نتأمل مع بندكتس 10-19 مايو

العاشر من مايو

روما، الأحد 11 مايو 2008 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي تأمل اليوم العاشر من مايو للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

التقوى المريمية الأصيلة

من الضروري أن نحافظ على خاصية التقوى المريمية، وذلك بالتحديد عبر عيشها بارتباط ثابت وصميم بالكريستولوجيا. بهذا الشكل، يبلغ كلاهما إلى شكلهما الخاص. لا يجب أن تنحسر التقوى المريمية إلى عناصر جزئية من السر المسيحي، التي إذا ما أُخِذت بمفردها تختزل السر بأبعاد جزئية منه. عليها أن تكون منفتحة على سعة السر بكامله وأن تصبح هي أيضًا وسيلة نحو هذه السعة. ستقوم التقوى المريمية دومًا على التوتر القائم بين العقلانية اللاهوتية والعاطفة المؤمنة. هذا جزء من جوهرها، ودورها هو ألا تسمح لأي من هذين القطبين أن يتناقص. لا ينبغي أن تؤدي بها العاطفة إلى تناسي مقياس العقل اليقظ، ولا عقلانية الإيمان اليقظ إلى خنق القلب، الذي غالبًا ما يرى أكثر من العقل المجرد. لهذا السبب اعتبر الآباء متى 5، 8 كمحور نظرية المعرفة اللاهوتية: "طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله". العضو لرؤية الله هو القلب المنقّى. ينبغي أن يكون واجب التقوى المريمية أن توقظ القلب وتنقيته بالإيمان. إذا كان بؤس الإنسان المعاصر نابعًا من تفككه إلى مجرد بيولوجي أو مجرد عقلاني، بإمكان التقوى المريمية أن تعمل ضد هذا "الانحلال" وأن تساعد الإنسان على اكتشاف محور الوحدة من جديد انطلاقًا من القلب.

 

الحادي عشر من مايو

إيمان مريم

تمامًا كما كان إيمان إبراهيم بدء العهد القديم، كذلك إيمان مريم الذي أظهرته في البشارة هو افتتاح العهد الجديد. بالنسبة لمريم، كما لإبراهيم، الإيمان هو ثقة بالله وطاعة له، حتى عندما يقودها في الظلمة. الإيمان هو تخلٍ، تسليم وتقدمة الذات للحق، لله. في الظلمة النيّرة التي تكتنف سبل الله التي لا تستقصى، الإيمان هو بالتالي امتثال له تعالىبقولها نعم لولادة ابن الله من أحشائها بقوة الروح القدس، تضع مريم جسدها، وكل كيانها بمتناول الله كموضع لحضوره. عبر نَعَمها، تتحد إرادة مريم بإرادة ابنها. تناغم هاتين "النَعَم" – "أعددت لي جسدًا" – تجعل التجسد ممكنًا، لأنه، كما يصرح أغسطينوس، مريم حبلت بالروح قبل أن تحبل بالجسد. مطابقة الإيمان للصليب، التي اضطر ابراهيم أن يعيشها بشكل جذري، صارت واضحة لمريم أولاً في لقائها مع سمعان الشيخ، ومن ثم، بشكل جديد، عبر ضياع ابنها البالغ من العمر 12 سنة وإيجاده من جديد في الهيكل… حتى وفي أوج الحميمية، يبقى السر سرًا، وحتى مريم تلمسه بالإيمان فقط. ولكن بهذا الشكل بالذات تبقى مريم على اتصال حقيقي بواقع كشف الله عن ذاته بهذا الشكل الجديد الذي هو التجسد. ولأنها تنتمي إلى "الصغار" الذين يقبلون مقاييس الإيمان، تدخل مريم في إطار الوعد: "يا أبتاه،… لقد أخفيت هذه الأمور على الحكماء والأذكياء وكشفتها للأطفالما من أحد يعرف الابن إلا الآب".

الثاني عشر من مايو

مريم تابوت العهد

إن سبب حزننا هو عقم حبنا، ووقر المحدودية، والموت، والألم والزور الساحق. نحن حزانى لأننا متروكون وحدنا في عالم متناقض حيث تخترق علامات الصلاح الإلهي الغامضة الثغرات، ولكن قوة الظلام تزعزعها زارعةً الشك بمسؤولية الله أو كاشفةً عن عجزه. "إفرحي" – ولكن أي داعٍ يدعو مريم إلى الفرح في عالم مثل هذا؟ الجواب: "الرب معك"… يسوع، الذي صارت مريم أهلاً للحمل به، هو يهوه، الآتي ليقيم فيها. عندما يأتي يسوع، هو الله عينه الذي يأتي ليحل فيها. هو المخلص – هذا معنى اسم يسوع، الذي يأتي بوضوح من قلب الوعدوتصبح مريم تابوت العهد الحق في إسرائيل، فيحوز رمز التابوت قوة واقعية لا تصدَّق: الله في جسد الخليقة… إن مريم هي بكليتها في مقياس المسيح والله، إنها موقع سكناه. وأي داعٍ آخر لوجود الكنيسة إلا أن تضحي سكنى الله في العالم؟ لا يتعامل الله بالمجردات. إنه شخص، والكنيسة شخص. وبقدر ما يصبح كل منا شخصًا، شخصًا بمعنى أن يضحي سكنى تليق بالله، ابنة صهيون، بقدر ما نصبح واحدًا، بقدر ذلك نضحي كنيسةً، والكنيسة تحقق ذاتها.

 

13

 

الرابع عشر من مايو

معنى الصعود

ما معنى "صعود المسيح إلى السماوات"؟ إنه يعبر عن إيماننا أن الطبيعة البشرية، تلك الطبيعة التي نتشارك بها جميعنا، ولجت، بفضل المسيح في قلب حياة الله بطريقة جديدة وبشكل لا سابق له. يعني أن الإنسان وجد مكانًا أبديًا في الله. ليست السماء مكانًا وراء النجوم، بل أكثر بكثير، إنها أمر يطلب جرأةً أكبر في التعبير: السماء تعني أنه بات للإنسان الآن مكانًا في الله. يرتكز هذا التعبير على تداخل البشرية والألوهية الحميم الذي تم في الإنسان يسوع المصلوب والقائم. المسيح، الإنسان القائم في الله والمتحد أزليًا بالله، هو في الوقت عينه انفتاح الله الثابت على كل البشر. وعليه، فيسوع نفسه هو "السماء"؛ ليست السماء مكانًا بل شخصًا، شخصه ذاك الذي بات فيه الله والإنسان واحدًا إلى الأبد ودون انفصال. ونحن نذهب إلى السماء ونلج إليها بقدر ما نذهب إلى يسوع المسيح وندخل فيه. بهذا المعنى، يمكن أن يكون "الصعود إلى السماء" شيئًا يحدث في حياتنا اليومية… بالنسبة للتلاميذ، لم يكن "الصعود" ما نسيء اليوم فهمه: أي غياب يسوع المؤقت من هذا العالم. بل هو يعني حضوره الجديد، والنهائي والذي لا رجوع عنه، عبر مشاركته في جبروت الله الملوكي… هناك مكان للإنسان عند الله!… هناك مكان لنا في الله!… "تعزى أيها اللحم والدم، ففي المسيح قد نلت السماء وملكوت الله" (ترتليانوس).

 

الخامس عشر من مايو

تحول الإيمان

عندما نلتقي بالمسيح، يحدث ما يعرف باللاهوت بـ "التبادل الحواري"، أي التبادل الداخلي في "الأنا" الجديد الذي ألج فيه وأمتزج به عبر تحوّل الإيمان. وبالتالي، لا يعود الآخر غريبًا بالنسبة لي؛ فهو أيضًا ينتمي إلى هذا الـ "أنا" الكبير. والمسيح يريدني أن أستعمل طاقاتي بالنيابة عنه… حتى عندما تنتفي الجاذبية المتبادلة بيننا، يمكنني الآن أن أنقل إليه نَعَمي كنَعَم المسيح التي تنفذ إلى كل كياني، والتي تبقى مع ذلك نَعَمه هو. إن تعاطفي ونفوري الشخصيين قد تم استبدالهما بتعاطف المسيح، باشتراكه في آلامنا وحبنا. عبر هذه الشركة في تعاطف المسيح الذي بات خاصتي بفضل حياة الإيمان،  يمكنني العبور إلى تعاطف، إلى نعم، أكبر من نعمي وبوسعي أن أجعل الآخرين يختبرون هذه النعم الأعمق التي وحدها تمنح معنى وثباتًا لكل نعم إنسانية… هذا الأمر يتطلب تمرسًا، وطول أناة، ووعيًا أنه سيكون هناك دومًا انكفاء إلى الوراء. كما ويفترض أن أكون قد بلغت في حياة الإيمان إلى مقايضة أناي بأنا المسيح وأن نعمه قد تغلغل حقًا فيّ وصار خاصتي. ويفترض أيضًا التمرس: مجازفة أن أحقق في حالة ملموسة ما يريد المسيح مني – عبور هذه النَعم منه إلى الآخر. لأنه فقط انطلاقًا من مجازفة أولية غير اعتيادية وحتى غامضة تنمو قدرة القيام بهذا الأمر وتصبح أكثر فأكثر مفهومة في الإطار الفصحي: إماتة الذات هذه تقود إلى فرح داخلي عميم إلى "القيامة".

 

16

17

 

الثامن عشر من مايو

فسحة رجاء لعدم أمانتنا

يتسلم بطرس رسالته من المسيح القائم. يتم اللقاء على ضفاف بحيرة طبرية. يخبرنا يوحنا الإنجيلي عن الحوار. هناك لعب مهم على الكلام. باليونانية، كلمة "فيليو" تعني محبة الصداقة، وهي محبة حنان ولكنها ليست شمولية؛ بالمقابل كلمة "أغاباو" تعني حبًا دون حدود، كليًا وغير مشروط. يسأل يسوعُ بطرسَ مرةً أولى: "سمعان… أتحبني (أغاباس-مي)" حبًا كليًا وغير المشروط؟ (يو 21، 15). قبل خبرة الخيانة، كان الرسول ليقول بكل تأكيد: "أحبك (أغابو-سي) بلا شروط". أما الآن وقد خبر حزن ومرارة عدم الأمانة، ومأساة ضعفه، يقول بتواضع: "يا رب أنت تعرف أني أحبك (فيلو-سي)"، أي "أنا أحبك بحبي البشري الضعيف". ويصر المسيح: "سمعان، هل تحبني ذلك الحب الكلي الذي أريد؟" ويكرر بطرس جواب الحب البشري المتواضع: "كيريي، فيلو-سي"، "يا رب، أحبك بحسب قدرتي على الحب". المرة الثالثة، يقول يسوع لسمعان: "فيلييس-مي؟"، "هل تحبني؟" ويفهم بطرس أن حبه الفقير هو كافٍ ليسوع، فهو الحب الوحيد الذي يستطيعه، ولكنه يحزن لأن الرب تحدث إليه بهذا الشكل. ولذا يجيب: "يا رب، أنت تعرف كل شيء، أنت تعرف أني أحبك (فيلو-سي)". هذا يعني أن يسوع وضع نفسه على مستوى بطرس، وليس بطرس من رفع نفسه إلى مستوى يسوع! هذه المطابقة الإلهية بالضبط، هي التي تمنح الرجاء للتلميذ الذي اختبر ألم عدم الأمانة. تتولد من هنا الثقة التي تمكنه من اتباع المسيح إلى المنتهى.

 

التاسع عشر من مايو

الكاهن كوسيط

أولية المسيح تجعل الكاهن متواضعًا حتى عندما تمنحه الحرية. كما وتدلنا على الدرب السوي. إنها تعني أن على الكاهن أن يعرف في قلبه أن مقامه هو إلى جانب الكنيسة، الشعب الذي يقف خارجًا أمام قدس الأقداس ويتكل على شفاعة من يستطيع وحده أن يلج إلى ما وراء الحجاب… على موضوعية الخلاص أن تجعل الكاهن موضوعيًا. فهو يبشر لا بنفسه، بل يعلن إيمان الكنيسة، وبهذا الإيمان، يسوع المسيح الرب… قداسة الكاهن تتألف في صيرورته فقيرًا روحيًا، في أن ينقص أمام الآخر، في خسران نفسه لأجل الآخر: من أجل أولئك الذين أوكلهم إليه الربعندما أذهب إلى الكنيسة، لا أذهب لأجد ابتكاراتي أو ابتكارات الآخرين، بل لألاقي ما تلقيناه كلنا من إيمان الكنيسة – الإيمان الذي يمتد على مدى العصور والذي يستطيع أن يكون سندًا لجميعنا. بالطبع، على المكنون الموضوعي لإيمان الكنيسة، إذا ما أراد أن يبقى حيًا، أن يلبس لحم ودم الكائنات البشرية، وهبة فكرنا وإرادتنا. ولكن يجب أن يكون هبةَ، لا مجرد تقدمة لحظة. يفشل الكاهن في مهمته كلما توقف عن أن يكون خادمًا: إنه وكيل يعرف أن الإيمان لا يعتمد عليه بل على ما يستطيع أن يتقبله هو بدوره. فقط عندما يفسح لنفسه أن يصبح غير مهم عندها يستطيع أن يضحي مهمًا، لأنه، بهذا الشكل، يضحي نافذة الرب إلى العالم – الرب الذي هو الوسيط الحق لشفافية الحب اللامتناهي.