المؤمنون في مجتمع اليوم

جمعية الصعيد للتربية والتنمية

 

محاضرة للكاردينال

 جان لوي توران

 

 محاضرة حول : المؤمنون في مجتمع اليوم

للكاردينال جان لوي توران

 

   الأصدقاء الأعزاء

   يسعدني أن أكون حاضرا معكم هذا المساء في قلب عاصمة بلدكم الكبير ملتقي الحضارات والأديان حيث منذ قرون تعلم كل إنسان أن يحيا تحت نظر الله0

 

   في شهر يونيو الماضي أولاني قداسة البابا  بندكتوس السادس عشر مسئولية المجلس البابوي للحوار بين الأديان حيث سبقني في هذه المهمة مسئولون اهتموا بلقاء القلوب واحترام قناعات كل شخص , وكان احدهم ممثل قداسة البابا في مصر سيادة القاصد ألرسولي المطران مايكل فيتز جيرالد الذي أحييه من كل قلبي . وسأعمل في السنوات القادمة علي أن استثمر علي الوجه الأفضل الميراث الذي حصلت عليه منهم 0

 

   يسعدني أن تكون رحلتي الرسمية الأولي هي القاهرة حيث يعيش المسيحيون منذ القرون الأولي للمسيحية بجانب أخوتهم المسلمين وهم معا مدعوون لخلق النسيج الرائع للالتقاء والحوار . وأنا موجود هنا هذه الأيام لتكملة  ودعم هذا الإطار الودي من العلاقات بين الأديان . ففي كل سنة تجتمع اللجنة المشتركة للحوار بين الأديان الموحدة بالله مرة في القاهرة ومرة في روما وقد قمنا في الأيام الأخيرة بحوارات مفيدة مع لجنة الحوار الدائمة في الازهر0

   ارغب هذا المساء في مشاركتكم بعض القناعات حول معني حضور المؤمنين في المجتمع . لا ينبغي أن نشك في هويتنا ولا في مكاننا في المجتمع حيث نعيش كمواطنين كاملي الأهلية وحيث يوجد مؤمنون علي أي وجه من الوجوه يوجد أفضل مكان للحياة لهم ففيه زرعهم الله لكي يأتوا بثمر0

 

   المؤمنون والمجتمع والحوار بين المؤمنين هما من الموضوعان المعاصرة وبالفعل أصبح موضوع الدين يهم الناس وأنا حين أسافر عبر المطارات ألاحظ بسرور العدد الكبير من المجلات والكتب التي تتناول موضوعات دينية .لم يكن الحال هكذا منذ 10 سنوات علي الأقل في أوروبا . حقا لم يختف الله ولكن بالنسبة للبعض لم يكن من الملائم إظهار الإيمان بالله واعتبروا هذا الموضوع من الأمور الخاصة .

 

   عودة الأمور الدينية – لماذا تغيرت الأوضاع

= لان عالمنا أصبح أكثر هشاشة من جراء الصراعات المسلحة القديمة والجديدة التي تؤثر علي  شعوب كثيرة وفرضت إيجاد أسباب للرجاء0

= لان المادية والسعي وراء المال يطرحان تساؤلا حول معني الحياة والموت . نعم من المهم ان نحصل علي ما هو أكثر ولكن لأي هدف0

= لان في البلدان حيث كل شيء مباح يحتاج الشباب بوجه ملح لمعايير اخلاقية0

= لان بعض المؤمنين المضللين استخدموا الدين لتبرير أفعال إرهابية والدين في هذه الصورة يخيف الناس0

=  لان ببساطة يحتاج الإنسان بطبيعته إلي بعد ديني ونحن نعرف كلمات القديس اغسطينوس الملهمة حين كان يسبح الله فكتب : " لقد خلقتنا لأجلك وقلبنا قلق حتى يرتاح فيك "( الاعترافات الفصل الأول )0

   واستمرار الشعور الديني في تاريخ الانسانية واقع صريح وقد اوضحه ارنولد توينبي قائلا أن الدين لا يظهر في حقبة معينة من التاريخ ولكنه احد مكونات الطبيعة البشرية ويعد مؤسس لوجود الإنسان.فمنذ أن صارالإنسان علي الأرض فهو يتساءل عن سماء , والآثار الرائعة في وادي النيل هي لشاهد عظيم علي ذلك فلا توجد حضارة بدون دين.

 

الحوار بين الأديان

وظهر واقع جديد علي الساحة لابد من ذكره وهو الحقيقة العالمية للحوار بين الأديان فكل المجتمعات فيما عدا استثناءات نادرة تجمع مؤمنين من كافة القناعات وعمليا أصبحت المجتمعات متعددة الأديان وهذا ما يجعلني أقول أننا " مجبرون علي الحوار " لان أينما نعيش فنحن دائما مع مؤمنين اخرين0

ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني شجع سائر الباباوات الحوار بين المسيحية والأديان الاخرى ودعوا إلي احترام القناعات المتبادلة وكذا احترام عمل الله المستمر في قلب كل إنسان ولا يعنى هذا كون كل الأديان متساوية لا بل كون كل الباحثين عن الله يتمتعون بالكرامة نفسها . وعلى جانب آخر فقد خلق البشر أحرارا في البحث عن الله والإيمان به لذا يجب أن يبقوا أحراراً في اختيار الله أو عدم اختياره 0

 

 

   وهكذا تحول المؤمنون شيئاً فشيئاً من اللقاء إلى الحوار :

 = حوار الحياة ويعنى مشاركة أفراحنا وأحزاننا مع كافة المؤمنين0

 =  حوار العمل ويجعلنا نشترك سوياً لخير الناس وبالأخص   الفقراء والمرضى  0

 = حوار المشاركات اللاهوتية التي تسمح بفهم أفضل لإرثنا الديني0

 =  حوار الروحانيات التي تضع في متناول بعضنا البعض عن حياة الصلاة والتأمل 0

  وأعتقد أنكم تتفقون معي حين أتساءل إن كنا نقدر حق التقدير خصوبة هذه الجهود كلها . إن أمامنا حقلاً  واسعاً ولكني أعتقد أن الرؤساء الدينيين وغيرهم فهموا أن الحوار بين الأديان ونحن "مجبرون عليه" يعنى أن ننظر ونستمع ونتفهم بعضنا بعضاً حتى نتمكن من المشاركة في قضايا قد تختلف آراؤنا حولها فنتعلم أكثر بعضنا من بعض . في اللغة الفرنسية لفظ dia في كلمة dialogue تعنى من خلال مما يفيد كون الحوار كلمة تمر من خلال كلمة أخرى . ومن الأكيد أن المؤمنين الذين يحيون هذا النوع من العلاقات ولاسيما أنهم يعيشون إيمانهم في جماعات لا يمكن أن يمروا مر الكرام في المجتمع أياً كان نظامه السياسي أو الثقافي .

 

   المؤمنون في المجتمع

   أصل إلى موضوع علاقة المؤمنين بالمجتمع وهى لاغني عنها لأن الإنسان " حيوان ديني "  وبالتالي هو دائماً مواطن ومؤمن , مما يدعو المجتمع والمسئولون فيه إلى التفاهم مع المؤمنين بوعي وأن يتفاعلوا معا بدون مواجهة . ويمثل المواطنين المنتمون إلى دين ما الأغلبية في المجتمع وهذا ما يفرض واقعا دينيا على الساحة نظراً لعدد المؤمنين وتاريخ تقاليدهم ووضوح دور مؤسساتهم وشكل طقوسهم . ولابد أن يعي المسئولون في المجتمعات ويحافظوا على ألا تسئ حرية الضمير والتعبير الديني إلى حرية المؤمنين الآخرين وغير المؤمنين ولا تربك النظام والصحة العامة0

   وعلى وجه آخر يستطيع المسئولون أن يستفيدوا إيجابيا من التراث الأخلاقي للأديان والتزام المؤمنين بالخير العام. فالأديان جميعها تسعى بوسائل متنوعة للتعاون مع من يجتهدون في سبيل :

=    ضمان الاحترام الفعلي للإنسان وحقوقه

=    تنمية معنى الأخوة والتعاون  

=   استلهام خبرة جماعات المؤمنين التي تجمع أسبوعيا   ملايين المؤمنين من كافة الأطياف الاجتماعية والفكرية في احترام للاختلافات ووحدة روحية حقيقية

=    مساعدة رجال ونساء زمننا على ألا يكونوا عبيدا للاستهلاكية والمنفعة الذاتية فحسب 

 

   أصدقائي الأعزاء حين أفكر فيكم أنتم من تمارسون يوميا الحوار بين الأديان أود أن أقترح بعض المجالات حيث يمكن المسيحيون والمسلمون معا أن يساهموا في الخير العام للمجتمع المصري :

 =   أولا عبر شهادة حياة الصلاة الشخصية والجماعية يذكر المسيحيون والمسلمون أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده ففي عالم اليوم من الأساسي التذكير بضرورة قيام حياة باطنية وتوضيحها0

=    ثم بوسع المسيحيين والمسلمين الأمناء لالتزاماتهم أن يوضحوا كون الحرية العقيدة تتعدى بكثير التصريح ببناء كنيسة أو مسجد بالرغم من بديهية هذا الأمر إلى المشاركة في الحوار العام من خلال الثقافة عبر المدارس والجامعات وكذلك من خلال الالتزام السياسي والإجتماعى وفى هذا المجال يجب أن يكون المؤمنون قدوة 0

=    والمسيحيون والمسلمون معاً كما فعلوا في الاجتماعات الدولية الأخيرة لن يترددوا في الدفاع عن قدسية الحياة الإنسانية وكرامة الأسرة ولن يترددوا في توحيد جهودهم لمكافحة الأمية والأمراض وعليهم تعود المسئولية الكبرى للوفاء بالتكوين الأخلاقي للشباب 0

=    وأخيراً لن يتراجعوا أمام واجبهم العظيم ليكونوا صناع سلام وينمون ثقافة السلام في الأسرة والكنيسة والمسجد والمدرسة والكلية . لا تقوم الأديان بالحروب بل البشر هم الذين يقومون بها . وعندما يقتل رجال أو نساء باسم الدين فإنهم يظهرون ضعفهم لا قوتهم لم تسعفهم الحجج فلجئوا إلى قبضات اليد . ولا أعرف إدانة أبلغ لهذا التشويه الديني سوى كلمات قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في بداية 2006 حين أدان الإرهاب قائلا : " لا يمكن أن يبرر أي ظرف تلك الأعمال الإجرامية التي تهين إهانة بالغة من يقوم بها وهو ملام بوجه أشد لأنه يتستر برداء الدين ويحط إلى مستوى عماه وفساده الأخلاقي من قدر الحقيقة الطاهرة لله ". ( خطاب إلى السفراء المعتمدين 2006 / 1 / 9 )

 

   وفى الخطاب المفتوح الذي وجهه 138 شخصية إسلامية إلى الرؤساء الدينيين المسيحيين أشاروا عن حق إلى كون المسيحيون والمسلمون يمثلون 55 % من مجمل سكان العالم , وبالتالي إذا كانوا أمناء لدينهم فبمقدورهم عمل الكثير من الخير . وأعتقد بالفعل أن المؤمنين المنتبهين إلى تطلعات معاصريهم قادرون على صنع الكثير من أجل الاستقرار والسلام في مجتمعاتهم .

 

   وفى الخاتمة أقول إن المؤمنين مسيحيين ومسلمين يحملون رسالة مزدوجة :

  =  الله وحده جدير بالعبادة وتمثل كل الأصنام المصنوعة من البشر كالغنى والسلطة والمظهرية والبحث عن اللذة تهديدا لكرامة الإنسان المخلوق من الله 0

= تحت نظر الله ينتمي البشر أجمعين إلى جنس واحد , وكلهم مدعوون إلى الحرية والالتقاء مع الله 0

  

   بالحق المؤمنون هم أنبياء الرجاء فهم لا يؤمنون بقدرية التاريخ ويدركون أنه بفضل ما وهبهم الله من عقل وقلب يستطيعون اعتمادا عليه سبحانه وتعالى تغيير مسار أحداث العالم وتوجيهها  حسب مشروع الخالق ألا وهو تحويل الإنسانية إلى أسرة حقيقية . وكل واحد منا مدعو للمساهمة في هذا المشروع ونحن المسيحيين لا ننسى أبدا إرشاد القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية: " فلنطلب ما فيه السلام والبنيان المشترك " ( 19 / 14 ) . إن هذه الكلمات لطريق رائع .  

 

نقلاعن حامل الرسالة العدد 2567 بتاريخ الأحد 9 مارس 2008 " بتصرف "