الإعلام والإعلام المسيحي

الإعلام وسيلة اتصال. هذا نظرياً. عملياً هو وسيلة تأثير أو حتى صناعة لوجدان الناس. تحريك الجماهير في اتجاه أو في آخر هو المرمى. واقعاً لا تواصل حقيقياً عبر الإعلام. التواصل، بعامة، يكون في الإطار الذي يرسمه صاحب الوسيلة الإعلامية. الإعلام، في العمق، يسوِّق فكرة أو توجّهاً ما. يبيعك سلعة. يلعب على انفعالاتك وانطباعاتك أكثر بكثير مما يتيح لعقلك فرصة النقد والتفكير والمقارعة. أنت، بإزائه، في وضع المتلقّي. يعتاد العقل، بعد حين، عقلُ السامع أو القارئ أو الرائي، على الاتّكاء على مَن يوجِّه الوسيلة الإعلامية. عملياً يستقيل أو يكاد. متى سلّم بالتوجّه العام لمَن هم وراء وسيلة إعلامية محدّدة فإنّه يؤخذ، بيسر، بما يُعرض عليه منها. ترتاح نفسه إلى ما يبثّونه إيّاه. يميل إليها بلا مساءلة تُذكر. بعد ذلك يصدّق بسهولة ما يوافق أمياله المزروعة فيه كما يكذّب بسهولة ما يعارضها. يُظهِر ما يناسبه ويُخفي ما لا يناسبه. لا يعود الحقّ معياراً لديه. مبدأ اللذّة، بالمعنى الشامل للكلمة، يصير هو المعيار. هذا يطيح إمكان الحوار بين الناس. الأهواء تتحكّم، إلى حدّ بعيد، بسير كل حوار. والحوار مآله، في أفضل الظروف، والحال هذه، أنصاف الحلول. اللعبة لعبة مساومات. المقتدر هو مَن يحقّق أكبر قدر من مصالحه الخاصة وأهوائه. هذه، بالضبط، هي بابل. يمكن الناس أن يتكلّموا لساناً واحداً لكنّهم لا يتكلّمون نيّة صالحة واحدة مشتركة. كلٌّ يطلب ما لنفسه. لا شك، بهذا المعنى، أنّ الإعلام لا يساهم في تواصل الناس والشعوب بل في تباعدهم. يؤكِّد الفرقة والبلبلة. الإعلام يُفسد أكثر مما يبني. يغرِّب أكثر مما يقرِّب. يقرِّب مَن هم تحت تأثير ذات الوسيلة الإعلامية. يطبِّع. يشيِّء. لا يعود الإنسان مساهماً، شريكاً، مكمِّلاً للإنسان الآخر بل مستهلِكاً للأفكار المبثوثة فيه، بلا وجه ولا هوّية. هذه سيكولوجية الجماهير. هذه ديماغوجية الإعلام.

        هذا في شأن الإعلام بعامة، من بيع أبسط المنتجات الإستهلاكية إلى بيع أرقى المنتجات الفكرية. الأسلوب، في العمق، واحد. الحرّية، في هكذا سياق، تستحيل خياراً بين مادة استهلاكية ومادة استهلاكية أخرى يكون مَن هم وراء تسويقها قد لعبوا بمشاعرك واتجاهاتك من خلال ما يكونون قد أمطروك به من دعايات برّاقة تتناولها. الحذاقة، في هكذا سياق، هي في إقناع الناس بأنّ السلع المعروضة، الاستهلاكية أو الفكرية أو السياسية أو الإجتماعية، هي في مستوى الضرورة، في مستوى الحاجات التي لا يُستغنى عنها.

        أما الإعلام المسيحي، كما يستبين في الممارسة، بعامة، فلون من ألوان المنطوق الإعلامي المُبرَز أعلاه. أداة قويّة خطرة غير حيادية هو. لذا لا يجوز استعمال الإعلام لغايات كنسيّة إلاّ بتبصّر كبير. عملياً إذا لم تكن للإعلام المسيحي فرادته المنبثقة من طبيعة الحياة المسيحيّة عينها فإنّه، بسهولة، يشوِّهها. بدل أن يبني يدمِّر وبدل أن يَخدم يَستخدم، وليس من دون اسم الله والإيمان بيسوع المسيح والتذرّع بنشر الكلمة. الحاصل، على أرض الواقع، أنّ الكنيسة تستحيل مادة إعلامية أكثر مما يشكّل الإعلام المسيحي أداة لخدمة الكنيسة. دونك أبرز مثلٍ للتشويه الناتج، عن غير وعي: العبادة. فكما في الإعلام، بعامة، كذلك في الإعلام المسيحي. هناك تلقى الأغاني وهنا تلقى التراتيل. ولكن ما يصحّ في الغناء لا يصحّ في الترتيل. الغناء ذو طبيعة طربيّة فيما الترتيل ذو طبيعة عبادية. ليس الترتيل طرباً دينياً. المفترض به أن يحرِّك النفس والروح، ولا شك، ولكنْ ليس بقصد المتعة بل التوبة وحمد الله. أولاً كلام الترتيل كلام مقدّس. ثانياً كلام الترتيل نظمه وأنشده قدّيسون. إذاً التراتيل من وضع نفوس حرّكها روح الله. أيجوز أن يصير ما لروح الله مادة طرب؟! ثمّ الترتيل يأتي في إطار عبادة الجماعة لربّها. الترتيل له بُعد جماعي. هناك حضور في الجسد والنفس مع الجماعة وهناك تلاقٍ مع الجماعة في طرح كل فكر غريب عن الله خارجاً. "لنطّرح عنا كل اهتمام دنيوي كوننا مزمعين أن نستقبل مَلِك الكل" (الترنيم الشاروبيمي). النفوس تكون في وضع الصلاة، في وضع الرفع إلى فوق، تتلاقى، تتضافر. ثمّة عمل سرّي يتمّ، الوِقفة أمام الله. "بخوف الله وإيمان ومحبّة تقدّموا". هذه تقال فيما المؤمنون يتهيأون لمساهمة القدسات. ولكنْ، في الحقيقة، كل وِقفة أمام الله هي وِقفةٌ لمساهمة نعمة الله يتعاطى فيها المؤمن، في الجماعة، قربان الكلمة. وما يُقال في الترتيل يقال في الصلاة ويُقال في القدّاس الإلهي أيضاً. هناك تلاق إلهي يتمّ. نعطي مما لنا ونأخذ مما له. لذا ليس الترتيل للسماع فقط، ناهيك عن أن يكون لغرض طربي. كل هذا الإطار الوجداني القدسي يطيحه أسلوب تعاطي التراتيل والصلوات والقداديس الإلهية في الإعلام المسيحي، اليوم. يقضي عليه. يُدخل مفاهيم جديدة في البنية الوجدانية الكنسيّة. عملياً يضرب العبادة في أعماقها. يغيِّر الإطار العبادي. يُستعاض عن عمل الجماعة بعمل فردي. كلٌّ وشأنه. الصلاة تصير موضوع أحاسيس ومشاعر. العبادة بالروح والحقّ تستحيل عبادة نفسانية. ما هو مقدّس لا يُتعاطى بعدُ في إطار مقدّس، لا مكانياً ولا روحياً، بل في إطار نفسي دهري. من حيث لا ندري، إذاً، الإعلام، كما يُتعامَل معه، يساهم مساهمة أكيدة في تغيير العبادة من فعل عبادة إلهي إنساني إلى تمثيل عبادة، مشهداً وسماعاً. وما هو أخطر من هذا التحوّل هو أن العبادة النفسانية الممثَّلة تصير هي المعيار وقلّما تلقى بعدُ مَن ينظر في التشويه الكبير الحاصل. الفساد طُبِّع وباتت الإلهيات في العبادة، على الشاشة الصغيرة، بخاصة، مادة إعلامية نفسانية استهلاكية.

        ثمّة حجم هائل من الممارسات الغريبة تُدخلها العبادة من خلال شاشة التلفاز. في الكنيسة يعبدون واقفين، تعبين، خاشعين، في العبادة البيتية يشاهِدون فعل العبادة كما يُشاهَد فيلم سينمائي وهم مرتاحون على أرائكهم، لا مانع لديهم خلال الصلاة المشاهَدة والمسموعة، أن يتجاذبوا أطراف الحديث ويتناولوا الطعام أو الشراب ويغيِّروا الصورة، إذا ما تعبوا أو ضجروا، من مشهد صلاة إلى مشهد عنف إلى دعايات تجارية إلى لقطات غرامية، ثمّ يعودون إلى مشهد الصلاة من جديد. الأمر متروك للأذواق، لحرّية الناس. كلّها مادة للعرض. بعضها دنيوي وبعضها ديني. المشترك بينها جميعاً أنّها، في الوجدان، إلى حدّ بعيد، سلع بصرية سمعية. طبعاً ثمّة فرق في التفاعل وهذه السلع بين شخص وشخص. بعض الناس يتعاطى الدينيات عبر الشاشة بشيء من اللياقة وبعضهم بابتذال. أنّى يكن الأمر فإنّ العبادة المتلفزة، كممارسة مبتدَعة، تلقي بثقلها الاستعراضي على النفوس وتستدعي وتشجّع على ردّات فعل غريبة كل الغرابة عن إطار العبادة الحقّ، أكثر الأحيان.

       مثال آخر على التأثير السيّء في وجدان الناس مسألة الترويج الإعلامي لأحد المزمعين إعلان قداستهم. هنا كثيراً ما يختلط الغثّ بالثمين والنفسانيات بالروحيات. أولاً علينا أن نفهم أنّ روح الربّ هو الذي يعلن قداسة القدّيسين بعلامات يعطيها. المؤمنون في الكنيسة يرصدون هذه العلامات ويمتحن القيِّمون الإشارات المعلَنة بالروية والصوم والصلاة حيث إنّ الروح الذي تصدر منه علامات محدّدة هو الذي يعطي روح تمييزها وإلاّ يقع المؤمنون ضحية الأوهام النفسية وينسبونها خطأ إلى روح الربّ. لذلك اكتناه روح القداسة يستدعي الصوم والتضرّع، لدى الأتقياء بخاصة، الذين يُفترض أن يكون القيِّمون على الكنيسة منهم. ولعل أبرز هذه العلامات تحرُّك وجدان الكثيرين، بصورة عفوية، إلى التماس البركة عند ضريح الراقد المعتبَر باراً. طبعاً هناك، أحياناً، لا دائماً، بالضرورة، عجائب تحدث، أشفيةً أو إخراجَ شياطين لدى ذكر البار أو ما أشبه. هذا كلّه يُحْدِثُه روح الربّ، كما ذُكر، وبعفوية. الإعلام هنا كثيراً ما يوجد مشاغِباً على عمل روح الربّ ومساهِماً، بقوّة، في تحويله من عمل روحي إلى عمل نفساني فكري. بدل أن يكون المسارُ تسقُّطَ إيحاءات روح الربّ في الكنيسة كثيراً ما يبدو عمل الإعلاميّين أدنى إلى اقتحام وجدان الناس واعتماد أسلوب الترويج لقداسة شخص ما بالإمطار الدعائي تأثيراً في المشاعر والعواطف. لماذا، مثلاً، تُنشَر الصور والبوسترز في الشوارع، للمزمَع أن يطوَّب، جنباً إلى جنب وسائر الدعايات التجارية واللوحات الإعلانية المسيئة للأخلاق العامة؟ أهذا عمل إلهي لائق مشرّف أم فعل تسويقي لدعاية نتوخى، من خلالها، تجييش مشاعر الناس في اتجاه ما يرسمه القيِّمون؟

        لا شك أنّنا بحاجة إلى إعادة النظر، جذرياً، في كيفية تعاطي الإعلام في الكنيسة. لعمري ثمّة أمور ينفع فيها الإعلام، لا سيما المرئي والمسموع، وأمور يضرّ. في التعليم، مثلاً، ينفع وفي العبادة يضرّ. لنفهم: حيث الكاميرا تصوِّر يهرب روح الربّ وتموت الصلاة. لا تبقى إلاّ الجثّة. أرض الصلاة الخفاء. لا تأتي الصلاة بمراقبة. لذا قيل: "متى صلّيت فادخُل إلى مُخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6). ولكنْ يبقى السؤال: بعد أن جرى تطبيع التوجّه الإعلامي في الكنيسة، على النحو الحاصل، وباتت الكنسيّات، حتى خِدَم طرد الأرواح الشرّيرة، مواد إعلامية، اعتاد وجدان الناس على تعاطيها كمقوِّمات أساسية في الممارسة الكنسيّة، أقول بعد كل ذلك أيمكن لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء وأن يُلاحَظ أين سقط وجدانُ المؤمنين ويُعمَل على استعادة المسار القويم لديهم؟ كما تجري الأمور نحن، بلا شك، نسير في الاتجاه السلبي المعاكِس والمضر!

 

الأرشمندريت توما (بيطار) 

 رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما