لنتأمل مع بندكتس 7-8-9-10-11 من يونيو

السابع من يونيو

روما، الأحد 8 يونيو 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي تأمل للبابا بندكتس السابع عشر، من كتاب "بندكتس".

تكثير الأرغفة

 توقع البشر في الأزمنة المشيحية أن يتم تكرار معجزة المنّ. كانوا يعتقدون أن المسيح سيبرهن عن هويته، بحيث سيكون لكل شخص ما يكفيه من الخبز ليقتات، وأن الخبز سينزل من جديد من السماء. أما نية يسوع فهي نقل أعجوبة المنّ إلى بعد مختلف. وأن يقوم بهذا الأمر بالافخارستيا. بواسطة الخبز الذي يهب فيه نفسه، والذي فيه يتم من الآن وصاعدًا تكثير الأرغفة على مرّ التاريخ، وصولاً إلى يومنا هذا. بنوعٍ ما، يمكنه أن يتقاسم نفسه إلى ما لا نهاية. وعبر مشاركة الخبز، يحرز يسوع تقدمًا في أعجوبة المنّ المتجدد هذا، ففي هذه الأعجوبة، يكرر أعجوبة المنّ القديمة، ولكن بشكل مختلف تمامًا، بشكل يمكننا وصفه بالأكثر اتضاعاً، ولكن بالوقت عينه أكثر تطلبًا. من حيث العمق، هذه الأعجوبة هي أعظم بكثير. وهذا الخبز لا ينزل ببساطة من السماء؛ بل هو يتضمن أيضًا الاشتراك في معية البشر، وهبة الذات المتبادلة – وهي أمور لا تنزل ببساطة من السماء.

 

الثامن من يونيو

عيد جسد الرب والرجاء

 
إن الله بالذات هو حوار حب أزلي، ولهذا السبب فقط يمكننا أن نخاطب وأن تتم مخاطبتنا. فقط لأنه علاقة يمكننا أن نقيم علاقة معه؛ فقط لأنه محبة يمكنه أن يحِب وأن يحَب بالمقابل. وفقط لأنه ثالوث يمكنه أن يكون حبة الحنطة التي تموت وتعطي خبز الحياة الأبدية. في المقام الأخير، إن عيد جسد الرب هو وجه من مختلف وجوه الحب، في ما هو وفي ما يفعل. يقول توما الأكويني بشكل رائع في أحد أناشيد عيد جسد الرب: "nec sumptus consumitur" – الحب لا يفنى: بل هو يعطي، وإذ يعطي يتلقى. وإذ يعطي نفسه فهو لا يفنى بل يجدد نفسه. وبما أن عيد جسد الرب هو اعتراف إيمان بالحب، من اللائق بأن يتم التركيز في هذا النهار على سر التحول الجوهري. الحب هو تحول جوهري، هو تغيير. يقول لنا عيد جسد الرب: نعم، الحب موجود، وبالتالي هناك تحول، هناك رجاء. والرجاء يمنحنا قوة العيش ومواجهة العالم. لربما كان جيدًا أننا اختبرنا بعض الشكوك حول معنى الاحتفال بعيد جسد الرب، فهذه الشكوك أدت بنا إلى إعادة اكتشاف هذا العيد، الذي نحتاجه اليوم أكثر من ذي قبل

 

التاسع من يونيو

 الصلة بين الفرح والموت

 ما من شيء يستطيع أن يجعل الإنسان يضحك ما لم يكن هناك جواب على الموت. وبالمقابل، إذا كان هناك جواب على الموت، فعندها يضحي الفرح الأصيل ممكنًا – والفرح هو ركيزة كل احتفال. إن الافخارستيا في جوهرها هي الجواب على مسألة الموت، لأنها اللقاء مع ذلك الحب الذي هو أقوى من الموت. عيد جسد المسيح هو تفعيل لهذا البعد المحوري في السر الافخارستي. مرة في السنة يبين هذا العيد عبر تعبير علني من الفرح لظفر المسيح، بينما نرافق المنتصر في مسيرة ظافرة عبر الشوارع. دون أن نقلل من أولية القبول المتمثلة بهبة الخبز والخمر، يبين هذا العيد، وللمرة الأولى، معنى "القبول"، أي أن نهب الرب الاستقبال اللائق بالمنتصر. أن نقبله يعني أن نعبده؛ أن نقبله يعني أن نتجرأ أن نقوم بكل ما بوسعنا… إن القوة التي تحمل هذا النهار لا يمكن أن تكون إلا قوة فرحه هو. الوحدة لا تتحقق عبر الجدل، ولا عبر البراهين الأكاديمية بل عبر تألق فرح الفصح… يؤدي هذا الأمر إلى لب إنسانيتنا، التي تتوق إلى الفرح بكل جوارحها. ولذا فرح الفصح هو أساسي لكل نشاط مسكوني وإرسالي؛ هذه هي النقطة حيث يجب على المسيحيين أن يلتقوا. وهذا هو أيضًا الهدف من عيد جسد الرب… لندع الجمال يشع بكل تألقه عندما نأتي لنعبّر عن فرح الأفراح. الحب أقوى من الموت؛ الله حاضر في وسطنا بالمسيح يسوع.

العاشر من يونيو

عيد جسد الرب والعرفان

صرح المجمع التريدنتيني أن الغاية من عيد جسد الرب هي توليد العرفان في قلوب البشر وتذكيرهم بربهن المشترك. لدينا هنا بشكل مكثف أهداف ثلاثة: لقد تأسس عيد جسد الرب ليواجه نزعة الكائن البشري إلى النسيان، وليحرك عرفانه، وهناك أمر يتعلق بالرفقة، أي تلك القوة التي تعمل في البشر عندما ينظرون إلى الرب الواحد. يمكننا الكلام بإسهاب عن هذا الموضوع؛ فبسبب حواسيبنا، واجتماعاتنا ومواعيدنا بتنا متناسين ومهملين بشكل مفزع. يقول لنا علماء النفس أن قدرتنا الفكرية، ووعينا اليومي هو فقط الطبقة السطحية مما يؤلف نفسنا بالكلية. ولكننا مقيدون بشكل كبير بهذا الوعي السطحي لدرجة أن ما يوجد في بعد أعمق لا يتم التعبير عنه. في المقام الأخير، يضحي الإنسان مريضًا بسبب نقص الأصالة؛ ولا يعيش كإنسان فاعل من بعد: بل يضحي ألعوبة الصدفة والسطحية. هذا الأمر يرتبط بعلاقتنا بالزمان. فعلاقتنا بالزمن تتصف بالنسيان. نعيش للحظة الراهنة. بالواقع نحن نريد أن نتناسى، لأننا لا نريد أن نواجه الشيخوخة والموت. ولكن رغبة النسيان هذه هي في الواقع رياء: تتحول فجأة  إلى إلحاح عدواني يطلب المستقبل، كوسيلة لتدمير الزمان. ولكن على كل حال، إن رومنسية المستقبل هذه، ورفض التسليم للزمان، هما رياء أيضًا، كذب يدمر الإنسان والعالم على حد سواء. السبيل الوحيد للتحكم بالزمان، هو في الواقع درب الغفران والعرفان حيث نتلقى الزمان كهبة، وبروح عرفان نقوم بتحويله

 

الحادي عشر من يونيو

الافخارستيا: نموذج العبادة الجوهري

يمثل الصليب في الكتاب المقدس التعبير عن الحياة الموهوبة بالكلية إلى الآخرين. ليس الإنسان مَن يذهب إلى الله بتقدمة تعويضية، بل الله نفسه يأتي إلى الإنسان، لكي يهبه ذاته. يقوّم الله العدل المهشّم عبر مبادرة قوة حبه، حيث يجعل الإنسان الخاطئ بارًا من جديد، والميت حيًا من جديد، وكل ذلك عبر رحمته الخلاقة. يظهر الصليب في العهد الجديد بشكل أولي كحركة من العلاء إلى الأسفل. لا يقف كعلامة للتكفير الذي تقدمه البشرية لإرضاء إله ساخط، بل كتعبير عن جنون حب الله الذي يبذل نفسه حتى الاتضاع بغية افتداء الإنسان؛ إنه دنو الله منا وليس العكس… العبادة أيضًا، وكامل الوجود البشري يأخذ اتجاهًا جديدًا في المسيحية. تتألف العبادة في المسيحية قبل كل شيء في قبول عمل الله الخلاصي. نموذج العبادة المسيحية الأول يسمى بحق "افخارستيا"، شكران. في نموذج العبادة هذا، لا يتم عرض المساعي البشرية أمام الله؛ بل بالعكس، يتألف هذا النموذج من تقبل الإنسان للهبات؛ لا نمجد الله عبر تقدمة مواردنا… بل عبر السماح له بأن يسبغ علينا مواهبه معترفين بالتالي بأنه الرب الأوحد. نعبده عندما نخلع عنا عالمًا وهميًا نكون فيه أمام الله شركاء عمل مستقلين… التقدمة المسيحية لا تتألف في أن نهب الله ما قد لا يملك من دوننا، بل في أن نضْحي منفتحين بالكامل عليه بحيث نسمح له أن يمتلكنا بالكلية. أن نفسح المجال لله أن يعمل فينا: هذا هو كنه التقدمة المسيحية.