لنتأمل مع بندكتس 19 – 20 – 21 من أبريل

روما، السبت 19 أبريل 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي تأمل اليوم التاسع عشر من أبريل للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

 مياه الفصح

تمثّل المياه كل ما هو ثمين ونفيس على وجه الأرض. ومن خَبرَ العطش في يوم من الأيام يعرف حقيقة ذلك… لهذا السبب بالذات توقظ المياه فينا الحنين إلى الجنّة والخصوبة. ومرة جديدة، إن نقيض كل ذلك هو ما يخوّلنا أن نفهم على أكمل وجه روعة المياه وأهميتها. فقذارة النهار ووطأته يمّحيان حين نغتسل ونستحمّ فنخرج وضّائين جدداً كالمولودين الجدد… وما صليب المسيح سوى أقصى حدود تضحيته بذاته، قل ذروة الإستسلام حيث لا يتردد في بذل أي شيء، ولا حتى ذاته، بل تراه يسكب نفسه كلياً للآخرين. على الصليب إذاً فُضَّ الينبوع العجيب بحق الذي يتفجّر بذل ذات مطلق ومحبة حتى تقديم الذات من أجل الله. وتكمن كل قيمة المياه التي لا تُقدَّر بثمن فيها: إذ لها القدرة على التنظيف والخصوبة وكل ما من شأنه أن ينعش ويبهج ويقوّي. وفي العماد، يتدفق هذا النبع من صليب المسيح في الكنيسة جمعاء مثل تيّار عظيم فـ"يُفرح مدينة الله" (مز 46: 5). إنّا نستحمّ في هذا التيار فنولد مجدداً. فهو وحده يحوّل وحشة العالم إلى أرض خصبة؛ فحيث يكون البغض والأنانية، هناك تكون الوحشة، وحين يعمل روح المحبة حقاً يقوم ما هو بنّاء بحق. علينا ألا ننسى يوماً أن أثمن نبع في العالم يفيض من الصليب ومن الموت، أو بالأحرى من بذل الذات إلى أقصى الحدود.

 

العشرون من أبريل

تهليل الفصح

إن الغناء دليل على أن الشخص قد تجاوز حدود المنطق الصرف إلى نوع من النشوة، ذاك المنطق الصرف الذي يمكنه التعبير عنه بعبارات عادية (ولهذا السبب نرى الأشخاص المنطقيين أكثر من العادة نادراً ما يميلون إلى الغناء). ويجد الغناء ذروته في نشيد الهللويا، ذاك النشيد الذي فيه يبلغ جوهر كل أغنية وترنيمة ملء تجسده… فنحن هنا في الواقع إزاء أمر تستعصي ترجمته. فالـ"هللويا" هو ببساطة تعبير غير لفظي في الغناء عن فرح لا يستلزم كلمات لأنه يفوق كل كلام. وهو بذلك أشبه ببعض أشكال الإغتباط والتهلل التي نجدها عند الشعوب كافة، تماماً كما أن معجزة الفرح تتجلى في كل أمة… فماذا يعني أن نغنّي بتهلل؟ إنه يعني أن تعجز عن التعبير بالكلمات أو أن تعطي شكلاً لفظياً للأغنية التي ترقص في قلبك. فالحصّاد في الحقل أو في الكرم، إذ يعيش إحساس فرح عارم متزايد يعجز، على ما يبدو، عن إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن فرحه الفيّاض. فيتخلى عن الألفاظ والكلمات ويستحيل غناؤه تهليلاً أو هتاف ابتهاج. فالتهليل إذاً هو هتاف يدلّ على أن القلب يحاول أن يعبّر عمّا يعجز عن قوله. وبمن أكثر منه يليق هذا التهليل، وهو نفسه لا يوصف؟ هو لا يوصف لأن كلماتك لا تستطيع حصره واحتواءه… ونشيد الـ"هللويا" أشبه بأوّل بوح عمّا يمكنه لا بل سيحدث فينا يوماً ما، حين تغمر فرحة عارمة كياننا برمّته.

الحادي والعشرون من أبريل

الفصح والمستقبل

إن المستقبل الذي نصنعه لوحدنا وبقوتنا الخاصة وحيث يجعل الشخص البشري نفسه المقياس الوحيد لما هو إنساني لا يمكن إلا أن يكون مستقبلاً غير إنساني. من هذا المنطلق، يجب أن يكون واضحاً لنا أن وحده المستقبل الذي يُعطى لنا من عند الله هو مستقبل "إنساني". وبالتالي، علينا أن ننظر إلى الفصح باعتباره، ومن بين أمور أخرى، زمن تأمل في تاريخنا وفي ما يعنيه التاريخ من فداء واستعباد بالنسبة إلينا. يمكننا كذلك أن نحتفل بالفصح بوصفه يوم رجاء بالمستقبل. ولكن ما إن نتساءل حول ما يجب على رجاء الإنسان أن يكون، حتى لا يعود باستطاعتنا أن نوجه أنظارنا إلى الإنسان نفسه للحصول على الجواب، بما أن الإنسان يشكل خطراً إضافةً إلى الرجاء بالنسبة إلى ذاته… إن الإيمان بقيامة يسوع يشير إلى مستقبل بانتظار كل كائن بشري؛ فقد استجيب الصراخ من أجل حياة لا تنتهي الذي هو جزء من الإنسان. من خلال يسوع، أصبحنا نعرف "المكان الذي يحطّ فيه الحب المنفيّ انتصاره". إنه هو نفسه هذا المكان وهو يدعونا لكي نكون معه وفي حالة اتكال عليه. هو يدعونا كيما نبقي أبواب هذا المكان مفتوحة في العالم لكي يظهر هو، الحب المنفيّ، مجدداً مراراً وتكراراً في العالم. إذاً وباعتراف الجميع، لا يصحّ القول إن العالم "لا يُمَسّ". "أحداً لا يمكنه أن يجرح العالم، بل وحده سطح العالم يتعرّض للخدش"، بحسب الشاعر، ولكن مقابل كلماته تبرز صورة المسيح المصلوب ويقيننا بأن هذا العالم قادر على أن يثخن حتى إلهه بجراح مميتة. من جهة أخرى، ليس العالم أيضاً دمية تافهة بيَد الموت الشره. بل هو يقدّم فسحةً للحبّ المنفيّ، لأنه من خلال جروح يسوع المسيح المميتة