وطن السيد المسيح موطننا الجريح

هذه السطور مهداة الى كل فلسطيني وكل عربي وكل مسيحي وكل مسلم وكل محبّ للسيد المسيح! وبصواب صرخ الملك داود، بعد أن سيطر عسكريا على مدينة "يابوس" ونصّبها عاصمة له (نحو سنة ألف قبل الحساب الميلادي) لانها ما كانت تابعة لاي سبط من الاسباط وبسبب موقعها الاستراتيجي: "اذا نسيتك يا أورشليم (وهي في الاصل: أور شالم) فلتنسني يميني" (136 : 5).  ويلحظ المرء أن "تنسني" هي في الكنعانية "تشكاح"، في حين ان "تشلّ" هي "تكحاش". فليصب الشلل يميننا اذا نسينا المدينة المقدسة التي شهدت الفداء  والقيامة السيدية المجيدة والصعود السعيد والعنصرة أي ميلاد الكنيسة حيث "ولدت كل الشعوب".

 

وطن السيد المسيح الذي يسكن فينا!

   السيد المسيح حيّ وهو يسكن فينا وسيعود عند قيام الساعة حكما مقسطا "ليدين الاحياء والاموات"وقد تختلف التقاليد حول بعض تفاصيل عودته، ولكن لا شكّ في هويّته: انه ابن مريم العذراء (ولا يحقّ لغيره أن يحمل لقب  "المسيح") وقد مسحته الطبيعة الالهية التي حلّت فيه جسديا (عن قولسي 2 : 9) "بروح القدس والقوّة": نبيّا وكاهنا وملكا. انه صانع المعجزات ومقيم الموتى وأمير السلام الذي رفض العنف وان كان اتضع وتقبّل أن يسحقه عنف خصومه حينا ولكنه تغلب على الموت بقيامته اذ "رفعه الله اليه". المسيح يسكن فينا ووطنه يسكن فينا، ولعلّ المرء يقدر أن يقول في فلسطين ، من أقصى شمالها الى أقصى جنوبها متخطيا انقساماتها "الادارية"، ما قاله قداسة البطريرك شنودة الثالث في مصر موطنه: "ليست مصر وطنا نسكن فيه (فقط) بل هي وطن يسكن فينا!" وطن المسيح وطننا، ووطننا هو وطن المسيح! لذا هو وطننا مرّتين!

 

أرض كنعان ومقاطعة فلستيا

   ألاصل القومي الجغرافي الطوبوغرافي هو "كنعان"، وقد تعني اللفظة "السهل " أو "الخاضع المنبطح" (ولعلّها أيضا اشارة الى السهول) وقد تعني "الارجوان" – وتقابلها اللفظة اليونانية "فوينكس" اذ اشتهر الكنعانيون – والفينيقيون من كنعانيي الشمال- بتلك التجارة. ونجد في سفر زكريا (14 : 21) ان لفظة "كنعاني" أصبحت مرادفة ل "تاجر". وقد يجوز فهم الاية "لا يكون من بعد كنعاني (تاجر) في بيت رب الجنود في ذلك اليوم"  بمعنى انها تمّت عندما طرد السيد المسيح التجّار والصيارفة من الهيكل السليماني الهيرودسي.

   وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد "غزت" أرض كنعان "شعوب البحر" قادمة من اقريطش (أي كريت في جنوب اليونان). وأشار اليها السكّان المحليّون بأنها "فلشط" أي "غازية" واستقرّت في السهل الساحلي في خمس مدن-دُوَل على النمط الاغريقي ثلاث على الساحل : غزّة وأشقلون وأسدود ، وعقرون (على ستّة أميال من الداخل) و"جت" بين تلال الارض المنخفضة. لذا ، لا تعني لفظة "فلسطين" في الكتاب المقدس الاّ السهل الساحلي بمدنه الخمس. أمّا اسم فلسطين الحالي فيعود الى زمن الرومان الذين ، وان احتلّوا هذه الديار سنة 63 قبل الحساب الميلادي، غير انهم ما حوّلوها الى مقاطعة رومانية الاّ في عهد الامبراطور  هدريانوس اسبباني الاصل الذي دعى المقاطعة كلّها "فلسطينا" نكاية بالعبرانيين وتوسيعا لارض الفلستيين. ويمكن أن يعطي المرء هنا مثل "هولندا" وهي فقط احدى مقاطعات ال"نيدرلاند" ("البلاد المنخفضة") الذي يُطلَق على البلاد المنخفضة بأسرها أي ان اسم مقاطعة يعطى البلاد كلّها.

   هذه بعض جذورنا التاريخية الاثنوغرافية التاريخية الجغرافية في اليلاد التي قدم اليها أحفاد ابراهيم الخليل من قوم يعقوب الذي "كان آراميّا تائها". ونعلم باقي التاريخ حيث أنعم الله بالوحدانية على ابراهيم خليله ونسله. وتمّ ملء الزمان  عندما وُلد المخلّص المسيح في بيت لحم من العذراء مريم دائمة البتولية سلطانة الاراضي المقدسة، الفريدة الوحيدة، المباركة في المساء "المصطفاة المطهّرة على نساء العالمين"! وكما ولد السيد المسيح في بيت لحم، حفيدا لداود الملك النبي، ولدت الكنيسة من جنبه المطعون بحربة الروماني على تلة الجلجلثة، ويمكن تحديد ميلاد الكنيسة الرسمي يوم "شبوعوت" أو "العنصرة" (وهي كلمة آرامية تعني "التجمّع") في العلية، في زهرة المدائن، عروس ايماننا المسيحي "مدينة الملك العلي وبهجة الارض كلّها". ولا ينسى المرء الناصرة، مدينة البشارة  بميلاد المخلّص بقوّة الله، بحفظ بتولية والدته الطهور، الناصرة حيث نشأ السيد المسيح وترعرع وعمل نجّارا قبل أن يرتقي على الخشبتين عرشا للحب والتضحية والفداء. وفعلا، عرفته ملفّات التاريخ بأنه "الناصري".

   يوما قدم الى المدينة المقدسة -في القرن التاسع عشر- كاتب فرنسي ملحد، أحسبه بيير لوتي- اقتحم احدى الكنائس وصرخ مستحضرا يسوع: "أيها الناصري، أين أنت؟" وما كان يعلم ان الناصريّ في قلب هذه الارض كلّها وانه في وجدان كل انسان مؤمن صالح وانه يسكن قلوب المساكين والمظلومين، أمثال شعبنا الفلسطيني المشرّد المعذّب وسائر الشعوب المقهورة! ولعلّ تحدّي الفرنسي الملحد يذكّر باعلان أحد روّاد الفضاء الكفريين  الجهّال: "وصلت الى القمر ولم أجد الله!" وهو لا يدري أن الله ليس تحت تصرّف المتحدّين المتغطرسين، وان كان في حكمته تعالى يشاء أن يبهر عقولهم بالبيّنات.

 

من "الوطنية" الى "الوثنية"

\"\"

   ان الولاء للوطن -وبالذات لهذه الارض الطهور  التي هي وطننا مرّتين- أمر محمود يسير في خطى السيد المسيح  الذي أحب موطنه وحزن ان "لا كرامة لنبي في وطنه" وذرف الدمع الساخن على المدينة المقدسة التي "ما عرفت زمن افتقادها"، وذكر كلمات المزمور عنها: "ان عبادك، يا رب، أحبّوا حجارتها، وقد أخذتهم الشفقة على أطلالها"، وقد بكاها ارميا النبي ابن عناتوت (عناتا): "كيف جلست وحدها المدينة كثيرة الشعب، صارت كأرملة العظيمة في الامم، سيّدة البلدان صارت تحت الجزية؟" ( المراثي 1 : 1).

   ويجدر هنا أن يحذّر المرء من خطر "الغوغائية" و"مسح الجوخ" واداء "ما لقيصر لقيصر" من غير أن يقدّم المرء "لله ما لله". نعم، هنالك خطر -عند بعض "المسيحيين" الذين المّ بهم "مركّب النقص" أو "عقدة الاقلية" أن يبيّنوا أنفسهم "وطنيين" من غير انتماء للمسيح ولا للمسيحية، ناسين ان أول مواطن لهم هو ابن العذراء الناصرية الناصري التلحمي الطبراني يسوع وان شعار وطنه هو الفداء والقيامة! هنالك خطر التخلّي عن عقائدنا ورموزنا المسيحية في سبيل ارضاء نزعة "علمانية" أي وثنية لامبالية، ولا يستقيم  احترامنا لعقائد غيرنا من الاحباء ومقدساتهم ورموزهم من غير احترام لمقدساتنا وعقائدنا ورموزنا، اذ في هذا الوطن "تعانقنا هلالا وصليبا" ونرفض الفتنة التي هي "أشدّ من القتل".

   ونحن واعون أننا لن نحظى بالاحترام اذا خنّا -مثل يهوذا- مسيحنا وكنيستنا ومقدساتنا أو اذا انركنا السيد المسيح -مثل بطرس في أول عهده، أو هربنا من مسؤولياتنا المسيحية والوطنية، مثل معظم الرسل عند القبض على المعلّم الناصري الوديع متواضع القلب!

 

"أحبّك أيتها الارض المقدسة!"

   أحبّك لا بالقول فقط بل بالفعل أيضا، وبالصمود والتضحية والتضامن! أحبّك ونصب عينيّ الاباء والانبياء، والاباء والاجداد! أحبّك وأنا  بعين البصيرة أو عين البصر "أعانق الكنائس القديمة وأمسح الحزن عن المساجد"! أحبّك يا ناصرة الجليل ويا بيت لحم المهد ويا قدس الاقداس! أحبّك ايها الشعب الفلسطيني الذي ما أنصفه التاريخ! أحبّك أيها الشعب العربي، من المحيط الى الخليج، الذي جمع بلسان الضاد "قبائل وشعوبا لتعارفوا" في سبيل بناء المحبة التي نادى بها يسوع الناصري! أحبّك أيتها البتول فخر النساء مريم، سلطانة الاراضي المقدسة، البتول الوالدة! أحبّكم يا شهداء أرض الفداء! يوا سيّد هذه البلاد، ما عليها ملك سواك، لا قيصر ولا هيرودس، "فليأت ملكوتك"،"في اورشالم ويهوذا والسامرة والجليل، والى أقاصي الارض". آمين!

 

 عن موقع ابونا