عظة البطريرك صفير 28/04/08

بكركي، الاثنين 28 أبريل 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير التي القاها خلال الاحتفال بالذبيحة الإلهية في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان "وأنتم شهود على ذلك".

 "بعد أن قام السيد المسيح من الموت، ظهر لتلاميذه وهدأ روعهم وأراهم يديه ورجليه، وأكد لهم أنه هو، وطلب اليهم شيئا يؤكل فقدموا له قطعة من سمك مشوي ومن شهد عسل، وقال لهم أن ما حل به كان قد كتب عنه في التوراة، وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب وأكد لهم ارساله الروح القدس الذي كان أبوه وعدهم به.ونواصل الحديث عن أنجيل ملكوت الله كما ورد في كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر، وهو يتحدث عن آراء بعض اللاهوتيين البروتستانت في المسيح، وعن الملكوت الذي سيسوده السلام والعدالة.هذا التضاد بين العبادة والأخلاق، بين الجماعي والفرد، قد أشعر أن له نتائج على مدى طويل. ومنذ حوالي الثلاثينات استعاده شراح الكتاب المقدس الكاثوليك ذواتهم. لدى هرناك (وهو لاهوتي بروتستانتي لوتاري)، هذا التضاد كان مرتبطا بالمعارضة بين الصيغ المسيحية الثلاث الكبرى، المسيحية الكاثوليكية، واليونانية – السلافية، والبروتستانتية الألمانية.

  وبحسب هرناك، ان البروتستانتية الألمانية قد أعادت رسالة المسيح الى نقائها. أي انه في بروتستانتيته ظهرت مواقف متناقضة: ان موضوع الوعد ليس الفرد في حد ذاته، بل المجموعة، وبما أن الفرد هو أحد أفراد هذه المجموعة، فهو ينعم بالخلاص. وليس المهم ما يقوم به الانسان على الصعيد الأدبي، ذلك أن ملكوت الله يقتطع مركزا "أبعد من الأخلاق، ويتعلق تعلقا وثيقا بالنعمة، على ما تظهر ذلك الوليمة التي جالس فيها يسوع الخطأة".انتهى عصر اللاهوت الكبير المتسامح مع الحرب الكونية الأولى، وانتهى معه تغييرالمناخ الروحي الأساسي الذي تبعه. ولكن العلامات التي كانت تبشربالانقلاب كانت سابقة. وأول علامة كانت كتاب يوهانس وايب عن يسوع الذي ظهر سنة 1892. وأول أعمال تفسير للكتاب المقدس لألبرت شوايزر اتخذت هذا المنحى: وقد شاع القول ان رسالة يسوع تتعلق أصلا بأواخر الدنيا، وأن اعلانها اقتراب ظهور ملكوت الله يعني أنها تعلن اقتراب نهاية العالم, وبروز عالم جديد لله ولربوبيته على وجه التحديد. واعلان ملكوت الله يجب أن يفهم من ناحية نهاية العالم على وجه الضبط. ولكن النصوص التي تخالف هذه النظرية فسرت بهذا المعنى، على الرغم منها، اذا جاز التعبير، كما هي الحال مع أمثال النمو كمثل الزارع، ومثل حبة الخردل، ومثل الخميرة، ومثل الزرع الذي ينبت منه لذاته.

  وهناك من راح يقول ان المهم ليس النمو، وان معنى كلام يسوع هو هذا: ان ما هو موجود الآن، انما هو الواقع الوضيع، لكن الواقع الأخر سيظهر فجأة، مرة واحدة. وواضح هنا أن النظرية تقدمت الأمانة للنص. وبذل مجهود كبير لترجمة هذه النظرية الأخروية المداهمة في الحياة المسيحية اليوم، التي هي غير مفهومة توا بالنسبة الينا. ان بولتمان مثلا استعان بفلسفة مارتين هايداغر:اما ما له قيمة انما هو الموقف الوجودي، اي الاستعداد الدائم. وقد فسر، بعد ارنست بلوك، وجورجن مولتمان، لاهوت الرجاء الذي رمى الى ترجمة الايمان على أنه التزام ناشط في بناء المستقبل.وفي هذه الفترة تطور، في دوائر واسعة لاهوتية، وخاصة في الوسط الكاثوليكي، تفسير علماني لمفهوم "الملكوت" الذي يطور رؤية جديدة للمسيحية، والأديان والتاريخ على وجه العموم، والذي بواسطة هذا التغييرالعميق، يدعي أنه يقرب من الأفهام ما يعتبر أنه رسالة المسيح. وقد أمكن القول انه قبل المجمع (المسكوني الفاتيكاني الثاني)، كانت تسود المركزية الكنسية: وقد صورت الكنيسة على أنها مركز المسيحية. وبعد ذلك صار الانتقال الى تصوير المسيح على أنه مركز الكون وكل شيء. ولكن هناك من قال ان الكنيسة لا تقسم وحسب، بل المسيح أيضا، لأنه يخص المسيحيين دون سواهم. ومن المركزية المسيحية، صار الانتقال الى المركزية الالهية، والاقتراب شيئا فشيئا، بهذه الطريقة، من جميع الأديان.

  ولكن، على الرغم من ذلك، لا يصير، بهذه الطريقة، الاقتراب من الهدف، لأن الله عينه هو عنصر انقسام ممكن بين الأديان والناس.يجب الآن اجتياز الخطوة التي تقود الى الوسط المركزي، الى سمة الملكوت المركزي. وفي النهاية، هذا كان قلب رسالة المسيح، وهو يشكل الطريق القويم الى جمع القوى الوضعية للبشرية، في المسيرة نحو مستقبل العالم. "الملكوت" يدل اذ ذاك ببساطة على عالم حيث يسود السلام، والعدالة، وحيث يحفظ الخلق. وليس من أمر آخر. وهذا "الملكوت" يجب أن يتوطد بوصفه غاية التاريخ، ورسالة الأديان الحق، وان يعيش كل منها هويته،انما مع المحافظة على ما لها من هويات مختلفة، وعليها أن تتعاون من أجل عالم يكون فيه السلام، والعدالة، واحترام الخليقة أمرا حاسما.الفكرة تبدو جذابة: وفق هذه النظرية، ويبدو ممكنا للجميع هضم رسالة المسيح دون القيام بعمل تبشيري في اتجاه الأديان الأخرى. ويبدو أن كلمة المسيح قد اتخذت، أخيرا وحاضرا، محتوى عمليا. ويبدو أن تحقيق "الملكوت" هو المهمة المشتركة، وتصبح بالتالي قريبة. ولكن، عندما ننظر الى ذلك عن قرب، نقع في حيرة: من سيقول لنا اذن ما هي العدالة؟, ومن سيقول لنا ما الذي يخدم العدالة عمليا في موقف معين؟, ويقول لنا بأية طريقة ننشر السلام؟, ولدى مراقبة اكثر انتباها، يبدو كل هذا العرض وهميا دونما مضمون واقعي، الا اذا استدعينا، دون أن نقول ذلك، العقائد الحليفة التي يجب أن تحدد محتوى هذه المفاهيم التي ينبغي أن يتقبلها كل من الناس. ولكن ما نتحققه خاصة، هو أن الله غاب، وان الانسان وحده هو من يعمل. واحترام التقاليد الدينية ليس سوى أمر ظاهري. وفي الواقع، انا ننظر اليها كمجموعة عادات يجب أن تترك للناس، ولو لم يكن لها، في نهاية المطاف، أدنى أهمية. الايمان، والأديان، تجد ذاتها أنها أدوات في سبيل غايات سياسية. وتنظيم العالم، هو ما يؤخذ وحده بالحسبان. وليس للأديان من أهمية الا بقدر ما يمكنها أن تخدم ذلك. وانه لمقلق حقا ان نرى كم هذه الرؤيا الى الايمان والدين التي جاءت بعد المسيحية، هي قريبة من تجربة يسوع الثالثة.

 ولنعد الى الأنجيل، والى يسوع الحقيقي. وان النقد الجوهري الذي وجهناه الى هذه الرؤيا الدهرية والوهمية، رؤيا الملكوت تعني أن الله قد غاب. وقد أصبح لا فائدة منه، لا بل أصبح مزعجا. ولكن يسوع أعلن ملكوت الله، وليس ملكوتا مبهما. ومتى من جهته يتحدث عن "ملكوت السماوات"، والحال ان كلمة "السماوات" هي مرادف كلمة "الله"، لأن في اليهودية، اذا أخذنا في الاعتبار الوصية الثانية، يحاذر المرء استعمال هذه الكلمة احتراما للسر الالهي. وفي التالي، ان عبارة "ملكوت السماوات" لا تنادي الا بشيء يتعلق بما وراء هذه الحياة فقط، ولكنها، تحيل الى الله الذي هو معا على الأرض وفي السماء، والذي هو جزء من عالمنا الذي يتسامى فوقه من دون حدود.ان التعليق اللغوي له، مرة أخرى، أهميته: ان الأصل العبراني لكلمة ملكوت هو "اسم عمل، ويحيل- ككلمة ملك اليونانية – الى ممارسة الملك سيادته، والى شخصه السيدي". فلا يتعلق الأمر "بملكوت" سيأتي، أو سيتوطد، بل بسيادة الله على العالم الذي يصبح واقعا في التاريخ بطريقة جديدة.وبوضوح أكبر، يمكننا القول: ان يسوع عندما يتكلم عن ملكوت الله، أي الله الحي، الذي في استطاعته أن يفعل بطريقة حسية في العالم والتاريخ، والذي يفعل فيه الآن، فهو يقول لنا: ان الله موجود. وأيضا: ان الله هو حقا الله، أي انه يقبض بيديه على أعنة العالم. وبهذا المعنى، ان رسالة يسوع هي بسيطة. انها تدور فقط على الله. والفحوى الخاص الجديد برسالته هو ان الله يعمل الآن- وقد أتت الساعة التي يكشف فيها عن ذاته في التاريخ كسيد له، وكاله حي، وهذا ما يفوق كل ما عرفناه حتى الآن. ولهذا السبب، ان ترجمة "ملكوت الله" هي غير كافية، وأنه من المستحسن أن نتكلم عن سيادة الله، أو عن ربوبية الله.

وعلينا الآن أن نحاول أن نحدد، انطلاقا من محيط رسالة المسيح التاريخي، ما تخفيه هذه الرسالة عن "الملكوت". ان الاعلان عن ربوبية الله تقوم ككل رسالة المسيح، على العهد القديم، الذي يقرأه في حركته المتنامية، منذ البدء مع ابراهيم حتى ساعته، كواقع يقود توا نحو يسوع، عندما نتفهم كلية الحركة.هناك أولا المزامير المدعوة مزامير التنصيب التي تعلن ملك الله، وهو ملك في مفهومه الكوني الشامل، في وقت معا، الذي تقبلته اسرائيل في العبادة. منذ القرن السادس، أمام الفواجع التي أصابت اسرائيل في التاريخ، ان ملك الله هو التعبير عن الرجاء في المستقبل. في كتاب دانيال، في القرن الثاني قبل المسيح، أثيرت مسألة سيادة الله في الوقت الحاضر، ولكن هذا الكتاب يبشرنا برجاء مستقبلي تصبح فيه صورة "ابن الانسان" مهمة، التي كان عليها أن تأتي بالربوبية. في اليهودية المعاصرة للمسيح، نجد مفهوم سيادة الله في عبادة مجمع أورشليم، وفي طقوس المجمع. ونجده في الكتابات الربينية وفي مخطوطات قمران (التي نبشت اخيرا في البحر الميت). ان اليهودي التقي يصلي كل يوم ويردد: "اسمع يا اسرائيل" ان الرب ألهنا هو الوحيد. عليك ان تحب الرب الهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك". وتلاوة هذه الصلاة كانت تعني أخذ المؤمن على عاتقه نير سيادة الله الذي يدخل هكذا العالم بفعل الذي يصلي والذي يحمله، والذي بتحديده بالصلاة طريقة حياته، وصفته اليومية، يكون حاضرا في مكان محدد في عالم المستقبل.  ان قراءة هذه الفصول من كتاب يسوع الناصري يقتضي لها تمهل وتفكير وصلاة.