عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 8/6/08

بكركي، الأحد 8 يونيو 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، والتي واصل فيها الحديث عن كتاب البابا بندكتس السادس عشر: يسوع الناصري.

"نواصل الحديث عن كتاب البابا بندكتس السادس عشر: "يسوع الناصري", فنرى انه يتحدث عن خطبة يسوع على الجبل.

العظة على الجبل

بعد التجارب, نجد لدى متى حكاية قصيرة عن خدمة يسوع التي فيها عرض الجليل, على انه "جليل الامم", اي المكان الذي تنبأ عنه الانبياء حيث يشرق النور الكبير. وهكذا يجيب متى على الذين يتعجبون من ان الرب لم يأت من اورشليم واليهودية, بل من بقعة ارض معتبرة منذ زمن كأرض وثنية. هذا التفصيل الذي يعتبر, في عين اكبر عدد من الناس, كعنصر ليس في مصلحة ارسال يسوع المسيحاني – الواقع انه يأتي من الناصرة – هو البرهان على ان رسالته الالهية. منذ البدء وحتى بدقائق التفصيل, يلجأ متى, الى العهد القديم لصالح يسوع. ان ما تقوله اساسا رواية لوقا, دون ان تتوسع فيه, عن مماشاة يسوع تلميذي عماوس اي ان جميع الكتب تعود اليه, حاول متى ان يظهره في جميع دقائق حياة يسوع.

علينا ان نعود لاحقا الى ثلاثة عناصر من بداية متى المختصرة المتعلقة بنشاط يسوع. أما في ما خص تبشير يسوع, هناك اولا الاشارة وما فيها من محتوى جوهري وهو يختصر مجمل رسالته: "توبوا, لأن ملكوت (اي سيادة) السماء قريب. وبعد ذلك تأتي دعوة الاثني عشر, في اشارة رمزية, هي في الوقت ذاته عمل ملموس, يعلن فيها يسوع, ويبدأ تجديد شعب الاثنتي عشر قبيلة, اي دعوة اسرائيل الجديدة. واخيرا, على ما نراه توا الآن, ان يسوع ليس فقط سيدا, بل فادي الانسان بكامله. ان يسوع الذي يعلم هو ايضا يسوع الذي يشفي.
في بضع سطور, اي في اربع عشرة اية, يرسم متى امام سامعيه لوحة اولى عن شخص يسوع وعمله. وتأتي بعدئذ, "عظة الجبل" في ثلاثة فصول. ما هي المسألة؟ ان متى, في هذا الفصل الكبير في شكل خطاب, يقدم لنا يسوع على انه موسى الجديد, وذلك في المعنى العميق الذي اتضح لنا سابقا, على اثر الوعد الذي قام به احد الانبياء في سفر تثنية الاشتراع.

ان الآية التي تبدأ الفصل, تعني اكثر من اطار عابر: "عندما رأى يسوع الجموع, صعد الى الجبل, وجلس, واقترب منه تلاميذه. اذذاك فتح فاه, وراح يعلمهم. وهذا ما يدل على ما له من سلطة, واخذ مكانا على "المنبر" الذي هو الجبل. وسيتكلم لاحقا عن الحاخامين الذين جلسوا في مقعد موسى، وهذا ما خلع عليه ما كان له من سلطة: ويجب التسليم بتعليمهم ولو كانت حياتهم تسير خلاف ما يعلمون، ولو لم يكونوا هم السلطة، وقد خلعها عليهم آخر. وجلس يسوع على "المنبر" كمعلم اسرائيل ومعلم البشرية عموما. ذلك ان متى – وهذا ما يظهره تحليل النص – لا يقصر كلامه على حلقة "التلاميذ"، الذين يتوجه اليهم بخطابه، فمن يسمع ويقبل الكلمة في امكانه ان يكون "تلميذا".
في المستقبل، المهم لا يكون الاصل، بل مسألة السماع والاتباع. ان تكون تلميذا هي امكانية في مقدور كل من الناس. كل الناس مدعوون. وعلى قاعدة سماع الكلمة، يولد اسرائيل جديد اشمل، اسرائيل متجدد، لا ينبذ ولا يلغي القديم، لكنه يتخطاه بفتحه اياه على ما هو شامل.

جلس يسوع على كرسي موسى، ولكن ليس كالمعلمين الذين تعلموا وظيفتهم في المدارس. وجلس هناك كموسى كبير مد عهده الى جميع الشعوب. ومفهوم الجبل يظهر جليا. ولا يقول لنان الانجيلي اي جبل من جبال يهوذا عنى. ولكن بما ان المسألة تتعلق بمكان الخطاب، فهذا يعني ببساطة "الجبل"، سيناء الجديد. "الجبل" هو مكان صلاة يسوع، ومواجهته للاب، ولهذا فهو المكان الذي يعلم فيه، ويخاطب الاب مخاطبة حميمة. "الجبل" يثبت في حد ذاته هويته، كجبل سيناء، وسيناء النهائي.

اي فرق بين هذا "الجبل" وكتلة الحجارة الضخمة الواقعة في الصحراء، وفقا للتقليد، ان جبل التطويبات هو مرتفع من الارض يقع شمالي بحيرة جناشر: ومن ذهب اليها يوما يحتفظ مطبوعا في نفسه المنظر الوسيع الذي يبدو امامه، ومياه البحيرة، والسماء والشمس، والاشجار والخمائل، والازهار وغناء العصافير، لا يمكنه ان ينسى هذا الجو الخلاب من السلام، وجمال الخلق، الذي يلقاه في ارض، لسوء الطالع، معذبة.
ايا يكن من امر "جبل التطويبات" هذا، فهو قد حمل، بنوع او بآخر، علامة هذا السلام وهذا الجمال. ان المنعطف الذي يمثله الاختبار الذي عاشه النبي ايليا على سيناء، ايليا الذي شعر بمرور الرب ليس في العاصفة، ولا في الهزة الارضية، ولا في النار، بل في حفيف النسيم الخفيف، وجد هنا كماله. ان الله يظهر الان قدرته في العذوبة، وعظمته في البساطة والاقتراب. وفي الواقع، ان هذه القدرة لا يسبر غورها. وان ما كان يعبر عنه سابقا بالعاصفة، والهزة الارضية، والنار، اخذ الان صورة الصليب، الاله المتألم، الذي يدعونا الى الدخول في هذه النار السرية، نار المحبة المصلوبة: "طوبى لكم اذا عيروكم واضطهدوكم.."ان قدرة الكشف في سيناء أخافت الشعب خوفا حمله على القول لموسى: "أنت، كلمنا فنسمع، لكن لا يكلمنا الله لأن ذلك يميتنا".

الآن يتكلم الله قريبا منا، إنه إنسان يكلم أناسا. وهو الآن واضع نفسه حتى إلى أعماق الألم، ولكنه يحمل وسيحمل دائما سامعيه-الذين يظنون أنهم تلاميذه-على القول: "إن ما يقوله لا يطاق، فلا يمكننا سماعه". جودة الرب الجديدة هذه لا تمر بسهولة. كثيرون هم الذين يجدون فضيحة الصليب غير مقبولة أكثر من الصاعقة على سيناء بالنسبة إلى الإسرائيليين. أجل إنهم كانوا على حق في قولهم: "لو كان الله يتكلم معنا، لكنا متنا".لأنه بدون "موت" وبدون غرق ما هو لنا فقط، لا وجود لشراكة مع الله ولا فداء، والوساطة في ما خص العماد قد اظهرت ذلك، ويستحيل رد هذا السر إلى طقس بسيط.

لقد سبقنا ما بإمكان التفكير وحده بالنص أن يظهره تماما، ويجب أن يكون واضحا الآن أن "الخطبة على الجبل" هي التوراة الجديدة التي حملها يسوع. لم يستطع موسى أن يأتي بتوراته إلا بدخوله أولا في ظلمة الله على الجبل. إن توراة يسوع تتضمن هي أيضا الانغماس في الشراكة مع الآب والعناصر الداخلية من حياته، هذه العناصر التي تتواصل بالنزول إلى مشاركة الناس في حياتهم وآلامهم. منذ البداية يضع إطارا خارجيا مختلفا. الخطبة على الجبل لديه تسبقها فورا دعوة الإثني عشر، وهي دعوة يقدمها على أنها ثمرة ليل أمضاه في الصلاة ويجعله على الجبل المكان المعتاد لصلاة يسوع. وبعد هذا الحدث الأساسي في مسيرة يسوع، ينزل الرب من الجبل صحبة الإثني عشر الذين اختارهم وسماهم بأسمائهم. ووقف منتصبا في الصحراء. بالنسبة إلى لوقا، إن انتصابه واقفا هو تعبير عن عظمة يسوع وسلطته. والسهل هو تعبير عن فسحة كبيرة يرسل فيها يسوع كلامه، فسحة كبيرة يشدد عليها لوقا بقوله انه ما خلا الإثني عشر الذين نزل برفقتهم من الجبل، كان حاضرا عدد كبير من التلاميذ وجمهور من الناس أتوا من اليهودية كلها وأورشليم وشاطىء صور وصيدا الذين كانوا قد أتوا ليستمعوا إليه ويستشفوا من أمراضهم. إن معنى الخطبة الشامل والواضح في هذا المشهد له ما يتميز به وهو أن لوقا على مثال متى يقول على التو: "ان يسوع ما إن رأى تلاميذه حتى قال … إن هاتين الوجهتين متلازمتان: الخطبة على الجبل تتوجه الى كل الناس، في الحاضر والمستقبل، لكنها تطلب ان يكون هناك تلميذ، ولا يمكن فهمه وعيشه الا اذا تبعنا يسوع ورافقناه.

ان الافكار التي تلي لا تدعي انها تشرح آية آية الخطبة على الجبل. اني ارغب في ان اختار ثلاثة مقاطع تبدو فيها لنا رسالة يسوع وشخصه واضحين كل الوضوح. اولا يتناول الامر التطويبات. ثانيا اود ان اتأمل في صيغة التوراة الجديدة على ما عرضها يسوع. هنا انه يحاور موسى مع تقاليد اسرائيل. ان العالم اليهودي الكبير يعقوب نوسنر، في كتاب له هام، اختلط نوعا ما بالذين سمعوا الخطبة على الجبل ليفتح لاحقا حوارا مع يسوع اسماه:حاخام يخاطب يسوع. هذا النقاش المحترم والصادق الذي قام به هذا اليهودي المؤمن مع يسوع ابن ابراهيم، فتح عيني، اكثر من تفسيرات للخطاب على الجبل اعرفها، على عظمة كلمة يسوع، وعلى القرار الذي يواجهنا به الانجيل. ولذلك ارغب هنا ان اتدخل كمسيحي في الحوار الذي قام بين يسوع والحاخام، لافهم خير فهم، انطلاقا من ذلك، ما هو اصلا يهودي، وما يشكل سر يسوع. واخيرا، هناك قسم كبير من الخطبة على الجبل مكرس للصلاة. وكيف بالامكان ان يكون الامر خلاف ذلك؟ ان هذا الجزء الاخير من الابانا الذي اراد يسوع ان يعلم تلاميذه في كل زمن ان يصلوا لكي يضعهم في مواجهة وجه الله ويقودهم هكذا على طريق الحياة.

ان الخطاب على الجبل هو شرعة المسيحيين. وقد طوب فيه يسوع المسيح المساكين بالروح والودعاء والحزانى والجياع والعطاش الى البر، والرحماء والانقياء القلوب وفاعلي السلام والمضطهدين من اجل البر، وطوب المفترى عليهم، ان كل هؤلاء لهم اجر عظيم في السماوات.

ما ابعدنا عن هذه التطويبات وروحها، عندما نتزاحم على مقاعد السلطة، وجني المكاسب، واقتعاد مقاعد الصدارة، ونتغاضى عن مصالح الشعب الكادح وخبزه اليومي. هناك نظرة الى الحياة اليومية يجب ان نعود اليها، وهي نظرة الانجيل الذي يعلم الفضائل المسيحية وفي رأسها الصفح عن الاساءة، والتغاضي عن الاذى والمحبة المسيحية الحقيقية.

نسأل الله، ان يهدينا فيما نحن نتخبط للوصول الى حال الاستقرار، سواء السبيل".