المزمور السابع: القاضي العادل

تقديم المزمور

1 –  مزمور لداود، أنشده للربّ حول كلمات كوش البنياميني:

يكثر التساؤل بين المفسرين عن  من هو كوش ابن بنيامين هذا، وما هي الكلمات التي دفعت داود لكي ينشد هذا النشيد وما هي ظروف اللقاء؟ ونحن لا نعرف عن كوش شيئاً فلم يذكر عنه أي شيء في أي موضع آخر من الكتاب المقدس. وسواء كانت كلمات كوش سبب تعزية أو الم فيكفينا أنها كانت سبباً مباشراً لأن يخرج الروح القدس عن فم داود هذه الصلاة الرائعة التي تظل على مر العصور أفصح وأعمق تعبير لكل إنسان بار يضطهد ويعاني ظلماً. لنتعرف على الأحداث التي واكبت ولادة هذا المزمور العذب الجميل.سنحاول  في سطور قليلة استقراء حياة داود من أسفار:

صموئيل الأول: من الفصل 15-31     

 صموئيل الثاني: من الفصل 1- 23

 الملوك الأول: الفصل 1-2   

أخبار الأيام الأول من 11- 29

 كان أبيشالوم ابن داود قد دنّس شبابه بحياة الخلاعة والتهور والانسياق وراء غروره وشهوات نفسه ومستشاريه حتى خالف وصايا الله وخرج عن طاعة والده الملك الممسوح. بل وسارت به الأمور لدرجة التمرّد على أبيه وتجرّيده من ملكه، وطرده من قصره ومدينته الحصينة، والاستيلاء على عرشه، ومطاردته بالجيوش لقتله والتخلص منه دون مراعاة لحقوق الدم والتربية، أو حفظ لجميل العناية والرعاية والحب والتسامح والغفران الذي عامله به داود أباه طوال مشوار حياته المضطربة منذ قتل أخاه أمنون (2 صمو 13: 1-33)، وبرغم كل شيء غفر له داود جريمته، وظل يحبه ويفضله عن الجميع، وحين مات شر ميتة بكاه لدرجة انقلب فرح انتصاره وعودته إلى قصره إلى مناحة عظيمة، وظل النهار كله ينعاه وهو يردد " يا ابني أبيشالوم يا ابني أبيشالوم، ليتني مت بدلاً منك يا أبيشالوم ابني " ( 2 صم 19:2) هذا لأن قلب داود الطاهر لا يعرف الحقد والانتقام فليس غريباً أن نسمع كلام الرب " فتشت قلب داود عبدي فوجده مثل قلبي" ما أعظمها من شهادة… وسواء كانت كلمات كوش سبب تعزية عظيمة كما يقول البعض أو ألم شديد كما يقول آخرون فيكفينا أنها كانت سبباً مباشراً لأن يسكب الروح القدس في فم داود هذه الصلاة الرائعة التي تظل على مر العصور أفصح وأعمق تعبير لنفس كل إنسان بار مضطهد ظلماً.

وللمفسرين موقفين متناقضين:

– منهم من يقول بأن كوش شتم داود وسبه وعيّره ورفض مساعدته وجرّحه، فبكى داود وأنشد هذا المزمور، المليء بالأشجان حتى أن المزمور في العبرية يدعى" شجايون".

– وآخرون يؤكدون أن كوش بالرغم أنه كان من سبط بنيامين، أقوى الأسباط شكيمة وأكثرها نزعة إلى الاستقلال عن المملكة والتمرد على الحكم المركزي للملك، إلا أنه عندما علم بوجود داود قرب قريته أثناء فراره، خرج للقائه؛ ولم يكن الرجل غنياً ليقدم الزاد والطعام لداود ورجاله المخلصين القليلين، لكنه قدم له دعمه الروحي والمعنوي إذ انخرط في بكاء شديد، رثاء لحال ملكه المحبوب، فكانت دموعه خير عزاء لداود وعلامة لرضا الرب عنه. لأنه في الوقت الذي كان الجيش فيه خضعاً لسيطرة أبيشالوم والمدن تفتح له أبوابها، سدت الطرق في وجه داود وتخلى عنه مؤيدوه إلا نفر قليل، وكوش البنياميني، ذاك الإنسان البار الصالح ظهر كصديق أمين لداود رغم تبدّل موقف كثير من الأصدقاء. مزّق ثيابه حزناً وتغطّى بالرماد وبكى بمرارة على ضيق الملك حين رآه هكذا طريداً شارداً هارباً إلى البرية. وإذ لم يستطع أن يقدّم له شيئًا ذا قيمة مادية، قدّم له مرساته ودموعه كتعبير عن الحزن اللوعة على البار المضطهد. فهو لم يحبّ داود لقدرته وجبروته، بل أحبه لفضيلته ونقاوة قلبه، لهذا احتفظ له بأمانة لا تتزعزع رغم تبدّل الحال…كانت تلك المرثاة المصحوبة بدموع مخلصة خير تعزية وأنبل مساعدة جعلت النبي يصرخ نحو الله طالباً أن يتجلى حتى يتمجد أمام الجميع.

نص المزمور وتقسيمه

أولاً – صرخة استغاثة وثقة بالله:

2- يا رب يا إلهي بك احتميت، خلصني وممن يضطهدني نجني

3- لئلا يفترسني كالأسد ويفترسني ولا من ينجي

ثانياً– فحص الضمير:

4- إن كنت يا ربي يا إلهي أسأت إلى أحد في شيء فلطخت يديّ بالجور

5- أو كافأت من سالمني شراً أو سلبت خصومي باطلاً؟

 6-فليضطهدني العدو ويلحق بي وليرمني إلى الأرض حياً ويمرغ في التراب كرامتي

ثالثاً- دعوة الله للتدخل:

7 -قم يا رب في غضبك وتغلب على كيد خصومي تعالى إلى نجدتي سريعاً فأنت أوصيت بالإنصاف

8– واجمع الأمم من حولك واجلس فوقها في الأعالي

9 – فأنت يا رب تدين الجميع وأنت صادق ونزيه فأنصفني

10 – اقطع يا رب شر الأشرار وعزز مكانة الصديقين. أنت تمتحن القلوب والأكباد أيها الإله العادل

رابعاً- الله قاض عادل:

11 –– الله ترس لي وخلاص لمستقيمي القلب

12 –الله قاض عادل وإله يتوعد كل يوم

13 –على من لا يتوب يصقل سيفه ويحني قوسه ويسدد سهامه

14 –يرميه بسلاح مميت ويجعل سهامه ملتهبة

خامساً- تدخل الرب وعقاب الأشرار بشرهم:

15 –الشرير يتمخض بالإثم ويحبل بالفساد ويلد الكذب

16 –يحفر حفرة ويوسعها وفي الهوة التي صنعها يسقط

17 –يرتد فساده على رأسه وعلى نافوخه يقع عنفه

سادساً- فرح العبد الأمين وابتهاجه بالرب :

18 –أحمد الرب لعدله وأرتل لاسمه العلي.

تفسير المزمور

أولاً – صرخة استغاثة وثقة بالله:

2- يا رب يا إلهي بك احتميت، خلصني وممن يضطهدني نجني:

v   يا رب يا إلهي بك احتميت:

بك احتميت، هي بداية العديد من المزامير ك: 11-16-31-57-71. وقد عزته كلمات كوش البنياميني وجعلته يعود لنفسه ويعرف أن لا خلاص له باتكاله على قوة ذراعه، بل على الرب الذي يحمي ويخلص وينجي في وقت الضيق… كان يشعر بانهيار كل ما وصل إليه من مجد أرضي، وقد تبدل في لحظة إلى ذل ومهانة كالشمع يذوب أمام النار ، وها هو يعاني آلام الغدر والخيانة ويجد نفسه طريداً شريداً، منبوذا من أهله وشعبه الذين قدم حياته وأفنى شبابه في خدمتهم؛ فيعود ليكتشف أن الاعتصام بالرب خير من الاتكال على البشر حيث تخلى عنه الجميع وقام عليه أبناءه من صلبه ولم يبق له من معين سوى الرب معتصمه الوحيد، إليه يلجأ وبه يحتمي من غدر الزمان الذي علمه، ألا يعتمد على قوته وحيلته ومكره أو حتى جيوشه.

v   خلصني وممن يضطهدني نجني:

بهذا اليقين دخل داود إلى مخدع نفسه للصلاة والتهجد، وقد تيقن من هذه الحقيقة البديهية والجوهرية لم يعد من مخلص سوى الله، حقيقة – للأسف الشديد- كثيرا ما تلهي الأيام الإنسان عن تذكرها والتأمل فيها، وكثيرا ما يقوده غرور القوة إلى تجاهلها وتناسيها، لكنه غالباً ما يدفع غالياً ثمن تجاوزها وتاسيها…ومع ذلك فإن الله لا يكف أبدا أن التذكير بها، فيخاطب قلب  الإنسان بوسائل عدة وطرق مختلفة، يدعوه إلى التعرف على هشاشته ومحدودية قوته وهو بعيد عنه…

ولقد كانت كلمات كوش( معزية أم مؤلمة) واحدة من تلك النداءات التي لمست بعمق قلب داود، فجعلته يعود إلى رشده، فينفتح قلبه للصلاة متذكراً حياته الجميلة حين كان مع الله كطفل يمرح آمناً في حماية العلي كلي القدرة. لكن الطفل الشارد يعود اليوم إلى بيت الآب، ويلقي بنفسه في الأحضان الأبوية يتمرغ باكياً ويصرخ واصفاً هول ما لاقى من قسوة وذل الجوع، شاكياً عذاب الغربة والفراق وبشاعة الظلم والاضطهاد الذي كاد يصل به إلى الهلاك. لاسيما حين رآه الأعداء وحيداً، وعرفوا أن مصدر قوته قد فارقه، كشمشون الجبار وقد قصت دليلة شعره: " لم يقص شعري يوماً لأني نذير الرب من بطن آمي، فإن قصّ شعري فارقتني قوتي وضعفت وصرت كواحد من الناس" ( قضاة 16: 17) … هكذا اكتشف داود كم هو ضعيف حين ابتعد عن الرب وهو المسيح المختار، وما جرى له في منذ لحظة انفصاله، فصرخ من أعماق كيانه المجروح: خلصني يا أبي ونجني ممن يضطهدوني فليس لي سواك إليه ألجأ وبه أحتمي.

3- لئلا يمزقني كالأسد ويفترسني ولا من ينجي:

كثيرا يلوذ ما الإنسان في لحظات الشدّة والضيق والألم بذكريات الماضي الجميل… لقد عاش داوود صباه بين الروابي، يعزف بنايه أجمل الألحان ويرعى غنمه في سلام، ويحافظ عليها من الوحوش المفترسة، وكثيراً ما خلص تلك المخلوقات البريئة من الذئاب والأسود، بل وأنقذ مرة أحد حملانه من فم الدب. لكنه اليوم يرثي ذاته، إذ يرى نفسه خليقة ضعيفة بائسة معتدى عليها، حملاً وديعاً مستسلماً لا يملك غلا الصراخ، لا خلاص لحياته ولا أمل في النجاة ما لم يسرع راعيه بنفسه، ليقذه ويفتديه ويسترد حياته من براثن الوحش الذي يوشك أن يقضي عليه…..

v   يفترسني ولا من ينجي:

إحساس كامل بالعجز والاستسلام أمام قوى كاسحة تتفوق بكل المقاييس على حدود قوته البشرية، وتتجاوز مواجهتها إمكاناته وطاقته… يشعر داود اليوم بضعفه وعجزه وهو يواجه اليوم خصماً فريداً في نوعه جبار في طغيانه، يواجه تمرد أعز الناس لديه وأحبهم إلى قلبه، ابنه أبيشالوم الذي سلبه عرشه وقسم مملكته وطارده من قصره، شريداً بائساً لا سند له ولا ملاذ سوى الله منقذ حياته.

ثانياً– فحص الضمير:

4- إن كنت يا ربي يا إلهي أسأت إلى أحد في شيء فلطخت يديّ بالجور :

يحمله هذا الاحساس الرهيب إلى ان يستعرض شريط حياته، يفحص ضميره ويتذكر آثامه وخطايا صباه، إنها كثير بالفعل، لكنه قد كف عنها وندم وتاب، بل لقد سمع من فم ناثان النبي: "والرب قد رفع عنك خطيئتك  فلا تموت" . غفرت له خطاياه وتعلم الدرس، فصار مسالماً لا يسئ إلى أحد في شيء، يحاول أن يرعى شعبة في سلام، ويتعامل بالرقة واللين ويحكم بالعدل والقسطاس حتى مع خصومه، فلا يسلبهم أملاكهم أو أموالهم أو زوجاتهم باطلا كما قد يكون قد فعل في حياته  الأولى…

يستنتج من هذا الفحص الدقيق لحاضر وماضي حياته إنه بريء ولا يستحق هذا العقاب الصارم من مطاردة الأعداء له وطلبهم نفسه ليهلكوها بعد إن مرغوا كرامته الملوكية في التراب…وكأني بالمرنم يصرخ إلى الإله الديّان الذي يرى كل شيء على الأرض، ويعرف وحده إذا كان الإنسان بريئًا أو مذنباً، ويستطيع أن يدل على المذنب ويبيّن له ذنبه فيغفره له أو يعاقبه عليه. ليست يداي يارب ملطخة بالدماء وتاريخي لا يخفل بالمكر والظلم.

v   فلطخت يديّ بالجور

مفيدة دوماً العودة إلى الذات في فحص متعمق للضمير ، هكذا يكتشف داود من خلال فحصه لضميره، انه بالرغم من آثامه العديدة وخطاياه الجسيمة إلا انه سقط دوماً عن ضعف وليس عن خيانة للعهد: سواء مع الله أو الحلفاء والأصدقاء بل حتى مع خصومه أنفسهم… لقد سعى دوماً أن يكون نزيها بالرغم من الخصومة أو الاختلاف الفكري أو المذهبي أو القبلي، وهذا ما يبرهن عليه لقاءه مع كوش البنياميني الذي بكى لحاله وهو من سبط بنيامين وليس من حاشية داود أو أصدقاءه الحميمين.

5- أو كافأت من سالمني شراً أو سلبت خصومي باطلاً؟:

يكمل فحصه الدقيق ومراجعته لنفسه ولحياته بمجملها فيجد انه كان مسالما الجميع ولم يعتدي أو يظم أحداً من أهله أو أصدقاءه وحتى مع أعداءه الذين كانوا يطاردون نفسه كان مسالما ولم يسعى يوما إلى الانتقام برعم قدرته وتمكنه من ذلك في مناسبات عديدة ( صموئيل الأول 25: 7-12) ولم يخن العهد أبداً ولم يعتدي بالظلم أو الباطل حتى على ألد خصومه وموقفه مع أبيشالوم ابنه خير دليل على ذلك بل باستعراض شريط حياته يكتشف انه كان دوماً ضحية أصدقاءه وخصومه الذين سالمهم ووثق بهم فخانوه…

6 –فليضطهدني العدو ويلحق بي وليرمني إلى الأرض حياً ويمرغ في التراب كرامتي:

يستخلص من هذا الفحص الدقيق برائته وطهارة يده وقلبه، ويرتاح حين يجد سجل حياته بما فيها من حروب وصراعات وتحالفات ومعاهدات خاليا من أي شائبة يستحق عليها ما يحل به الآن من ضيقات. حينئذ يكتشف أن ما يمر به الآن ضيقة لا عقوبة. لكنه لا يرضى أن يكون هو الحكم بل يرفع إلى الله برائته ويقسم المرنم معلنًا استعداده لأي عقاب في حالة التجاوز: إن كنت قد صنعت ذلك فليلاحقني العدو ويرمني إلى الأرض… بل واستحق أكثر من هذا، استحق أن تمرغ كرامتي في التراب، وحتى أن أدفن حياً عقاباً على تجاوزي… لكني بريء ومع ذلك لم يرحمني أحد بل يريدون تدميري.

ثالثاً- دعوة الله للتدخل:

7 – قم يا رب في غضبك وتغلب على كيد خصومي تعالى إلى نجدتي سريعاً أنت أوصيت بالإنصاف:

v   قم يا رب في غضبك وتغلب على كيد خصومي:

 لا يمكن للرب أن يترك أصفياءه فريسة في فم الأسد أو بهمل أتقيائه لكيد الخصوم … لاسيما حين يلجئون إلية بكل قلوبهم إن هذا المعاملة الوحشية القاسية تستوجب الرد… داود يعرف هذا لذا يطلب من الرب الذي يبدو وكأنة جالس يرقب ويتفرج، أن يقوم، فقد حانت الساعة ليتدخل فينقذ وينجى، بل حانت ساعة الغضب، كي يصب الله جام غضبه على هؤلاء الأعداء الذين يعتدون على نفوس الأبرياء دون جرم ارتكبوه…

v   تعالى إلى نجدتي سريعاً:

تعال إلي نجدتي، من الآيات الكثيرة التردد في سفر المزامير لاسيما مزامير الاستغاثة، ها هو الرب يقوم فيتحرك، ويغلب كيد الخصوم وتجبرهم على البريء. لن يتمهل في النجدة والخلاص فهو عادل وان أمهل  فلا يهمل أبدا.

8– واجمع الأمم من حولك واجلس فوقها في الأعالي:

أنت القدير وحدك أوصيت بالإنصاف، لا يمكن لك أيها العادل، أن توصى بالعدل ولا تعدل، أنت الديان العادل، تجمع الأمم وتتسلط عليها، وتدين الجميع بالعدل، وتعطى كل واحد حسب أعماله. أي إبهار وإبداع في وصف قدرة الله السامية فوق السماوات والأرض. أنت العلى، أنت القدوس، أنت الأقوى، جميع الناس خلائق، وجميع الأمم هباء.

9 –فأنت يا رب تدين الجميع وأنا صادق ونزيه فأنصفني:

أنت يا سيدي صاحب السلطان وحدك، لك أن تجلس على عرشك في الأعالي وتنادي الشعوب والأمم من أقاصي الأرض وهم يحضرون خاضعين لإرادتك ومشيئتك، تجلس على كرسي مجدك في الأعالي فتحاكمهم وتدينهم وأنت جالس على العرش. ودينونتك حق هي ولا ظلم فيها، لأنك العالم ببواطن الأمور والعارف بأسرار القلوب والملم بما تكنه النفوس بل وفاحص القلوب والكلى… فلن يخدعك أحد ولن ينجح في أن يخفي ويداري آثامه أما  عينك الفاحصة.

v   وأنا صادق ونزيه فأنصفني:

وإنا صادق ونزيه فأنصفني، وحيث سيجرى عدلك وحكمك على الجميع، فالنتيجة الحتمية هي هلاك الأشرار والظالمين وإنصاف الأبرياء والصالحين وإكرامهم. وداود الذي يشعر ببراءته، يدافع عن صدق قلبه ونزاهته ويثق في حكم الله العادل وإنصافه للذين يتقونه.

10 – إقطع يا رب شر الأشرار وعزز مكانة الصديقين. أنت تمتحن القلوب والأكباد أيها الاله العادل:

v   إقطع يا رب شر الأشرار:

وليكن انتقامك ساطعاً فيعرف متهموك ومطاردي نفسي أنك قدير حين يصلهم عقابك… هذا هو الهدف الذي جعله داود أمامه؛ فهو لا يسعى لتحقيق مصالحه ومآربه الشخصية فحسب، بل يضع أمامه مجد الله.كما يعلم أن نتيجة المحاكمة هي إبادة شر الأشرار وقطع دابرهم من الأرض.

v   عزز مكانة الصديقين:

هذا ما يدلّ على فضيلة عظيمة لدى البار، حين يكون له ذات الأعداء وذات الأصدقاء الذين لله، لذلك فالسيطرة الكاملة لله الملك الأعظم، تعزز مركز الصديقين والأبرار والصالحين حيث يعرف الجميع أن الرب حاميهم قد انتقم لهم. إذن، ماذا يتمنّى البار هنا؟ أعلن مجدك وسط أعدائك.

v   أنت تمتحن القلوب والأكباد أيها الإله العادل:

 وحيث انك الله عليم ببواطن القلوب والأكباد أي بكل ما يدور في داخل الإنسان فان حكمك لن   يكون سطحيا بل سيكون حكما عادلا مبينا على معرفة كاملة بما في الداخل والخارج.

رابعاً- الله قاض عادل:

11 – الله ترس لي وخلاص لمستقيمي القلب:

الله ترس لي من الآيات الكثيرة الورود في سفر المزامير، والترس هو نوع من أسلحة القتال يستخدمه المحاربون ليصدوا به سهام العدو. وهكذا الله يحمي الذين يلجئون إليه ويصد عنهم كل هجمات العدو. لذلك مهما أظلمت الدنيا وادلهم الظلام وأوحش الليل وطالت يد الظلم وجار الأشرار على الأبرار واضطهدوهم؛ فإن الله العادل يقف كالترس والدرع يحمي الذين يتقونه ويخلص مستقيمي القلوب، لأنه يعرف طهارة قلوبهم.

12 –الله قاض عادل وإله يتوعد كل يوم:

تأكيد لما سبق من معنى، لكنه  أيضاً تقديم لما سيتم اتخاذه من إجراءات  ضد كل من تسول له نفسه أن يبغى ويظلم الأبرياء. فهو يصير عدواً لله نفسه بذات الفعل؛ وعندما نقول عن الله إن له أعداء، لا نعني أنه يبغضهم ويكرههم، بل يكتفي بأن يمقت أعمالهم الرديئة ويوبخهم حتى يرتدوا عن شرورهم. وكذلك ليس للبار أعداء يسعى إلى الانتقام منهم.

13 –على من لا يتوب يصقل سيفه ويحني قوسه ويسدد سهامه:

هكذا يريد الله أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون فإن قبلوا كلمته وتابوا غفر لهم كما غفر لأهل نينوى رغم رغبة يونان النبي الانتقامية، لكن إن أصروا على غيهم فهو يصقل السيف ليكون حاداً وماضياً فيمزقهم إرباً، ويحني القوس فهو الجالس في الأعالي والمتحكم استراتيجياً في ساحة المعركة ويمكن ان يصوب السهام من علو لتكون أقوى بمسايرتها اتجاه الجاذبية الأرضية وليس عكسها.

14 –يرميه بسلاح مميت ويجعل سهامه ملتهبة:

رمية الله قاتلة وسلاحه فتاك وسهامه لا تهبط من العلا فقط بل تنزل ملتهبة فلا مجال للهروب من إصابتها ولا فكاك من نيرانها المشتعلة. هذا هو العقاب الرهيب الذي يعده الله لمن لا يتوب ويرجع عن معاصيه.فماذا يفعل الأشرار هل يتوبون ويرجعون إليه بكل قلوبهم فيشفيهم؟

خامساً- تدخل الرب وعقاب الأشرار بشرهم:

15 –الشرير يتمخض بالإثم يحبل بالفساد ويلد الكذب:

لا توبة ولا رجوع فالشرير مصر على شره وكأنه امرأة حامل، لا فراق بينها وبين ما تحمل في داخلها، إنه جنينها، وفي هذا المجال يقول أشعياء النبي " حبل شقاوة ولد إثما وبطنه انشا غشاً" ( أش33: 11) فالشرير كالمرأة الزانية حبلت بجنينها في الفسق والرجس والعهر، وحين تتمخض لولادة وليدها، تلد كتلة من الكذب والزور والبهتان، لأنها فاسدة تلد الفساد… يا لهول الصورة ويا لعمق التعبير…

16 –يحفر حفرة ويوسعها وفي الهوة التي صنعها يسقط:

"من حفر حفرة لأخيه وقع فيها" استخدم الرب يسوع نفس التعبير ليدل على مصير الأشرار القاسي والرهيب فهم يتعبون في التخطيط والتنفيذ لمكائدهم وفخاخهم الماكرة لكن هناك من يترقب هذه الأفعال ويرصدها ثم يبطلها "لا يفلت أحد من أعدائك" ولا يكتفي بهذا بل يسقط الذين دبروها فيما سبق وأعدوه للأبرياء وكأن الرب يعاقب الأعداء بمثل ما أرادوا أن يفعلوا فيسقطون في الهوّة التي أعدوها ووسعوها.

17 –يرتد فساده على رأسه وعلى نافوخه يقع عنفه:

ويرتدّ ضررهم على رؤوسهم، ويسقط ظلمهم على هاماتهم. لأن الرب قد دفعهم دفعاً ليسقطوا فيما دبروا للأبرياء من حبائل وفخاخ. فالشرير يؤذي نفسه بالشر بقدر ما يؤذي غيره وأكثر. فالحقود يموت بحقده، والفاسق يصيبه الفسق في جسده وروحه بأبشع الأمراض، والسارق يقضي العمر يتلفت حوله، والقاتل يعيش مطارداً من الداخل والخارج، والخائن غالباً ما يدفع ثمن الخيانة في حياته، والمفتري  يجد يوما ما من يسحقه ويقهره دون أن تأخذه به شفقة

سادساً- فرح العبد الأمين وابتهاجه بالرب :

18 –أحمد الرب لعدله وأرتل لاسمه العلي:

وينتهي المزمور بصلاة شكر يتلوها المرتّل تسبيحاً لبر الرب وعدله لأنه قد نجّاه من أعدائه، أحمد الرب بحسب عدله، وأشيد لاسم الرب العليّ. أيها الربّ إلهي، فيك وضعت رجائي. خلّصتني من كل مضطهديّ ونحيتني، فدعني أشكرك وامجد اسمك وأرفعك وأعظمك، فأنت إله عادل تصبر وتصمت وتمهل للتوبة ثم تظهر في الوقت المناسب لتدين وتحاكم وتقضي بالعدل فتجازي كل واحد حسب أعماله؛ لذلك فإنك مستحق لكل مجد وكرامة.

تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع في حياته هذا المزمور ؟

نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع، وقد فسّره آباء الكنيسة بطريقة مسيانية فجعلوا كلماته تطابق حياة المسيح وكلامه وها نحن نرى شخص الرب يسوع:

   يسوع المسيح هو أكمل صورة للبار المضطهد ظلماً على مر العصور: " فهو لم يرتكب خطيئة ولم يوجد في فمه غش". ومع ذلك عانى ما لم ولن يعانيه أي إنسان في تاريخ البشرية على الأرض من عذاب وهوان.

    وهو لا يشكو  مضطهديه إلى الله ولا يطلب من الرب انتقاما لكننا نراه في عمق آلامه يغفر للص اليمين وينجيه بل ويطلب الصفح والمغفرة لمن صلبوه…!

   يفحص الرب يسوع لا ضميره بل ضمير مضطهديه فيقول لهم " أعمالا  كثيرة حسنة من عند أبي أريتكم، فلأجل أي عمل تريدون رجمي؟" ويعرف أنه لم يؤذ إنساناً فهو " قصبة مرضوضة لم يقصف وكتانا مدخنا لم يطفئ" وهو "الذي جال يصنع خيراً ويشفي كل سقم"…

   برغم ذلك اضطهدوه واتهموه ظلماً وصلبوه.عندما يتضرع المسيح إلى أبيه "إيلى إيلي لما شبقتني"" إلهي إلهي لماذا تركتني"  يرفع صلاته لا كاحتجاج لبراءته من الجرائم والتهم التي حيكت ضده وحوكم بسببها، بل كتعبير واضح عن ثقته الكاملة في الله "إني أعلم أنه معي ولن يتركني وحدي " الحق الحق أقول لكم إنكم ستتفرقون جميعاً وتتركونني وحدي ولن أكون وحدي لأن أبي هو معي".

       يتجاوز الرب العداوة مع مضطهديه  فهو ليس خصماً لهم بقدر ما هم خصوم لأنفسهم لذا يتشفع لهم " أغفر لهم يا أبتاه فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". إنه يحيا القيامة والغفران ولا يطلب النقمة والانتقام.

   المسيح يصلى هذا المزمور وهو يعرف عدل أبيه وبره، لذا يطلب لهم الغفران لهذا يحول الرب صليبه، صليب العار والمذلة إلى أعظم آية للمجد وعلامة للنصر والقيامة.

   وقد سلم ذاته بإرادته وحده إلى النفس الأخير فداء عن الجميع، فيسلم الروح الطاهرة في سلام عميق لم تزعزعه سخرية العدو ولا ظلم المحاكمة ولا تشفي الظالمين ولا الانتصار الوهمي لسلطان الظلام ولا حتى عار الصليب وشدة الألم. وهو يظل في صلاة تسبيح لأبيه على الصليب لا يفصله عنه شيء إلى اللحظة الأخيرة "يا أبت في يديك استودع روحي".

   وينهي يسوع صلاته ومزمور حياته البسيطة  المتواضعة، بالمجد والشكر والقيامة وهكذا يصير رمزاً للبراءة المظلومة،  ورجاءً لكل مضطهد على الأرض.

كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحيين ؟

لا جدال على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي و نتعلّم هنا:

   نتعلم ألا نعتمد مطلقاً على قوتنا الذاتية فما نحن إلا خليقة ضعيفة في مواجهة عدو جبار، وبقوتنا لا نستطيع أبداً أن نخلص، علينا فقط أن تلتجئ باستغاثة حارة إلى الرب طالبين الحماية والمعونة.

   نتعلم كيف نصرخ إلى الرب عندما نعاني الظلم والاضطهاد كي ينجينا من فخاخ الشيطان الذي يجول كأسد زائر يلتمس من يفترسه وما نحن سوى خليقة ضعيفة بائسة بدون معونته.

   نتعلم ألا نقلق ونجزع حين نرى المحن التي تصيب الأبرار أو عندما تواجهنا المصاعب، فما هي إلا تجارب نخرج منها منتصرين ممجدين، أكثر نقاوة وأكثر براءة.

   نتعلم ألا نخاف مواجهة الأهوال في سبيل الفضيلة. وأن نحتفظ بالرجاء وسط أصعب الظروف متّكلين على عون الله الذي هو درع وترس لمحبيه يدافع عنهم وهم صامتون…

       نتعلم أيضاً مراجعة الذات وفحص الضمير يومياً ومحاسبة النفس حساباً عسيراً وأن نطلب الغفران ونتقبل العقاب حين نوجد مذنبين.

   نتعلم ألا نتبدّل ونتقلب ونغير مواقفنا المبدئية مع تغيرات الزمان على الإطلاق، بل أن نبقى أمناء لشرائع العهد والصداقة مع الله الذي لا يخون العهد أبداً، كما نتعلم الوفاء والإخلاص لإخوتنا وأصدقائنا لاسيما عندما تصيبهم محنة أو مرض.

       نتعلم أن الكلمة الأخيرة دوما لله الكلي القدرة السكن في الأعالي وان النصر النهائي سيكون من نصيب أبناء الله الصديقين.

       نتعلم أن ننتظر في سلام داخلي عميق ورجاء أساسي لا يتزعزع تدخل الله في الزمان والمكان الذي يريد " لتكن مشيئتك".

   نتعلم أخيراً كيف نشكر الله ونسبحه عندما تنقشع الظلمة ويظهر الحق وينصرنا على العدو.وكيف نغفر لمن أخطأ في حقنا وأساء إلينا واضطهدنا وجرحنا.

 

نجنا يا رب من كل شر ومن كيد المضطهدين وليتبدد أعداء الكنيسة فيرتدوا سريعاً إلى الوراء. وأعطنا يا سيد أن نعيش نعمة الغفران الذي يعلوا ويفوق مفاهيم العالم في الانتقام والتشفّي، لنحيا بسلامه.

 آمــــــــــين