نتأمل مع بندكتس 2-3-4 -5 -6 من يونيو

 السادس من يونيو

روما، الجمعة 6 يونيو 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي تأمل اليوم السادس من يونيو للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

الافخارستيا كاتحاد وجودي

إن المكنون الأعمق للتقوى القربانية المسيحية يتم التعبير عنه كطريقة تصرف… فهو يرتكز على "السر" (mysterion)، أي على تنازل وهبة ذات الله الذي نتلقاه في السر… بحسب 1 كور 6، 12 – 19، قبول الافخارستيا يعني أن يتحد كيان الإنسان بالله، وهو قريب رمزيًا وروحيًا، مما يحدث عندما يضحي الرجل وامرأته واحدًا على الصعيد الجسدي-الفكري-الروحي. إن حلم مزج الألوهة بالبشرية، وتحطيم حدود الخليقة – هذا الحلم الذي يستمر على مدى تاريخ البشرية؛ وبشكل خفي، في أشكال دنيوية، تحلم به من جديد حتى إيديلوجيات عصرنا الملحدة، كما هو الحال في السكر المفرط في عالم من دون الله – هذا الحلم يتحقق هنا. إن محاولة الإنسان التحرر من قيود ذاته من تلقاء ذاته، ولبناء برجٍ انطلاقًا من قواه الشخصية بغية الارتقاء صوب الألوهة، تبوء قسرًا ودومًا بالفشل والبؤس – لا بل، باليأس. هذا المزج، هذا الاتحاد، صار ممكنًا لأنه الله نزل في المسيح، وأخذ على عاتقه محدودية الوجود البشري، وتحمل آلامها حتى المنتهى، وبحب المصلوب اللامتناهي فتح أبواب اللامتناهي. إن غاية الخلق الحقة، وهدفها المكنون – وبالتالي غاية الوجود البشري كما أرادها الله – هي هذا الاتحاد بالذات، "أن يكون الله كلاً في الكل".

  الخامس من يونيو

 

لتسامي في مواجهة الانعزال

يأخذ الله ابراهيم من عائلته ويضعه في مسيرة معينة. في نهاية المطاف، على كل إنسان أن يقوم بخروجه. لا يجب عليه فقط أن يترك المكان الذي ترعرع فيه ويضحي مستقلاً، بل يجب عليه أن يخرج من ذاته المحفوظة. يجب عليه أن يدع نفسه جانبًا، أن يتجاوز محدوديته؛ عندها فقط يستطيع أن يصل إلى أرض الميعاد، إذا جاز التعبير – أي إطار الحرية، حيث يلعب دوره في الخلق. نكتشف أن قانون التسامي الأساسي هذا هو جوهر الحب. وبالطبع إن عمل شخص يحبني هو عمل من هذا النوع. يجب عليه أن يخرجني من الميل المريح الذي يبقيني أسير ذاتي… العزلة هي عكس ميل الإنسان الأعمق. إذا كانت العزلة تعني عدم اختبار الحب، وخبرة التخلي، والوحشة، فهذه الخبرة هي الخوف الكامن في كل مخاوفنا. لذا نرى من جديد أن الإنسان يُبنى من الداخل، على صورة الله، لكي يُحَب ويُحِب. أعتقد أنه يتوجب علينا هنا أن نتطرق إلى أن الإنسان مخلوق على صورة الله. الله محبة. يرتسم جوهر الحب طبقًا لطبيعة الثالوث الأقدس. الإنسان هو صورة الله، وبالتالي إنه كائن تتوجه ديناميكية كيانه الأعمق إلى قبول الحب ومبادلته.

 الرابع من يونيو

الليتورجية: رباطنا بالسماوات

يمثل مطلع البشرى السارة باقي ما تتضمنه؛ وأن يتلفظ به المرء هو بمثابة نفخ الروح القدس لكي يشرك الرياح الأربعة، مالئًا إياها ومحولاً إياها إلى جوهر الخير. بهذا الشكل يتم إعلان العالم كموضع كلمة الله الخلاقة؛ يتم إخضاع المادة لقوة الروح. لأن المادة أيضًا هي مخلوقة، وبالتالي هي حقل عمل لقوة نعمته. بالمقام الأخير، إنما نحن نتلقى من يديه خبز الأرض بالذات. ما أجمل الربط بين الخبز الافخارستي الجديد وخبزنا اليومي! الخبز الافخارستي يضفي بركته على الخبز اليومي، وكل رغيف من هذا الأخير يشير بصمت إلى ذلك الرب الذي أراد أن يكون خبزنا جميعًا. ولذا فالليتورجية تفتح آفاقنا على حياة كل يوم، على الحياة الأرضية واهتماماتها؛ وهي تتخطى حدود الكنيسة لأنها تضم بالواقع السماوات والأرض، الحاضر والمستقبل. ما أشد احتياجنا لهذه العلامة! الليتورجية ليست هواية فردية لجماعة محددة؛ إنها رباط يجمع السماوات والأرض معًا، إنها تتعلق بالجنس البشري في علاقته مع العالم المخلوق بأسره. في زياح عيد جسد الرب، يتم تجسيد رباط الإيمان بالأرض، وبالواقع بأسره، "بشكل جسدي"، عبر عمل المسير، ودوس الأرض، أرضنا.

 الثاني من يونيو

المعمودية والمعنى

تسهم المعمودية أيضًا في منح معنىً لحياة الإنسان، معنىً يتخطى البعد البيولوجي ويسمو عليه، فيصبح لهذه الحياة مبررًا للعيش. في زمن مثل زمننا، حيث يبدو المستقبل داكنًا، يتولد السؤال عما إذا كان أمرًا أخلاقيًا أن نأتي بأحد ما إلى العالم، وبالتالي أن نضع على عاتقه مسؤولية مستقبل لا يمكن أن نكون فيه إنسانيين حقًا. وبالواقع، إذا كنا لا نعرف ما إذا كان هناك معنىً في أن نكون بشرًا، فهبة الحياة يمكن تبريرها فقط إذا ما وهبنا الشخص الجديد شيئًا أكبر من الحياة البيولوجية. إذا كان بامكاننا أن نهبه، مع هذه الحياة، معنى نعرف أنه أقوى من كل ظلام التاريخ. هذا هو كنه المعمودية، الذي يدخل الإنسان في الصداقة مع المسيح. بهذا المعنى، يتم تبرير معمودية الأطفال. وتضحي مسألة مختلفة بالطبع عندما لا تنمو المعمودية في حضن رتبة الموعوظين. إذا ما بات هناك أشخاص يتمسكون بالمعمودية فقط كتعبير طقسي، فعندها، يطرح السؤال نفسه عن معنى هذه المعمودية في صميمها. المعمودية هي في الواقع أكثر بكثير من طقس يمنح العضوية في جماعة، كما يفهمها البعض في أيامنا. إنها عملية ولادة، ومن خلالها تتشرع أبعاد جديدة في الحياة.

 

الثالث من يونيو

القوة التي تقيم الثالوث المبارك

الروح لا يتكلم انطلاقًا من نفسه بل إنه إصغاء وتوضيح للابن، الذي بدوره لا يتحدث من سلطان نفسه، بل كالمرسل من الآب، وكحضوره الملموس. والآب أيضًا يهب ذاته بالكلية إلى الابن بشكل يكون فيه كل ما هو له خاصة الابن أيضًا. كل من الأقانيم الثلاثة في الثالوث الأقدس يشير إلى الأقنومين الآخرين. وفي دائرة الحب المتدفقة والمتداخلة، هناك المستوى الأسمى من الاتحاد والثبات، وهذا بدوره يمنح وحدة وثباتًا لكل الموجودات… إن ما يقيمنا هو حركة القلب والروح الذي يخلي ذاته وينطلق تجاه الآخر… فقط عندما يجعل كل مسيحي وجوده متوفرًا للكلمة على ممر الزمان، عندها يضحي الزمن بأسره منفتحًا على المسيح… الثالوث الأقدس يقدم لنا إذًا الوسائل التي بفضلها يستطيع الفرد والجماعة الكنسية شفاء تشرذم هذا العصر. لن نحل المشاكل التي تقض مضجعنا عبر عرض أطروحات، بل بالوسائل الروحية، وبالدخول في صورة الثالوث… إن إخلاء الذات الذي يعيشه من يشهد للمسيح، يضفي مصداقية على الكنيسة، تمامًا كما أدى إخلاء ذات المسيح شهادة أصيلة لذاته وللروح. بهذا الشكل يمكن للبعد العلائقي أن ينمي، ويتحقق هذا النمو ويسير قدمًا إلى ملء الحقيقة، حقيقة هي أغنى وأعظم من أي شيء نستطيع ابتكاره.

 

لتسامي في مواجهة الانعزال