هدف من أهداف الزواج المسيحي ولكنه ليس هو الهدف الوحيد للزواج. فالزواج المسيحي يستمر حتى لو لم ترزق الأسرة بأبناء، حتى أن العقم ليس سبباً من أسباب الطلاق في المسيحية. إن الهدف الأول من الزواج "أن يصير الاثنان واحداً" ، وهذه الوحدة هي بفعل الروح القدس العامل في سر الزواج المقدس "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان" ( مت19 : 6 )، فالزواج إذا شركة حب روحاني مقدس يتسامى بمرور الوقت.
تنظيم الأسرة
لقد شغلت مسألة "تنظيم الأسرة" الفكر المسيحيّ كثيراً. فرغم قدسيّة الإنجاب في المسيحيّة لا يشكّل الإنجاب ولادة حقيقيّة (مشاركة في عمل الخلق مع الله) عندما يترافق هذه الإنجاب مع إهمال أو تقصير أو عجز عن تأمين التربية والتنشئة الضروريّة التي تجعل هذه الخليقة الجديدة تشترك في مجد الله وحياة الكنيسة بكفاءة. وإنّ إنجاب أولاد وحرمانهم الشروط الأساسيّة للحياة والنمو والتربية يُعدّ بمثابة "قتل" وليس ولادة. يرتبط الإنجاب بالعمق بمسؤوليّات عديدة أخرى غير "الولادة الجسديّة" وواجبات الأهل المطلوبة مع الإنجاب عديدة وكبيرة، التي يجب ألاّ تعوقها الحالات الماديّة والبيئيّة وسواها. وكلّ إنجاب يجب أن يؤمّن له ما يقابله من مسؤوليّات تربويّة ومسيحيّة من قبل الوالدَين .
إن جوهر الموضوع في مسألة "تنظيم الأسرة" هو قضية التربية وتأمين الشروط الروحية أولاً للتنشئة الأولاد في جو عائلي مسيحي. نعم توافق الكنيسة على تنظيم الإنجاب في الأسرة زمنيّاً وعدديّاً، ولا بدّ من هذا التنظيم في حياة العائلة اليوم للحفاظ عليها وعلى طبيعتها الروحيّة بالذات. لكن يجب أن يتمّ هذا كلّه بروح التنظيم وليس التحديد. فالكنيسة تشجّع الإنجاب وزيادة عدد الأولاد عندما لا تختل الشروط الروحيّة للعائلة بسبب من ذلك.
من الضروري هنا توضيح مسألتين هامتين:
أولاً، تنظيم الأسرة لا يتعارض مع الطبيعة: فالله وضع تنظيماً طبيعياً للنسل في الإنسان. فالمرأة تتوقف عن القدرة على الإنجاب عند سن معين، كما أن فترة الخصوبة في المرأة هي فترة محددة يمكن فيها للمرأة الإنجاب وفى باقي الأوقات فلا. من هنا يمكن للمؤمنين أن يأخذوا العبرة من هذا الترتيب الإلهي البديع في دورة الحياة والخصوبة عند المرأة.
ثانياً، تنظيم الأسرة أيضاً لا يتعارض مع إرادة الله: كما أشرنا سابقاً فإننا نرى أن الله وضع مبدأ تنظيم النسل كأمر طبيعي، والإنسان بمعرفته لهذه الحقائق العلمية استطاع أن يستخدمها كوسيلة طبيعية لتنظيم الأسرة. وعلى النسق نفسه استخدم الإنسان الاكتشافات العلمية من الأدوية والأجهزة الطبية والعمليات الجراحية التي تؤدي إلى إطالة متوسط عمر الإنسان دون أن يتعارض هذا مع إرادة الله. وما دام الطب يحاول علاج "العقم والعقر" لدى الرجل والمرأة ولا يُعتبر ذلك ضد إرادة الله فلماذا نعتبر تنظيم الأسرة ضد إرادة الله؟
لقد أعطى الله الإنسان القدرة على استنباط كل ما هو نافع له. وبالتالي ترحب الكنيسة بكل الوسائل العلمية التي تدفع عجلة التطور والترقي في المجتمع وفي حياة الإنسان لكنها ترفض من جهة أخرى كل وسائل "تنظيم" الأسرة التي تقوم على القتل كالإجهاض أو التي تسبب ضرراً للأم من جراء التدخلات الجراحية غير الضرورية.
تنظيم الأسرة والدور الوطني
لا يمكننا كمسيحيين وككنيسة وطنية وكأفراد فاعلين في المجتمع أن نغض الطرف عن الأسباب المحقة التي تدفع الدولة إلى نشر الوعي الصحي والتربوي وكذا الاهتمام بنشر الثقافة ومحو الأمية والتي تصب جميعها في قناة تنظيم الأسرة وبالتالي المجتمع كله، بل يجب على كل قطاعات المجتمع وكذا الأفراد أن تسهم فيها لان الفقر وانخفاض مستوى المعيشة الثقافي هي عوامل خطيرة تسهم في زيادة النسل بصورة رهيبة وهذه الزيادة بدورها تهدد الاقتصاد الوطني.
إن من أهم الأسباب التي تجعل مبدأ تنظيم الأسرة مقبولاً من وجهة نظر الكنيسة هو الانفجار السكاني الذي يهدد مستقبل بلادنا مما يحتم علينا ككنيسة وطنية تخلص لبلدها ووطنها أن تتصدى لهذه المشكلة التي تهدد بنسف كل مشروعاتنا واقتصادنا القومي.
إن الضرورات الخاصة في مجتمع اليوم مثل وجود المرأة المعاصرة العاملة خارج المنزل في عملها الذي يستغرق منها أكثر من نصف اليوم، وكذلك جهد التربية المطلوب للأبناء، سواء التربية الروحية الإيمانية، أو التربية السلوكية، وكذا الجهد المطلوب لتنظيم حياة الأبناء المدرسية والتعليمة والاجتماعية والصحية، وكذا الجهد الاقتصادي للأسرة التي يشقى فيها الزوج في معظم الأحيان في عمله مع عمل الزوجة لتسديد احتياجات الحياة اليومية، كل هذه الضرورات تجعلنا نقبل ككنيسة فكرة تنظيم الأسرة من حيث المبدأ كما ذكرنا.
خاتمة
إن وعى الأسرة بمسؤوليتها تجاه أبنائها وبحاجاتهم الروحية خاصةً أمر ضروري، وهذا هو جوهر قضية تنظيم الأسرة في الكنيسة. إن غياب الشروط الروحية التي تجعل الأسرة غير قادرة على التربية المتكاملة للأبناء هو سبب هام لقبول مبدأ تنظيم الأسرة. وبقدر ما نؤمن أنّ هذا الرابط "العائلة" ذو قيمة، بقدر ما يتوجّب علينا أن نسهر على تطويره، لا بل مساعدته للوصول إلى صورته المثاليّة.
إن الضمير المسيحي يملي علينا أن نساهم في التصدي لكل المشاكل الاجتماعية والبيئية والاقتصادية التي ترهق كاهل الوطن انطلاقاً من واجبنا الحتمي وحباً بوطننا وارتباطاً منا بهذه الأرض ارتباطاً مصيرياً.
سنة 1850 إلى 4مليارات نسمة سنة 1980 وتوقعوا له أن يصل إلى 8 مليارات في نهاية القرن العشرين، على أن يتضاعف كل عشرين عاماً – على ما يقولون – إلى ما لا نهاية، بحيث يتعرَّض العالم إلى مجاعات رهيبة، ولا يبقى هناك موطئ قدم لأي إنسان جديد على وجه الأرض!!!
أمام هذه التوقعات المتشائمة يتسائل كثيرون عن رأي الدين في مسألة تنظيم الأسرة، وهل يعتبر هذا "التنظيم" تدخلاً في إرادة الله؟ أو معارضة للطبيعة الإنسانية؟ أو عدم إيمان بأن الله قادر أن يرعى أولاداً مهما كان عددهم؟ أما هو مجرد انخراط غير واعي للكنيسة في برامج الدولة في هذا المجال؟ وما هي الرؤية اللاهوتية المسيحية التي تعبّر عن رأي الكنيسة في هذه المسألة؟ إنها تساؤلات كثيرة حول قضية يومية وهامة.
نقلاً عن "قنشرين"