لنتأمل مع بندكتس 20-21-22-23-24 من يوليو

العشرون من يوليو

روما، الأحد 20 يوليو 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي تأمل اليوم العشرين من يوليو للبابا بندكتس السابع عشر، من كتاب "بندكتس".

 معنى العيد المسيحي

 في عالم يفرض فيه الظلم والنكبات سيطرتهما المرعبة بأشكال مختلفة بالرغم من كل التطور؛ قد يبدو علامة احتقار عندما يهرب من يستطيع إلى فرح الأعياد الزاهي أو إلى مصاريفها الباهظة. وبالواقع، إذا عنى العيد مجرد تنعم مكتفٍ بالذات وبالمقتنيات والضمانات الذاتية، فلا يجب أن يكون هناك مكانًا لهذا النوع من الاحتفال في أيامنا. ولكن هل هذا هو حقًا معنى الاحتفال؟ بكل تأكيد ليس هذا المعنى الأصلي للاحتفال بالعيد المسيحي. فالعيد المسيحي – كعيد ميلاد الرب مثلاً – يعني أمرًا مغايرًا بالكلية. يعني أن الشخص البشري يتخلى عن عالم الحسابات والحتمية التي تتحكم به يوميًا، ويركز على كيانه انطلاقًا من مرجعية وجوده الأولى. يعني أنه يتحرر من منطق الصراع القاسي من أجل البقاء، وينظر أبعد من عالمه الضيق إلى كلية الأشياء. يعني أنه يسمح لنفسه أن يرتاح، ويسمح لضميره أن يتحرك للحب الذي يلمسه في الله الصائر طفلاً، وأنه يضحي بهذا الشكل أكثر حرية، وغنىً وطهارة. أفلا يتنفس عالمنا بأسره الصعداء، إذا ما حاولنا الاحتفال بهذا الشكل؟ ألا يحمل احتفال من هذا النوع التعزية للمغمومين، ويكون صرخة عالية توقظ القطيع الخامل الذي يسلط انتباهه على ذاته وحسب؟

الحادي والعشرون من يوليو

كلمات يسوع الافخارستيا وموته

 في تعليم يسوع، كل السبل تقود إلى سر الرب الذي يبرهن عن حقيقة حبه ورسالته عبر الآلام. تشكل الكلمات التي تلفظ بها في العشاء الأخير الصياغة الأخيرة لهذا الواقع. ولا تقدم هذه الكلمات أمرًا غير متوقع، بل ما سبق أن تشكّل وتحضّر في كل هذه السبل؛ ومع ذلك فهي تكشف من جديد عمّا عُني على المدى: تأسيس الافخارستيا هو استباق لموته. لأن يسوع يشركنا بذاته، يشركنا بذاته كذاك الذي انكسر وقُسم إلى جسد ودم. يعيش يسوع في كلماته الافخارستية موتًا روحيًا، أو بالحري، يحول يسوع بهذه الكلمات الموتَ إلى واقع تعبير روحي، إلى فعل حب يشرك الآخر بذاته؛ إلى فعل عبادة يُقدَم إلى الله، ومن لدن الله يضحي في متناول البشر. يرتبط هذان الأمران جوهريًا: كلمات العشاء الأخير دون الموت، هي، إذا جاز التعبير، موضوع غير مضمون الآنية؛ والموت دون هذه الكلمات هو مجرد إعدام دون معنى. أما الأمران سوية فيشكلان هذا الحدث الجديد، الذي ينال فيه معنىً الموتُ الذي لا معنى له؛ ويتحول فيه اللاعقلاني إلى واقع عقلاني ومتماسك؛ ويضحي فيه تدمير الحب – إذ هذا هو معنى الموت بحد ذاته – السبيل إلى إحقاق الحب وتثبيته، وثباته إلى الأبد.

الثاني والعشرون من يوليو

فهم الثقافة

 يمكننا أن نقدم تعريفًا للثقافة، ونقول: الثقافة هي التعبير الاجتماعي – وقد نمت على مر العصور – عن تلك الخبرات والاعتبارات التي تركت أثرها في جماعة وصاغتها… تتعلق الثقافة بنفاذ البصيرة وبالقيم. إنها محاولة لفهم العالم ولوجود الإنسان فيه؛ ولكنها ليست محاولة نظرية بحت، بل تقودها الاهتمامات الأساسية في وجودنا. وهذا الفهم يبين لنا كيف نكون بشرًا، كيف يأخذ الإنسان موقعه في هذا العالم ويتجاوب معه، بغية تحسين نفسه، وعيش حياته بسعادة ونجاح. هذه المسألة بدورها، لا تتطرق في الثقافات الكبرى إلى الفرد وحده، كما ولو كان بامكان كل فرد أن يخلق نموذجًا خاصًا للتأقلم مع العالم ومع العيش. فمن الممكن القيام بهذا الأمر فقط بفضل مساعدة الآخرين؛ إن مسألة الإدراك القويم هي أيضًا مسألة تتعلق بالتنظيم الصحيح للجماعة. وهذه بدورها هي عنصرًا أساسيًا لنجاح الحياة الفردية لكل شخص. الثقافة ترتبط بالفهم، وهي إدراك يفتح السبيل إلى العمل المحسوس، أي إلى إدراك لا ينفصل أبدًا عن الأخلاق والقيم… لا يمكن لأحد أن يفهم العالم أبدًا، ولا يمكن أن يعيش الحياة بشكل صحيح، طالما لم يجد جوابًا لمسألة الألوهة. بالواقع، إن نواة الثقافات العظمى يكمن في تفسيرها العالم عبر تنظيم علاقتها مع الألوهة.

 

الثالث والعشرون من يوليو

 
الثقافة والألوهة

 
تتضمن الثقافة بمعناها الكلاسيكي المضي ما وراء المرئي والظاهر للوصول إلى الركيزة الأساسية للأشياء، إلى قلبها، لتشريع الباب للألوهة. يرتبط بهذا البعد بعدٌ آخر: تجاوز الفرد ذاته لكي يجد ركيزة لذاته في الجماعة الاجتماعية الكبرى، التي يستطيع أن يستعين بمعطياتها، وبالطبع، أن يقوم أيضًا بتوسيعها وتعميقها بشكل شخصي. ترتبط الثقافة دومًا بعامل اجتماعي يقبل في ذاته خبرات الأفراد، ومن جهة أخرى، يقوم بصياغة هذه الخبرات. يحمي هذا العامل الاجتماعي الإدراك الذي يتجاوز مقدرة الفرد ويعمل على تنميته – يمكننا وصف هذا الإدراك بالـ "ما قبل العقلاني"، و "ما وراء العقلاني". عبر قيامها بهذا الأمر، ترجع الثقافات إلى حكمة "الأقدمين"، الذي كانوا أقرب إلى الآلهة؛ إلى التقاليد التي كانت سائدة منذ البدء، والتي تحمل طابع الوحي، أي أنها ليست نتيجة البحث والتفكير البشري المجرد، بل ثمرة الاتصال الأصلي مع ركيزة كل الأشياء؛ إيحاءات من الألوهة.

 

الرابع والعشرون من يوليو

 
الإيمان والثقافة

 
الإيمان بحد ذاته هو ثقافة. فهو لا يوجد في حالة مجردة، كدين مطلق. فعبر كلامه إلى الإنسان عن هويته وكيفية الحفاظ على إنسانيته، يخلق الإيمان ثقافة ويضحي ثقافة. رسالة الإيمان هذه ليست رسالة مجردة؛ إنها رسالة نضجت عبر تاريخ طويل وعبر امتزاج ثقافي متعدد الوجوه، صاغت بفضله أسلوب حياة متكامل، طريقة يتعامل فيها الإنسان مع ذاته، مع قريبه، مع العالم، ومع الله. يقوم الإيمان بالذات كثقافة… الصليب هو أولاً انفصال، انطلاق إلى الأمام، ارتفاع عن الأرض، ولكن على كل حال يضحي هذا الصليب محور جاذبية، نقطة دوران محوري يجتذب الأمور من تاريخ العالم لكي يجمع ما تفرّق. يجب على كل من يلج الكنيسة أن يعي أنه يدخل في جماعة ثقافية قائمة بحد ذاتها وفاعلة، تتمتع بثقافتها المتعددة الأبعاد والتي نمت على مر تاريخها. لا يستطيع المرء أن يضحي مسيحيًا بمعزل عن نوع من "خروج"، انفصال عن الحياة الذاتية بكل أبعادها. الإيمان ليس سبيلاً فرديًا إلى الله؛ فهو يقود إلى شعب الله وإلى تاريخه وهذا الأمر لا يمكن محوه ببساطة… فشعب الله ليس مجرد جماعة ثقافية مفردة بل هو شعب يتألف من كل الشعوب، ولذا فالهوية الثقافية الأولى التي تنشأ من الانفصال المبدئي الذي تم قبلًا تولد في هذا الإطار؛ وليس هذا فحسب، فنشوء هذه الهوية الثقافية هو أمر ضروري للسماح لتجسد المسيح الكلمة أن يصل إلى ملئه.