بكركي،الأحد 1 يونيو 2008 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.
* * *
"ان ملكوت الله في داخلكم"
( لو17: 21)
اننا ننهي الفصل الذي تحدّث فيه البابا بنديكتوس السادس عشر عن انجيل ملكوت الله، وهو قد أبان فيه جوانب كثيرة من هذا الملكوت الذي هو في داخلنا.ولا يقال انه هنا أو هناك.وهذا الملكوت هو دائم الحضور في تعليم السيد المسيح وعظاته. وهذا ما نريد أن نتحدّث عنه اليوم.
نرى بوضوح أن يسوع كان "ابنا حقيقيا لاسرائيل" . وقد تخطّى في الوقت ذاته اليهودية بما لمواعيده من قوّة داخلية. ولم يُضع أيٌّا من العناصر التي أوضحناها.ومع ذلك هناك شيء جديد يعبّر عن ذاته جوهريا في ما لكل من الكلمات التي تقول:" لقد اقترب ملكوت الله" ، "وقد وافاكم ملكوت الله" ، و"ان ملكوت الله في داخلكم" .وان مجيء الملكوت كما يعبّر عن نفسه هنا انما هو عمل حاضر يهمّ التاريخ بمجمله. وهذه الكلمات هي التي أثارت مسألة انتظار الاكتمال القريب الوقوع، وقد أظهرته خاصا بيسوع. ولكن ما من شيء يوجب اتباع هذا الشرح، واذا اعتبرنا كلمات يسوع في مجملها، يجب اقصاءه بوضوح: والبرهان أن الذين يدعمون تفسير اعلان يسوع الملكوت ( في معنى الانتظار القريب) هم مجبرون ، انطلاقا من قياساتهم، على مناقشة قسم كبير من كلمات يسوع في هذا الموضوع، واخضاع سواها لما يرغبون فيه، ولو حمّلوها ما لم تحتمل.
في رسالة يسوع المعتعلّقة بالملكوت، على ما رأينا، اُثبتت تأكيدات تعرب عن فقر هذا الملكوت في التاريخ: فهو كحبة خردل، وهي أصغر البقول. وهو كالخمير، وهو كميّة ضئيلة بالنسبة الى كتلة العجين، ولكنه عنصر حاسم لمستقبله . والملكوت هو دائما مقارن بالزرع المنشور في حقل العالم، والذي يعرف حظوظا مختلفة: فهو تأكله العصافير، ويخنقه الشوك، أو خلافا لذلك، يبلغ النضج ليثمر ثمرا كثيرا. وهناك مثل آخر يحدّث عن أن زرع الملكوت ينمو، ولكن عدوّا جاء يزرع معه الزؤان الذي ينمو في الوقت عينه، ولا امكانية لتفريقهما الاّ في الآخرة.
وهناك وجه آخرمخالف لهذا الواقع السرّي "لربوبية الله" يكشف عن ذاته عندما يقارنه يسوع بكنز مخفي في حقل. ومن اكتشفه يخبئّه مجدّدا ويبيع كل ما له ليشتري ذلك الحقل، ويتملّك ذلك الكنز الذي باستطاعته أن يحقّق كل آماله. وفي المثل المقابل الذي يتحدّث عن الجوهرة الثمينة، فان من يجد الجوهرة، يبيع كل مقتناه ليحصل على هذا الخير الذي هو أثمن من كل شيء. وهناك وجه آخر "لربوبية الله" ( أوملكه) تظهر عندما يلفظ يسوع كلمات، صعب تفسيرها، وهي تفيد أن " ملكوت السماوت" يُغصب، والغاصبون يخطفونه" . وعلى الطريقة المنهجية، يستحيل افراد هذا الوجه الذي نعرف أنه "خاص بيسوع" عن المجموعة، والاستناد بعد ذلك الى التأكيد المجاني لاخضاع كل ما تبقّى في الاتجاه الذي نريد.علينا أن نقول خلافا لذلك:" ان الواقع الذي يسمّيه يسوع" ملكوت الله" ، وربوبية الله"، هو معقّد كل التعقيد، وبقبوله فقط في مجمله، يمكننا الاقتراب من رسالته والاستهداء بها.
ولنفحص عن قرب على الأقل النصّ الذي يشهد على صعوبة اكتناه رسالة يسوع،المشار اليها دائما بشيء من الأرقام السرية.في الفقرة 20 و21 من الفصل 17 يقول لنا لوقا:" ولمّا كان الفريسيون يسألون يسوع : " متى يأتي ملكوت الله ؟" فأجابهم وقال: "ملكوت الله لا يأتي بطريقة سافرة (لمراقب محايد) ولن يقال:" ها هو هنا، أو هناك! فها أن ملكوت الله في داخلكم". ولدى شرح هذا النصّ، نجد مجدّدا مختلف تيّارات تفسير" ملكوت الله"- بحسب مقتضيات الواقع الأساسية وكل شرح، ورؤيته.
ان الشرح ( الأمثل) يقول لنا ان ملكوت الله ليس واقعا خارجيا، بل انه في داخل كل انسان0 (ولنستذكر ما وجدناه لدى أوريجانوس). ان في هذا الشرح ما هو صحيح، ولكن حتى من جهة لغوية ، فهو في غير محلّه. وبعدُ هناك الشرح الذي يعود الى انتظار الاكتمال المداهم، الذي يؤكّد أن ملكوت الله لن يأتي على مهل، بحيث تمكن رؤية مجيئه، لكنه، خلافا لذلك، يأتي فجأة. ولكن هذا التفسير لا أساس له في النصَّ على ما هو مكتوب. ولهذا، هناك ميل متعاظم اليوم الى القول ان يسوع، لدى تفوّهه بهذه العبارت، يشير الى نفسه:"ان ملكوت الله، هو نفسه الموجود بيننا، غير أننا لا نعُرفه. أنا باصبع الله أخرج الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" .هنا، كما في النصّ السابق، ان "الملكوت" ليس هنا، بمجرّد وجود يسوع الطبيعي، ولكنه هو موجود عبر فعله في الروح القدس. وبهذا المعنى، فان ملكوت الله به وفيه موجود هنا والآن، وهو" قريب جدّا".
هذا هو جواب يفرض نفسه، وهو لا يزال مؤقتا ويطلب اغناءه عبر قراءتنا للكتاب المقدّس: هذا النوع الجديد من الاقتراب من الملكوت الذي يتحدّث عنه يسوع، والذي يشكّل اعلانه الميزة الخاصة برسالته، هذا الاقتراب الجديد هو يسوع عينه. ان الله، بحضوره وعمله، دخل التاريخ دخولا جديدا ، هنا والآن، كمن يعمل. ولهذا اليوم،" قد تمّت الأزمنة" . ولهذا جاء الآن، بطريقة فريدة من نوعها، زمن الارتداد والتوبة، كما جاء زمن الفرح ، لأن الله أتى الينا في شخص يسوع. ، ان الله في يسوع هو من يعمل الآن، ويملك، ويملك بطريقة الهية، أي دون سلطة زمنية، وهو يملك بالمحبة حتى النهاية ، حتى الصليب. وانطلاقا من هذا العنصر الأساسي، يمكن ربط مختلف الوجوه المتناقضة ظاهرا. وانطلاقا من ذلك يمكننا أن نفهم الاعلانات عن طابع الملكوت الوضيع والخفي، وصورة الزرع الجوهرية، التي لا تفتأ تشغلنا لأكثر من سبب؛ والدعوة الى الشجاعة لوضع نفوسنا في اللحاق بيسوع، بالاقلاع عن كل الباقي. فهو الكنز، ومشاركته هي الجوهرة الثمينة.
وانطلاقا من هنا تستنير المشادّة بين الكيان والنعمة، وبين الشخصانية الحصرية والدعوة الى الالتحاق بعائلة جديدة.ولدى التفكير بتوراة المسيح في الخطاب على الجبل، نرى كيف تتداخل الشريعة بالنسبة الى القانون، وهبة النعمة، و" البرّ الكبير" المطلوب من تلامذة يسوع، والبرّ الذي " يفوق" برّ الفريسيين والكتبة . ولنأخذ الآن مثلا واحدا، وهو حادثة الفريسي والعشّار اللذين يصلّيان كلاهما في الهيكل، انما بطريقة مختلفة .
باستطاعة الفريسي ان يفاخر بفضائل كثيرة، ولا يكّلم الله الا عن نفسه، ويمتدح ذاته، وهو يعتقد أنه يمدح الله.أمّا العشّار فيعرف خطاياه، ويعرف أنه ليس بامكانه أن يفاخر أمام الله، ويطلب منه الصفح لشعوره بخطئه. وهل هذا يعني ان أحدهما يجسّد الأنا والآخر النعمة دون الأنا، أو ضدّ الأنا. في الواقع، ان المسألة المطروحة ليست مسألة الأنا أو غير الأنا، بل مسالة طريقتين من المثول أمام الله ، وأمام الذات. أحدهما لا ينظر مطلقا الى الله، بل الى ذاته، وفي الواقع، انه ليس في حاجة الى الله، لأنه يعمل بذاته ما يليق. ولا رباط له حقيقيا بالله الذي هو في نهاية المطاف يستغني عنه، وعمله هو يكفيه. ان الانسان يبرّر نفسه. والآخر، بخلاف ذلك، يرى نفسه من خلال الله. وقد أدار نظره الى الله، وفتح عينيه على نفسه. وهو يعرف أنه في حاجة الى الله، وانه في حاجة الى أن يعيش من جوده الذي لا يمكنه أن يحصل عليه بالقوّة، ولا يمكنه أن يحصل عليه وحده بذاته. ويعرف أنه في حاجة الى الرحمة ويتخذ مثلا الرحمة الالهية ليصبح هو ذاته رحيما مثل الله. وهو يحيا من هذه العلاقة، من هذه الهبة التي يقبلها، وهو يحتاج دائما الى من يجود عليه بالرحمة والمغفرة ، ولكنه انطلاقا من ذلك، فهو يتعلّم دائما كيف ينقلهما. والنعمة التي يطلبها في صلاته لا تعفيه من الأنا. وهو وحده ما يؤهّله لفعل الخير. فهو في حاجة الى الله، لأنه يعترف به، وهو يبدأ، انطلاقا من الرحمة الالهية، أن يكون رحيما.والأنا لم يّنكر.غير أنه تحرّر فقط من الأدب المتشدّد ووُضع في اطار علاقة محبة،هي علاقة بالله، وهكذا يجد الأنا كماله الحقيقي.
ان موضوع "ملكوت" الله نجده حاضرا في مجمل تبشير يسوع. ولهذا فهو لا يُدرك الاّ انطلاقا من رسالته بكاملها. واذا قابلنا الآن احد المقاطع الأساسية من اعلان يسوع، وهو الخطاب على الجبل، نرى ان المواضيع التي تطرقنا اليها بسرعة هنا، هي مفصّلة بشيء من العمق. وخاصة أننا سنفهم بوضوح أن يسوع يتكلّم بوصفه الابن، وان العلاقة بين الآب والابن هي دائما موجودة وراء رسالته. وبهذا المعنى، يحتلّ الله دائما المكان الأساسي في الخطاب، وذلك لأن يسوع هو الله، الابن، وأن تبشيره بكامله انما هو اعلان عن سرّه الخاص، وهو يدور حول المسيح، أي انه كلام عن حضور الله في ما يعمل، وفي ما هو كيانه.وسنرى اذذاك كيف أن هذه النقطة تقضي بقرار، وكيف أنها، بالتالي ، تقود الى الصليب والقيامة.
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
لقد شبّه السيد المسيح ملكوت الله تشابيه كثيرة. لقد شبّهه بالزرع المنتشر في العالم،والذي تأكله الطير ويخنقه الشوك، والذي يخلطه الزؤان، ولكن الله في الآخرة سيفرّق بين القمح والزؤان. وهو يستأهل أن يبيع الانسان كل ما يملك ليقتني هذا الكنز الذي هو ملكوت الله. وطوبى للذين يعرفون أن يسعوا وراء هذا الملكوت ليقتنوه.
وانا منذ هذا المساء، نبدأ الرياضة الروحية السنوية التي يشارك فيها أصحاب السيادة المطارنة الموارنة السامي احترامهم، وهم آتون من جميع الأبرشيات المحلية، ومن بلدان الاغتراب. اننا نسألكم صلواتكم لتعود هذه الرياضة بالفائدة الروحية على القائمين بها وعلى أبنائهم المؤمنين في لبنان وبلدان المهجر.