مسيحي حسب الظروف أم مسيحي من خلال الظروف ؟

}المتقلبين ابغضت و شريعتك احببت{ (مز  119 :  113)

اعتادت آذاننا على استقبال مثل هذه العبارات: (حسب الظروف، ظروف صعبة، ظروف حسنة، إلخ)

فما المقصود بهذه الظروف ؟ وهل لها علاقة بالإيمان ؟

يُقصد بلفظة (الظروف)، الدارجة على لسان الكثيرين، ظرفي الزمان والمكان ودورهما في الأحداث اليومية، وتأثيرهما الشديد على حال الإنسان: فقره وغناه، فرحه وحزنه، سعادته وشقائه …تلك التي قال عنها  بولس الرسول (الأحوال)  } الذي ارسلته اليكم لهذا بعينه لكي تعلموا احوالنا و لكي يعزي قلوبكم{ (اف  6 :  22)

المُشاهد أن كلمة (الظروف) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتعبيرات أخرى مثل: القسمة /النصيب، القضاء / القدر، الحظ / النحس، الصدفة…الخ.  تلقي هذه التعبيرات في أذهاننا ذات الدلالة التي تلقيها كلمة (ظروف)!انها تعبيرات تنسب التغيرات والاحداث إلى قوى فوق طبيعية وأحيانًا تنسب إلى الله سبحانه ! ونلاحظ فرقاً هاماً بينها وبين التعبيرات التي تعبر عن متغيرات إجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ( تغلّب، تفوّق، اجتاز، استطاع، مكافح، عصامي ، صبور، حكيم ، خلاّق، مبتكر، مجدد ، مصلح ،  ) فهذه تُنسب صراحة إلى قوٍ اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.

يؤمن البعض بأن القسمة / النصيب، و الحظ /النحس، والقضاء /القدر من عند الله، ومن ثمة تصبح الحياة مسرح عرائس! والبشر يمثلون عرائس تحركها على مسرح الحياة أصابعٌ حانية أحياناً وغاشمة غالباً، ولا مناص من الخضوع والاستسلام لمشيئتها ؟!

تختفي أمام هذا الاعتقاد صورة الله التي حدثنا عنها قديما كتاب التثنية : }  وقلتم هوذا الرب الهنا قد ارانا مجده و عظمته و سمعنا صوته من وسط النار هذا اليوم قد راينا ان الله يكلم الانسان و يحيا{ (تث  5 :  24)  وبعدما أجاب السيد المسيح بتجسده عن سؤال قديم: }   هل يسكن الله حقا مع الانسان على الارض هوذا السماوات و سماء السماوات لا تسعك فكم بالاقل هذا البيت الذي بنيت{ (2اخبار  6 :  18).

يتجاهل الاعتقاد في عبثية الحياة أو قدريتها صورة الآب المحب } كل شيء قد دفع الي من ابي و ليس احد يعرف الابن الا الاب و لا احد يعرف الاب الا الابن و من اراد الابن ان يعلن له{ (مت  11 :  27) ،  ولا يعود ينتبه إلى  وجه الله (الآب الحاني ) }كما احبني الاب كذلك احببتكم انا اثبتوا في محبتي{ (يو  15 :  9) الذي كشفه لنا يسوع المسيح: } الله لم يره احد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب هو خبر{ (يو  1 :  18)

 تختفي أيضا الصورة الحقيقية للإنسان مع اختفاء إرادته الحرة ( كابن). وهي أصل كرامته الإنسانية (البنوية ). وتظل الحياة في ظل هذه المعتقدات برنامجاً أُدرج على الحاسوب البشري،  يعمل وفق تصميم المُبرمج، ولا مفر من تنفيذ الأوامر. يقول الكتاب : } ترك الله الإنسان لمشورة نفسه{  ( سي 15/14)  لكي يتحدى الظروف ويحيا إيمانه من خلالها وعليه أن يختار إما الحياة وإما الموت: }  انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة و الخير و الموت و الشر {  (تث  30:  15)  و }الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق{ (يو17)

الاعتراف بحدود حرية الإنسان أمر في غاية الأهمية. فقد فُرضت على حرية الإنسان ( كل إنسان ) بعض الحدود أهمها حد ( الجسد ) : } لان كل جسد كعشب و كل مجد انسان كزهر عشب العشب يبس و زهره سقط { (1بط  1 :  24)

فجسد الإنسان من خصائصه انه قابل للألم و ويفنى بسبب آلاف الميكروبات والفيروسات. يمكن أن يقضي عليه أبسط الحوادث أو أصغر الحيوانات. يحيا الإنسان بجسده هذا في الزمان والمكان (الظروف): } الانسان مولود المراة قليل الايام و شبعان تعبا { (اي  14 :  1). ويصبح المسيحي مسيحياً حسب الظروف متى استسلم تماماً لها، مستترا بعباءة الدين والتدين الظاهري، وكأن الظروف أمر حتمي لا مجال لتغييره. لذا يصبح مسيحي فقط حسب الظروف ان كانت الريح مواتية.

عاش يسوع المسيح 33 عاما بكل (ظروفها) السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الدينية، إن ذلك لأمر حتمي حتى يكون مفهوم التجسد: ان الله عاش بيننا واختبر حياتنا. لم يتناسى او يتجاهل الظروف المحيطة به، و أيضا لم يستسلم لها! نسمعه يقول بحزم ووضوح وجذرية: } سمعتم أنه قيل لآبائكمأما أنا فأقول لكم { ( مت 21/48)

عاش يسوع ظروفه في نور علاقته بالآب وبهذه العلاقة استطاع أن يباركها زمانا كانت او مكان  ! لم يملك أية إمكانات مادية ولم يطلبها، ولم يملك أية إمكانات رمزية أو نفوذ أرضي ! فقط علاقته العميقة الدائمة بأبيه. وهذه العلاقة مكنته لا من تغيير الناصرة ( المكان ) وحدها بل العالم كله، لم يغير زمانه فقط بل كل ( زمان ). كان هدفه واضحاً: } لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء: ما جئت لأبطل بل لأكمل { (مت 5/17) وما كان قبل المسيح أمراً عادياً أصبح معه محل تساؤل من الضمير الإنساني!

تحدّى التلاميذ الزمان والمكان على مثال المعلم، وحملوا البشارة إلى أقاصي الأرض، في زمن قياسي .لم يكن لديهم من الإمكانات المادية شيء يذكر. فقط  تسلحوا بتلمذتهم للمسيح وشهدوا له شهادة حقيقية صادقة من خلالها واستثمروا قسوة الظروف ودجنوها لمجد الله. هل ذلك لمنفعة الله؟ حاشا! :}  هل ينفع الانسان الله بل ينفع نفسه الفطن{ (اي  22 :  2)

كل مسيحي هو بالحقيقة تلميذ ليسوع المسيح وقلبه يتنظر على رجاء ذالك اللقاء الذي تنتظره الكنيسة منذ فجر نشأتها:}  و قالا ايها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء ان يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء سياتي هكذا كما رايتموه منطلقا الى السماء{  (اع  1 :  11).

على الإنسان العاقل أن يقر بأهمية الدور الذي تلعبه الظروف في الحياة الإنسانية، ويعمل جاهداً : }   قد اخبرك ايها الانسان ما هو صالح و ماذا يطلبه منك الرب الا ان تصنع الحق و تحب الرحمة و تسلك متواضعا مع الهك{   (مي  6 :  8) مستثمراً كل وزناته حتى يوظف الظروف لما يوافق مجد الله.

خلق الله الإنسان من فيض حبه، }  فخلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا و انثى خلقهم{ (تك  1 :  27) ومنحه الحرية البنوية : }فاثبتوا اذا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها و لا ترتبكوا ايضا بنير عبودية{ (غل  5:  1)  أمام كل هذه النعم، يعد الإيمان بالقضاء والقدر والقسمة والنصيب إلخ ،إنكاراً لهذه البنوة المجانية: }كاحرار و ليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر بل كعبيد الله{ (1بط  2:  16) و هربًا من تحمل مسؤولية الأبناء، وكسلاً وتراخياً في استثمار الوزنات! عندها نسمع باستحقاق انتهار السيد له المجد: }  يا لك من خادم كسلان ! خذوا منه الوزنة واطرحوه خارجاً في الظلام. فهناك البكاء وصريف الأسنان{  ( مت25/26-30). إن كنا نحن المسيحيين، قد متنا مع المسيح وقمنا معه، يوم نلنا سر العماد المقدس، وجب علينا أن نزيل من قلوبنا وعقولنا أية صلة تربط الله سبحانه بمثل تلك الأفكار.

يقول الكتاب : }  يا أبنائي، أنتم من الله وغلبتم الأنبياء الكذابين ،لأن الله الذي فيكم أقوى من إبليس الذي في العالم. هم يتكلمون كلام فيسمع لهم العالم لأنهم من العالم .و نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن لا يكون من الله لا يسمع لنا .و بذلك نعرف روح الحق من روح الضلال{  ( 1 يو 4/4-6 ).

إن الله أبونا، ومشيئته دائماً خير}   فانك انت ابونا و ان لم يعرفنا ابراهيم و ان لم يدرنا اسرائيل انت يا رب ابونا ولينا منذ الابد اسمك{ (اش  63 :  16) الله محبة و لا شر في المحبة، }   ولا خوف في المحبة { (1يو4/18) هو الحاضر في كل زمان وفي أي مكان. }   و الان يا رب انت ابونا نحن الطين و انت جابلنا و كلنا عمل يديك{ (اش  64 :  8)  

نؤمن بالله لا بحسب ظروف هذا العالم ، بل نؤمن ونهتدي بالطريق والحق والحياة }  و الله نفسه ابونا و ربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا اليكم{ (1تس  3 :  11) ذاك} الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رايناه بعيوننا الذي شاهدناه و لمسته ايدينا من جهة كلمة الحياة  { (1يو  1 :  1) دائماً في حياتنا  }فاني واثق بان ملاك الله الصالح يصحبه ويدبره في جميع احواله حتى يرجع الينا بفرح{ (طوبيا  5 :  27)

نسأل الله أن يهبنا الضمير النقي}    طوبى لمن لم يقض عليه ضميره و لم يسقط من رجائه{  (سيراخ  14 :  2) و لنجاهد ثابتين على رجاء  }لكننا نشتهي ان كل واحد منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء الى النهاية{ (عب  6 :  11)القادر على اكتشافه في الواقع اليومي} لذلك انا ايضا ادرّب نفسي ليكون لي دائما ضمير بلا عثرة من نحو الله و الناس{ (اع  24 :  16)  موظفين الظروف لمجد الله، لانخاف شيئا }فرحين في الرجاء صابرين في الضيق مواظبين على الصلاة{ (رو  12 :  12)  ثم إعلان هذا الحضور كمسؤولية ابناء النور عن إعداد الملكوت، فنسعد بكلمات الوعد الخالدة:}  كنت أميناً على القليل أقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك{ (مت25/21).                                 

 

الأب متى شفيق

ميلبورن