عظة البطريرك صفير الأحد 20/4/08

بكركي، الإثنين 21 أبريل 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال  مار نصرالله بطرس صفير قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان : "توبوا وآمنوا بالانجيل".

"نتابع الحديث عن كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر: "يسوع الناصرة", ونرى اليوم كيف نودي بانجيل ملكوت الله، وما معنى لفظة انجيل، وهي تدل على شيء جديد، وكيف أن أباطرة الرومان كانوا يؤلهون ذواتهم، وأن ملكوت الله ليس شيئا بل شخصا وهو المسيح، وأن كلمة ملكوت لها ثلاثة أبعاد: مسيحاني، وصوفي، وكنسي. وان الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض. وأن الانسان مأخوذ بأعماله، وأن حسابه سيكون عليها، وليس على انتمائه الى جماعة معينة كما كانت تقول اليهودية.
انجيل ملكوت الله
بعد توقيف يوحنا المعمدان، ذهب يسوع الى الجليل ليعلن انجيل الله؛ وكان يقول:"لقد تم الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالانجيل". وبهذه العبارات أعرب الانجيلي مرقس عن بداية رسالة يسوع التبشيرية، وقد أعلن في الوقت عينه، عن محتوى رسالته الجوهري. واختصر متى أيضا بدوره نشاط يسوع في الجليل بقوله: "وكان يسوع يطوف كل الجليل، ويعلم في مجامعهم، ويكرز بانجيل الملكوت، ويشفي الشعب من كل مرض، وكل علة". يدل الانجيليان مرقس ومتى على تبشير يسوع على أنه "انجيل". ماذا يعني هذا في الواقع؟.
ان لفظة انجيل ترجمت اخيرا بعبارة "الخبر السار". وهي لها وقع حسن على الأذن، لكنها تبقى دون البعد الذي اخذته لفظة "انجيل". هذه اللفظة تشير الى لغة الأباطرة الرومان الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أسياد العالم، ومنقذيه، ومفتديه. وكانت رسائل الأمبراطور تحمل اسم "انجيل"، بقطع النظر عن محتواها، مفرحا كان أو مقبولا. والفكرة الكامنة تحت ذلك كانت أن ما يصدر عن الأمبراطور هو قضية خلاص، وليس خبرا بسيطا، بل تحويل للعالم يذهب في اتجاه الخير.
واذ كان الانجيلون عادوا الى استعمال هذه الكلمة، التي أصبحت بعد ذلك اسما عاما يدل على كتاباتهم، لأنهم يريدون أن يقولوا ان الأباطرة الذين كانوا يريدون أن ينظر الناس اليهم نظرتهم الى آلهه، على ما يزعمون خطأ، قد تحقق ذلك هنا في الواقع: أي ان رسالة معطاة بكل سلطة، هي واقع وليست خطابا بسيطا. وفي اللغة الحالية بحسب النظرية اللغوية، هناك من يزعم ان الانجيل لا يمت بصلة الى الخطاب الاخباري، بل الى الخطاب الواقعي، وانه ليس فقط تواصليا، أي مجرد نقل خبر، بل عمل، وقوة فاعلة تدخل العالم بالعمل على خلاصه، وتغييره. ان مرقس يتحدث عن "انجيل الله": ان الله هو من له القدرة على خلاص العالم، وليس الأباطرة. والمقصود هنا كلمة الله، التي هي كلمة، وفي الواقع فعل. فهي تحدث واقعا ما لا يقوى الأباطرة الا على تأكيده، دون أن يملكوا القدرة على تحقيقه. ويدخل هنا في ميدان العمل سيد العالم الحق:الله الحي.
ان رسالة "الانجيل" المركزية، هي ان ملكوت الله أصبح قريبا. غير أن هناك فاصلا زمنيا، وان شيئا جديدا يتحقق. وجوابا على هذه الهبة، يطلب من الناس الارتداد والايمان. وفي قلب هذا الاعلان، نجد رسالة اقتراب ملكوت الله، الذي يشكل في الواقع نواة الكلمة، ونشاط يسوع. وهناك عنصر يتعلق بالاحصاء يثبت ذلك: ان عبارة "ملك" أو "ملكوت الله" وردت مائة واثنتين وعشرين مرة في العهد الجديد، منها تسعة وتسعون مرة في الأناجيل الثلاثة الأول، (أي متى ومرقس ولوقا)، وتسعون مرة منها تتطابق وكلمات نطق بها يسوع. وفي انجيل يوحنا وسائر كتابات العهد الجديد، لهذه العبارة دور هامشي. ويمكن القول ان يسوع اذا كان قد اراد أن يركز تبشيره قبل زمن الفصح على رسالة ملكوت الله، فان التركيز على شخصية المسيح هو في وسط التبشير الرسولي اللاحق لزمن الفصح.
ولكن هل هذا يعني التخلي عن الاعلان الحقيقي الذي نادى به يسوع؟ وهل من الحق القول، كما فعل بلتمان، أن يسوع التاريخ ليس له مكانه في لاهوت العهد الجديد، بل يجب اعتباره معلما يهوديا يجب احتسابه في ما بين الفرضيات الجوهرية للعهد الجديد، دون أن يكون جزءا منها شخصيا؟.
وهناك بديل آخر عن هذه المفاهيم التي تحفر خندقا بين يسوع والتبشير الرسولي، وهو بديل يرتسم في جملة نطق بها الفرد لوازي، المستحدث الكاثوليكي المعروف، وهي: أن يسوع كان يبشر بالملكوت، ولكن الكنيسة هي التي جاءت". يمكننا أن نرى هزءا في كلامه، وأيضا حزنا: وعوضا عن ملكوت الله المنتظر بفارغ الصبر، والعالم الجديد الذي غير الله عينه، جاءنا شيء مغاير تماما، وكم هو تعيس: الكنيسة.
هل هذه النظرة الى الأشياء صحيحة؟ هل ان تكوين المسيحية في تبشير الرسل، في الكنيسة التي بنتها، يعني في الواقع سقوط انتظار شيء آخر لم يتحقق؟ هل الانتقال من موضوع "ملكوت الله" الى موضوع "المسيح" (مع ما يقابله مجيء الكنيسة) يشكل حقا انهيار وعد وظهور شيء آخر؟.
كل شيء يتعلق بالطريقة التي نفهم بها كلمة يسوع المتعلقة "بملكوت الله"، والعلاقة في ما بين ما يعلنه وبينه، هو الذي يعلن ذلك: هل هو فقط رسول عليه أن يدافع عن قضية في النهاية مستقلة عنه، أو ان حامل الرسالة هو عينه هذه الرسالة؟ والقضية الهامة ليست قضية الكنيسة، بل قضية العلاقة بين ملكوت الله والمسيح: وفي الجواب على هذه المسألة، تتعلق الطريقة التي تمكننا من أن نفهم الكنيسة.
وقبل أن نتعمق أكثر في كلام يسوع لنفهم رسالته -عمله وآلامه- من المفيد أن نتفحص في ايجاز مختلف مفاهيم كلمة "ملكوت" في تاريخ الكنيسة. وفي امكاننا أن نميز لدى الآباء ثلاثة أبعاد في تفسير هذه اللفظة الأساسية.
البعد الأول هو البعد المسيحاني. لقد سمى أوريجانس يسوع- انطلاقا من قراءة عبارات هذا الأخير- الملكوت بالذات شخصيا. يسوع هو عينه "الملكوت" . فالملكوت ليس شيئا، وليس مساحة سيادة على شاكلة ممالك الأرض.أنه شخص، وهو المسيح، وعبارة "ملكوت الله" قد تكون هي ذاتها عقيدة مسيحانية مغلفة. ان يسوع، في الطريقة التي يتحدث فيها عن ملكوت الله، يقود الناس الى الواقع الخطير، وهو أن الله حاضر فيه بين الناس، وأنه هو حضور الله بالذات.
وهناك تفسير ثان يعني أن "ملكوت الله" يمكننا أن نسميه تفسيرا "مثاليا" أو أيضا صوفيا؛ وهذا التفسير يعتبر أن ملكوت الله قائم أساسا في داخل الانسان. وان أوريجانس هو الذي دشن أيضا هذا النوع من التفسير. وفي مؤلفه عن "الصلاة"، يقول: "واضح أن الذي يصلي ليأتي ملكوت الله، يصلي في حق لكي ينهض فيه، ملكوت الله، ويثمر، ويكتمل. ان الرب يسكن في جميع القديسين الذين ملكهم الله (أي ان سيادة الرب موجودة، أي ملكوت الله)… ان الرب يسكن كما في مدينة مدارة جيدا…واذا كنا نريد أن يملك الله علينا اذن، ( وأن يكون ملكه فينا)، فلا تملكن الخطيئة أبدا على جسدنا المائت"… والرب يتمشى في الجنة كما في جنة روحية. وهو وحده يملك علينا مع مسيحه. ( ليكن ملكوته فينا). الفكرة الأساسية واضحة: ليس "ملكوت الله" نقطة على خريطة جغرافية، وهو ليس مملكة على مثال ممالك الأرض؛ ومكانه هو باطن الانسان. وهناك يكبر، ويعمل انطلاقا من ذلك المكان.
البعد الثالث في تفسير ملكوت الله هو ما يمكننا أن نسميه كنسيا: فهو يضع على صلة، تحت أشكال مختلفة، ملكوت الله والكنيسة، وبين الاثنين علاقة أكثر ما تكون قربا.
وان هذا التفكير الأخير، على قدر ما يمكنني أن أحكم على ذلك، قد تقدم على سواه، خاصة في لاهوت العصر الحديث الكاثوليكي، ولو كان التفسير الذي اتخذ اتجاها الى باطن الانسان، وأن علاقته بالمسيح لم تغب تماما. ولكن في لاهوت القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين، كان الكلام يتركز على الكنيسة بما أنها ملكوت الله على الأرض؛ وكانت تعتبر الكنيسة تحقيقا لملكوت الله في صميم التاريخ. غير أن فلسفة الأنوار، في الوقت عينه، أثارت لدى اللاهوت البروتستانتي انقلابا في التفسير الكتابي، أدخل، في وجه خاص، تفسيرا جديدا لرسالة المسيح المتعلقة بملكوت الله. غير أن هذا التفسير الجديد ما لبث أن انقسم انقسامات عديدة.
ان أدولف هرناك، الممثل لللاهوت الحر في مطلع القرن العشرين، كان يرى في اعلان يسوع ملكوت الله ثورة مزدوجة بالنسبة الى يهودية العصر. وفيما كان كل شيء في اليهودية مركزا على الجماعة، وعلى شعب الله المختار، جاء اعلان يسوع حصرا افراديا: ان يسوع توجه الى الفرد واعترف بقيمة الفرد اللامتناهية، وجعل منها أساس تعليمه. وهناك مسالة ثانية مختلفة لدى هرناك. في نظره، ان ما ساد في اليهودية، انما هو الوجه الطقوسي (ومعه في التالي الطبقة الكهنوتية)، فيما ان يسوع قد وضع جانبا الناحية الطقسية، ووجه رسالته، من وجه الضبط، شطر الناحية الأدبية. وما فكر بقضية التطهير والتقديس الطقوسي: أي مسلك الشخص الأدبي، وأعمال المحبة لديه، هذا ما يقرر دخوله ملكوت الله أو أقصاءه عنه.

لا يفهم المسيح كما هو الا المسيح. أما نحن معشر البشر المؤمنين، فنحاول أن نفهم ما في امكاننا أن نفهم قدر المستطاع، وهو الذي يجود علينا بنعمة الفهم. فلنطلب اليه دائما أن يجود علينا بالقدرة على فهم ما نستطيع من أسراره وكيانه.
وقد جاءنا في بحر الأسبوع الفائت عدد من موظفي شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، وشكوا أمرهم، وطلبوا الينا أن نقوم بوساطة للحيلولة دون انتقال هذه الشركة الى أيد غير لبنانية، وهذا ما قد يعرضهم الى خسارة مواقعهم.
اننا نناشد المسؤولين النظر في أمرهم، لكيلا يزداد عدد الشاكين في لبنان. وما أكثرهم في هذه الأيام. أخذ الله في يد المسؤولين".