عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 15/6/08

 

بكركي،  الأحد 15 يونيو 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

 

* * *

"وفتح فاه يعلّمهم"
(متى 5 : 2)

نواصل الحديث عما جاء في كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر" يسوع الناصرة، عن التطويبات.
التطويبات
غالبا ما تُقدّم التطويبات كأنها نقيض الوصايا العشر في العهد الجديد، ونوع من مجموعة أخلاقية مسيحية سامية بالنظر الى وصايا العهد القديم.وهذا المفهوم يتجاهل تماما معنى كلمات يسوع. ذلك أن يسوع أشار الى الوصايا العشر على أنها صحيحة كل الصحة . وفي العظة على الجبل، أو الأنبياء. الحق أقول لكم، ما جئت لأبطل، بل لأكمّل. الحق أقول لكم: قبل أن تزول السماء والأرض، لن يزول من التوراة ياء أو نقطة، حتى يتمّ كل شيء." .وبعد الحوار الذي جرى بين يسوع والعالم اليهودي، علينا أن نعود الى هذه العبارة التي لا تناقض الا ظاهرا المقطع البولسي.ويكفينا الآن أن نرى ان يسوع لم يكن في نيّته أن يلغي الوصايا العشر، بل أن يقوّيها.
ولكن ما هي هذه التطويبات؟ انها تتداخل اولا في تقليد طويل، هو تقليد رسائل العهد القديم على ما نراه، مثلا، في المزمور الأول، وفي نصّ أرميا المقابل:" مبارك الرجل الذي يتوكّل على الرب، ويكون الرب معتمده" .وهذه عبارات تدلّ على وعد وتصلح أيضا لتمييز الأرواح، وتصبح هكذا عبارات تدلّ على الطريق. ان الإطار الذي أعطاه لوقا عظة الجبل يحدّد الوجهة الخاصة التي أرادها يسوع للتطويبات. ورفع يسوع عينيه الى تلاميذه وقال. ان كل تأكيد للتطويبات يخرج من هذا النظر الذي وجّهه الى تلاميذه، وهي تصف نوعا ما وضع تلاميذ يسوع الحسّي: فهم فقراء، وجياع، ويبكون، ومبغضون ومضطهدون. وهذه التطويبات تصف وصفا عمليا ، ولاهوتيا أيضا ، التلاميذ الذين تبعوا يسوع والذين باتوا يؤلّفون عائلته.
غير أن الوضع الهَش، الذي يسوده تهديد مباشر، والذي وجد يسوع فيه تلاميذه، قد تبدّل فصار وعدا عندما توجّه اليه النظر الذي أناره الآب. وفي نظر جماعة تلامذة يسوع، تشكّل التطويبات تناقضات : تبدو مقاييس العالم منقلبة، عندما ننظر الى الواقع في الاطار الصحيح، أي من وجهة سلّم قيم الله، وهي تختلف عن قيم العالم. فالذين يُعدّون في نظر العالم فقراء وهالكين، هم في الحقيقة سعداء ومباركون، وعلى الرغم من جميع آلامهم، يحق لهم أن يفرحوا ويبتهجوا. الطوباويات مواعيد تشعّ فيها صورة العالم الجديدة، والانسان الذي يدشّنه يسوع ،أي " انقلاب القيم" انها مواعيد أخروية ، ولكن هذه العبارة يجب ألاّ تُفهم بمعنى أن ما تبشّر به من فرح سيؤجّل الى أمد بعيد جدّا، أو هو سيكون موعده فقط في العالم الآخر. واذا كان الانسان يبدأ أن يرى ويعيش انطلاقا من الله، واذا سار برفقة يسوع، فهو اذذاك يعيش وفق مقاييس واضحة، وان شيئا ممّا سيأتي هو الآن حاضر.مع يسوع يأتي الفرح من الضيقات.
ان التناقضات التي يقدّمها يسوع في التطويبات تعبّر عن وضع المؤمن الصحيح في العالم، وهو وضع وصفه بولس الرسول، غير مرّة، في ضؤ خبرته الحياتية وآلامه كرسول: لقد قال:" يُضّيق علينا من كلّ جهة، ولكننا لا نُسحق، نحتار في أمرنا، ولكننا لا نيأس، نُضطهد ولكننا لا نُهمل، نُنبذ ولكننا لا نهلك" . وان ما هو تشجيع ووعد، في تطويبات انجيل لوقا، يشكّل لدى بولس اختبارا عاشه الرسول. فهو "آخر الناس"، كمجرم محكوم عليه بالموت، وصار مشهدا للعالم، لا وطن له، و مهان، ومفترى عليه. وعلى الرغم من ذلك، فانه اختبر فرحا لا حدّ له. وهو كمن كان تحت رحمة جميع الناس، وتعرّى من نفسه لكي يحمل المسيح الى الناس، واختبر ما بين الصليب والقيامة من رباط حيّ وثيق: اننا نُسلم الى الموت " لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت" .ان المسيح يتألّم دائما في مرسليه، ومكانه دائما على الصليب.ولكنه هو حقا في الوقت عينه القائم من الموت. واذا كان مرسل المسيح الى هذا العالم يواصل في حياته آلام المسيح، فانه يشعر بوهج القيامة، وهي ينبوع فرح، و"تطويب" أقوى من السعادة التي تأتّى له من شعوره بها سابقا في العالم. فهو الآن، والآن فقط، يعرف حقا معنى " السعادة" ، و"التطويب" الحق، ويكتشف في الوقت عينه فقر ما يُعتبر رضى وسعادة ، بحسب المقاييس المعتادة.
وان ما في حياة بولس الرسول من تناقضات تسير في خط واحد مع ما تعرضه التطويبات، يظهر واقعا يشبه واقعا أعرب عنه يوحنا أيضا، انما بطريقة مخالفة، عندما تكلّم عن صليب الرب، "كارتفاع" ، وكجلوس على عرش عظمة الله.ان يوحنا يجمع في كلمة واحدة الصليب والقيامة، الصليب والارتفاع، لأن هذين الأمرين، بالنسبة اليه، غير منفصلين. الصليب هو فعل " الخروج"، فعل المحبة الذي تمّ حتى النهاية" .ولهذا انه مكان المجد، مكان الاحتكاك الحق، والاتحاد الحقيقي بالله الذي هو محبة .ان نظرة يوحنا هذه تجمع معنى تناقضات العظة على الجبل، وتجعلها أخيرا قابلة للفهم.
ان اعتبارت بولس ويوحنا هذه تظهر لنا حقيقتين. التطويبات تعبّر عما يعني أن تكون تلميذا.وهي تتخذ حجما حسيّا وواقعيا بحيث ان التلميذ يكرّس ذاته بكليتها للخدمة، على ما تشهد بذلك حياة بولس وشخصه شهادة مثالية. ومعنى ذلك لا يمكن عرضه بطريقة نظرية، فهي تظهر في حياة الرسول وآلامه وفرحه العجيب،هذا الرسول الذي ضحّى بكل شيء ليتبع المسيح. والعنصر الثاني الذي يتوضح هنا، هو ميزة التطويبات الخاصة بالمسيح. التلميذ مرتبط بسرّ المسيح، وحياته يغمرها الاتحاد بالمسيح:" لست أنا الحيّ ، بل المسيح هو الحيّ فيّ" .التطويبات هي نقل الصليب والقيامة الى حياة التلاميذ. ولكن ما لها من قيمة بالنسبة الى التلميذ يكمن في أنها وجدت مثالا لتحقيقها في المسيح عينه.
ان الصيغة التي يعطيها متى التطويبات تظهر لنا ذلك بأوضح طريقة.اننا، لدى قراءة النصّ، بما ينبغي من الانتباه، نرى أن التطويبات تشكّل بطريقة خفية سيرة حياة يسوع الداخلية، وصورة عن حياته. وهو الذي لا مكان له يسند اليه رأسه ، هو الفقير الحقيقي الذي بامكانه أن يقول عن نفسه:" كونوا لي تلاميذ لأني وديع ومتواضع القلب"، فهو حقا عذب. وهو حقا القلب النقي الذي لذلك يتأمّل بالله تأمّلا دائما. ان التطويبات تكشف سرّ المسيح ذاته، وتدعونا الى الدخول في شراكة مع المسيح. ولكنها، بما لها من ميزة خفية خاصة بالمسيح، علامات ترشد الى طريق الكنيسة التي عليها أن تعرف فيها مثالا لها. وهي تشكّل لكل من المؤمنين علامات لاتباع المسيح، ولو كان ذلك بطريقة مختلفة، حسب تنوّع الدعوات.
لنرَ الآن عن كثب مختلف حلقات سلسلة التطويبات. وهناك أولا العبارة، وهي أشبه
باللغز،التي طالما طُرح السؤال بشأنها، وهي" فقراء القلب". هذه العبارة تَظهر في كتابات قمران حيث تشكّل تحديد أعضاء الجماعة بحدّ ذاتها. ويسمّى أعضاؤها ذواتهم أيضا " فقراء النعمة"، و"فقراء فدائك"، أو الفقراء. ان جماعة قمران التي تخلع على ذاتها هذا الوصف، تعرب ضميريا عن أنها هي اسرائيل الحقيقية، وهي تعود بالواقع الى تقاليد مغروسة حقا في ايمان اسرائيل. وفي عهد انتصار البابليين على اليهودية، كان تسعون بالمائة من سكان المنطقة من طبقة الفقراء. وبعد النفي، تسببّت مجدّدا السياسة الضريبية المأساوية التي انتهجها الفرس بوضع من الفقر مأساوي. ان الاعتقاد القديم الذي كان يقول بأن كل شيء يسير على ما يُرام بالنسبة الى البار، فيما الفقر هو نتيجة حياة سيئة ( النسبة بين التصرّف ونوعية الحياة ) لم يعد مقبولا. وهوذا اسرائيل، حتى في فقره، يشعر بأنه قريب من الله، ويعترف بأن الفقراء، في ما هم عليه من ضعة، هم أعزّاء على قلب الله، خلافا للأغنياء الذين في كبريائهم لا يعتمدون الاّ على ذواتهم.
وهناك عدد كبير من المزامير يُعرب عن تقوى الفقراء التي تعمّقت. وهم يعتقدون أنهم اسرائيل الحقيقية. وفي التقوى التي تُظهرها هذه المزامير، وفي تمسّكها العميق بجودة الله، وفي الجودة والتواضع البشريين اللذين تكوّنا هكذا، وفي انتظار محبة الله الخلاصية اليقظة، تكوّن انفتاح القلب الذي فتح الأبواب واسعة للمسيح. ان مريم ويوسف، وسمعان وحنّة، وزكريا واليصابات، ورعاة بيت لحم، والأثني عشر الذين دعاهم الرب ليؤلّف منهم الحلقة الأولى من التلاميذ، انهم جميعا خرجوا من بيئات تتميّزعن الفريسيين والصدوقيين، وعن جماعة قمران، على الرغم ممّا بينهم من بعض قرابة روحية. ان العهد الجديد يبدأ بهم، وهو يعرف أنه باتحاد تام بايمان اسرائيل الذي ينضج بانتظار نقاوة دائما متعاظمة.
وهم أيضا الذين أنضجوا، في الصمت أمام الله، هذه الحالة التي شرحها بولس في لاهوت التبرير. أمام الله، ان هؤلاء الناس لا يفاخرون بأعمالهم. أمام الله، لا يدّعون بأنهم نوع من الشركاء التجّار متساوين في الحقوق، وهذا يقضي لهم بأن يتقاضوا قدرما قاموا به من أعمال. هؤلاء الرجال يعرفون أيضا أنهم باطنا فقراء، ويحبّون ما يجود الله به عليهم، ولهذا فهم يعيشون في وفاق حميم مع كيان الله وكلمته. عندما كانت القديسة تريزيا الطفل يسوع تقول انها يوما ما ستمثل أمام الله، فارغة اليدين، وانها ستمدّهما اليه مفتوحتين، كانت تصف روح هؤلاء الفقراء بالله: انهم َيصِلون وأيديهم فارغة، هذه الأيدي لا تستأثر بشيء، ولا تحتفظ بشيء، لكنها تنفتح وتعطي، وهي على استعداد للاستسلام لجودة الله المعطي.
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
العظة على الجبل تمثّل الروح المسيحية الحق، وهي تسير بالمؤمنين عكس ما يسير به العالم عادة. العالم يمجّد المتعجرفين، عظة الجبل تطوّب المساكين بالروح. العالم يمجّد المتكبّرين، عظة الجبل تمتدح الودعاء. العالم لا يبالي بالحزانى، عظة الجبل تسعى الى تعزيتهم. العالم يحتقر الجياع الى الخبز، عظة الجبل تُطري الجياع الى البرّ، وتعدهم بالشبع. العالم يسخر من الرحماء، عظة الجبّل تعدهم بالرحمة. العالم يعظّم المتشامخين، عظة الجبل تعدهم برؤية وحه الله. العالم يهوى الحروب، عظة الجبل تنادي بالسلام. العالم يمجّد العظماء، وعظة الجبل تطوّب المضطهدين من أجل البرّ، وتدعو المفترى عليهم الى الفرح لأن أجرهم في السماوات عظيم. لذلك قيل ان عظة الجبل هي العالم بالمقلوب.نسأل الله أن يمنّ علينا بأن نعيش في حياتنا ما تنصح به لنا عظة الجبل.