حوار الرسالات… البداية من مكة

الاتحاد الاماراتية، 12\\6\\2008

 

لعل أول سؤال يفرض نفسه في معرض مراجعة نتائج المؤتمر الإسلامي العالمي الأول للحوار الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي هو: لماذا كان هذا المؤتمر؟ ولماذا عُقد في مكة المكرمة بالذات؟ ولماذا بادر الملك عبدالله بن عبد العزيز نفسه بالدعوة إليه؟ ولماذا حرص على رعايته وحضوره؟

لا شك أن العاهل السعودي أدرك حجم ونوع التحديات التي تواجه الإسلام والعالم الإسلامي.

 

ولعل أهم وأخطر هذه التحديات هي التي تنطلق من الداخل الإسلامي. وقد أشار الملك عبدالله إلى ذلك في الكلمة التي افتتح بها المؤتمر وقال: "ما أعظم قدر هذه الأمة، وما أصعب تحدياتها في زمن تداعى الأعداء من أهل الغلو والتطرف من أبنائها وغيرهم على عدل منهجها. تداعوا بعدوانية سافرة استهدفت سماحة الإسلام وعدله وغاياته السامية، لهذا جاءت دعوة أخيكم لمواجهة تحديات الانغلاق والجهل وضيق الأفق، ليستوعب العالم مفاهيم وآفاق رسالة الإسلام الخيرة دون عداوة واستعداء". ومن هذه التحديات أيضاً الحملة الاستعدائية ضد الإسلام والتي تنطلق من خارج العالم الإسلامي، وقد أشار الملك عبدالله إلى هذا التحدي داعياً إلى مواجهته بأخلاق إسلامية قائمة على قاعدة آيتين قرآنيتين، أولاهما: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم"، أما الثانية فهي: "أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن". كان الهدف من المؤتمر هو تأصيل الحوار الإسلامي مع أهل الرسالات الإلهية. وقد جرت مناقشات مطوّلة حول هذا الموضوع الذي اختصره العاهل السعودي في كلمته الافتتاحية بقوله: "سيكون الطريق للآخر من خلال القيم المشتركة التي دعت إليها الرسالات الإلهية، والتي أنزلت من الرب -عزّ وجل وتعالى- لما فيه خير الإنسان والحفاظ على كرامته، وتعزيز قيم الأخلاق، والتعاملات التي لا تستقيم والخداع، تلك القيم التي تنبذ الخيانة، وتنفر من الجريمة، وتحارب الإرهاب، وتحتقر الكذب وتؤسس لمكارم الأخلاق والصدق والأمانة والعدل، وتعزّز مفاهيم وقيم الأسرة وتماسكها وأخلاقياتها التي جارَ عليها هذا العصر وتفككت روابطها، وابتعد الإنسان فيه عن ربه وتعاليم دينه". عندما وضعت رابطة العالم الإسلامي جدول أعمال المؤتمر الذي شاركت فيه خمسمائة شخصية علمية وفكرية إسلامية من المذاهب المختلفة، أرادت استبعاد أي موضوع سياسي، وتركز جدول الأعمال على ثلاثة محاور، الأول هو تأصيل الحوار فقهياً، والثاني تحديد القضايا التي يمكن التحاور بشأنها مع أهل الأديان الأخرى، أما الثالث فهو وضع آلية منهجية للحوار.

 

وقد التزم كل من مفتي المملكة العربية السعودية وإمام الأزهر الشريف، بهذه المحاور في مداخلاتهما. غير أن هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران خرج عن هذا الإطار وأفاض طويلاً (32 دقيقة) في الشؤون السياسية العامة في العديد من الدول الإسلامية (العراق، لبنان، السودان، أفغانستان، باكستان…)، ومع ذلك فقد أكد على موقف مبدئي أساسي وهو "أننا إذا أردنا الحوار مع أتباع لأديان الأخرى فعلينا أن نبدأ الحوار بيننا وبين أنفسنا وأن نحدد مسيرة إسلامية محددة نتفق عليها ونتفاهم حولها ونسير في هذا الطريق بتوحيد رؤانا ولنعبّر عن الرؤية الإسلامية في حوارنا مع الآخرين".

 

لقد حرص الملك عبدالله على أن يستضيف المؤتمر في قصر الصفا. وقد سُمي كذلك لأنه يقع فوق كتف جبل الصفا حيث يمارس المسلمون إحدى شعائر الحج (السعي بين الصفا والمروة)، وقد شهد هذا القصر لقاء المصالحة الأول بين حركتي "فتح" و"حماس". كما شهد لقاء المصالحة الأول بين العلماء المسلمين السنّة والشيعة العراقيين. وإذا كان اللقاءان قد تعثرا، فلأن الذين التقوا كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. غير أن الحوارات التي جرت بين علماء المسلمين هذه المرة كانت صريحة وجريئة وواضحة تعبّر عما في النفوس، خاصة لجهة جدلية العلاقة بين الحوار والدعوة، وقد عكس البيان الختامي التوافق على فقه الحوار وتأصيله، وهذا أمر جديد، إذ أكد على أن "الحوار منهج قرآني أصيل وسنّة نبوية درج عليها الأنبياء في التواصل مع أقوامهم، وتقدم السيرة النبوية العطرة منهجاً واضح المعالم مع نصارى نجران، لا تخطئه عين المتأمل في حوار النبي ومراسلاته لملوك الأمم وعظمائها، فكان الحوار من أهم سبل بلوغ هداية الإسلام إلى العالمين والنظر إلى مجتمع المدينة المنورة على أنه الأنموذج الأمثل في التعايش الايجابي بين "إقامة النبي وأتباع الرسالات الإلهية"، حيث تسمو وثيقة المدينة المنورة بسبقها، لتكون مفخرة تحتذى في التعايش الحضاري، فقد حددت أطر التعاون على تحقيق المصالح المشتركة، والتعاضد على إرساء قيم العدل والبر والإحسان وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة. وقد وجد العلماء المسلمون أن في الحوار "وسيلة للرد على الافتراءات المثارة عن الإسلام وتصحيح الصورة المغلوطة عنه وعن دوله ومؤسساته، في الأوساط الدينية والعلمية والإعلامية".

 

أما عن منهج الحوار، فقد أكد العلماء على الالتزام بضوابط الإسلام وآدابه في الحوار، بأن يكون موضوعياً، وبالحكمة والحجة والبرهان، والجدال بالتي هي أحسن، من دون إسفاف أو تطاول على معتقدات الآخرين، مما لا يرتضيه الإسلام، ولا تقتضيه موضوعية الحوار، والحوار الهادف والتعايش السلمي والتعاون بين أتباع الرسالات وغيرهم لا يعني التنازل عن المسلمات، ولا التفريط في الثوابت الدينية، ولا التلفيق بين الأديان، وإنما يعني التعاون على ما فيه خير الإنسان وحفظ كرامته وحماية حقوقه، ورفع الظلم ورد العدوان عنه وحلّ مشكلاته وتوفير العيش الكريم له… وهي "مبادئ مشتركة جاءت بها الرسالات الإلهية، وأقرّتها الدساتير الوضعية وإعلانات حقوق الإنسان".

 

وأقرّ المؤتمر إنشاء هيئة إسلامية عالمية للحوار تتولى توحيد الموقف الحواري الإسلامي وتعبّر عنه، وتتولى رابطة العالم الإسلامي اختيارها من بين الأعضاء وتتابع الإنتاج الحواري الفكري والأكاديمي والفلسفي في العالم. والأمل المعقود على هذه اللجنة العتيدة هو أن لا تكون مثل سابقاتها، لجنة تغرق في الشكليات وتضيع في الاختلافات الشخصية، بل لجنة اختصاصية تعرف خلفيات المؤسسات الحوارية في الفاتكيان وفي مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس الوطني الأميركي، وأسقفية كانتربري وسواها. وتوقف المؤتمر في بيانه أمام أمرين أساسيين، الأمر الأول هو الجماعات غير المسلمة في الدول الإسلامية، والجماعات المسلمة في الدول غير الإسلامية. بالنسبة للجماعة الأولى دعا المؤتمر إلى "إقامة حوارات لمعالجة ما قد يقع من خلافات لضمان حسن المعايشة بالسلام الاجتماعي واعتبار الحوار الذي يحقق الوفاق الاجتماعي من أهم أنواع الحوارات". وبالنسبة للجماعة الثانية حثّ المؤتمر المسلمين في الدول غير الإسلامية على "الحوار المستمر مع أهالي تلك البلاد وتأكيد تحليهم بصفات المواطنة الصادقة مع عدم التفريط في واجباتهم الدينية والتعاون مع حكومات الدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية".

 

وفيما يتعلق بحملات التشويه والافتراء التي يتعرض لها الإسلام، طالب المؤتمر منظمة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية الرسمية منها والشعبية بـ"تجريم حملات الإساءة الموجهة إلى الإسلام ورسوله وإصدار القرارات التي تدين الإساءة إلى الأنبياء ورسالاتهم وتحول دون استغلال الحريات الثقافية والإعلامية بطريقة تقوض التعايش والأمن الدوليين". وفي المحصلة، فإن المؤتمر يمكن وصفه بأنه كان لقاءً تأسيسياً لحوار إسلامي مع أهل الرسالات السماوية وسائر أصحاب العقائد والفلسفات الفكرية، ولذلك فإنه يشكل منطلقاً لحركة إسلامية جديدة منفتحة على العالم، على قاعدة تقبّل واحترام الاختلافات.

 
GMT ص 11:39 13 حزيران 2008

عن موقع ابونا