لنتأمل مع بندكتس 25-26-27-28-29-30-31 من يوليو

الخامس والعشرون من يوليو

روما، الجمعة 25 يوليو 2008 (zenit.org).

ننشر في ما يلي تأمل اليوم من يوليو للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

نهضة المسيحية

لقد أتت المسيحية بنهضة لأنها "حطمت الجدار الفاصل" (أف 2، 14)، وقامت بهذا الأمر بشكل مثلث الأبعاد: فالارتباط الدموي بالبطريرك لم يعد ضروريًا، لأن الاتحاد بيسوع المسيح يمنح المرء عضوية كاملة، العلاقة الحقة. كل إنسان يستطيع أن ينتمي الآن إلى الله؛ وكل البشر يؤهلون ويستطيعون أن يكونوا شعبه. لم تعد الأحكام الشرعية والخلقية الخاصة مُلزِمة؛ لقد باتت مجرد مقدمة تاريخية، لأن كل شيء اكتمل في شخص يسوع المسيح، وكل من يتبعه يحمل في داخله جوهر الشريعة ويحققها. لقد أصبحت العبادة القديمة غير سارية، فقد أبطلها يسوع عبر هبة ذاته إلى الله وإلى البشرية، والذي يظهر الآن كالتقدمة الحقة، كالعبادة الروحية التي من خلالها يتعانق الله والإنسان ويتصالحان – وهو أمر يشكل عشاء الرب والافخارستيا ضمانة ملموسة لحضوره الدائم. لعل التعبير الأسمى والأكثر إيجازًا عن هذه الخلاصة المسيحية الجديدة هو اعتراف إيمان رسالة القديس يوحنا الأولى: "لقد عرفنا الحب وآمنا به" (1 يو 4، 16). صار المسيح بالنسبة لهذه الشعوب اكتشاف الحب الخلاق؛ لقد ظهر مبدأ الكون العقلاني كسر محبة – كالعقل الأسمى الذي يقبل في ذاته حتى الظلام وعدم العقلانية، فيشفيهما.

السادس والعشرون من يوليو

التواضع في البحث عن الحقيقة

يضحي العلم مَرَضِيًّا ويهدد الحياة عندما يتملص من نظام الحياة البشرية الخلقي، ويضحي مستقلاً، ولا يعترف بأي سلم قيم ما خلا قدراته. هذا يعني أنه يجب توسيع غائية العقل مرة أخرى.  يجب أن نخرج من السجن الذي شيدناه لأنفسنا ونتعرف على أشكال جديدة من تحقيق الذات، أشكال تعتبر الإنسان بمجمله… نحن بحاجة إلى نوع جديد من الجهوزية للبحث عن الحقيقة، ولكن أيضًا إلى التواضع لكي نسمح للآخر أن يجدنا.  التطبيق الضيق للنظام المنهجي لا يعني فقط طلب النجاح؛ يجب أن يعني أيضًا البحث عن الحقيقة والجهوزية لإيجادها. يمكن لضيق هذه المنهجية –  الذي يفرض علينا دومًا ومن جديد واجب أن نُخضع أنفسنا لما وجدنا، ولا أن نتّبع ببساطة رغباتنا – يمكنه أن يضحي مدرسة عظيمة نتعلم فيها ما معنى أن نكون بشرًا، ويمكنها أن تجعل الإنسان قادرًا على التعرف على الحقيقة وتقديرها. ولكن التواضع الذي يفسح المجال لما وجد ولا يحاول أن يتلاعب به، لا ينبغي أن يضحي تواضعًا زائفًا يحرمنا من قدرتنا على إدراك الحقيقة. حري به أن يعاكس رغبة التسلط، التي يهمها فقط أن تسيطر على العالم، ولا تكترث لمنطقه الباطني، الذي يضع حدًا لرغبتنا في السيطرة.

 

السابع والعشرون من يوليو

 البحث عن الحقيقة ودور الثقافة

 عندما يُحرم الإنسان من الحقيقة، تسيطر عليه الأمور العرضية والهمجية. لهذا السبب ليس "تزمتًا" بل واجبًا على البشرية أن تحمي الإنسان من ديكتاتورية العرضي وتعيد إليه كرامته، التي تتألف بالحديد من أن ما من مؤسسة بشرية يمكنها في نهاية المطاف أن تسيطر عليه، لأنه منفتح على الحق… الثقة في التفتيش عن الحقيقة وفي إيجادها ليست أبدًا أمرًا يمكن أن يفوته الزمان: لأن هذا الأمر بالتحديد هو ما يضمن كرامة الإنسان، ويسقط جدران الخصخصات، ويقود البشر إلى لقاء بعضهم البعض ما وراء حدود ركائزهم الثقافية على أساس كرامتهم المشتركة… لذا فالثقافات ليست مثبتة بشكل حاسم لا يتبدل… بل هي تستطيع اللقاء والإخصاب المتبادل. وبما أن انفتاح الإنسان الداخلي على الله هو أكثر تأثيرًا في الثقافات، بقدر ما تكون هذه الأخيرة عظيمة ونقية، فلهذا إن الجهوزية الباطنية لقبول الوحي الإلهي هي مكتوبة في الثقافات. ليس الوحي أمرًا غريبًا بالنسبة إليها؛ بل على العكس، يجيب الوحي على انتظار داخلي في الثقافات عينها… كل الشعوب مدعوة الآن للاشتراك في هذه العملية المتمثلة بتجاوز تراثها الخاص الذي بدأ مع اسرائيل؛ مدعوة للرجوع إلى الله الذي تجاوز من ناحيته حدوده عبر يسوع المسيح، والذي حطم "سور العداوة" القائم بيننا، وفي إخلاء ذاته على الصليب، قاد أحدنا صوب الآخر. الإيمان بيسوع المسيح إذًا هو بطبيعته انفتاح مستمر، إنه عمل الله الذي يلج في العالم الإنساني، وتجاوبًا مع هذا العمل، هو انفتاح الإنسان على الله.

الثامن والعشرون من يوليو

 "أغابي" المحبة

 هناك أولاً كلمة "دُودِيم"، وهو جمع يشير إلى الحب الذي ما زال غير أكيد، غير محدد، عن حب ما زال يبحث. ثم تستبدل هذه الكلمة، بـ "أَحَابَا"، والتي ترجمتها النسخة اليونانية للعهد القديم بكلمة "أغابي"، التي تضحي الكلمة المميزة التي تعبر عن المفهوم البيبلي للحب. بعكس الحب غير المحدد و "الباحث"، تعبّر هذه الكلمة عن خبرة الحب التي تتضمن اكتشافًا حقيقيًا للآخر، وتجاوزًا للطابع الأناني الذي يسود في نوع الحب الأول. يضحي الحب الآن اهتمامًا وعناية بالآخر. هو لا يبحث عن منفعته الشخصية وعن الغَرَق في نشوة السعادة؛  بل على العكس، يبحث عن خير المحبوب: يضحي تجردًا وجهوزية، لا بل حتى رغبة بالتضحية. إن هذا لجزء من نمو الحب نحو درجات سامية، ونحو تطهير داخلي يسعى ليكون نهائيًا، ويتم في معنيين اثنين: بمعنى الحصرية (هذا الشخص المعيّن فقط) ومعنى "إلى الأبد". ويعانق الحب الوجود بكامله بكل أبعاده، حتى بعد الزمن. من الصعب أن يكون غير ذلك، لأن وعد الحب يرمي إلى هدفه النهائي: الحب يتوق إلى الأبدية. الحب هو "نشوة"، ليس بمعنى لحظة انفعال، بل كمسيرة، كخروج مستمر من الذات المنغلقة والمركزة على نفسها، نحو تحريرها عبر هبة الذات، وبالتالي نحو اكتشاف أصيل للذات واكتشاف حقيقي لله.

 

التاسع والعشرون من يوليو

 

 الإيروس و الأغابي

 

في الحقيقة إن الإيروس و الأغابي – الحب الصاعد والحبِّ المتنازل – لا يُمْكن فصلهما بالكامل. فكلّما وَجَدَ الإثنان، رغم سماتهما المختلفة، وحدةً صحيحةً في حقيقة الحب الواحدة، كلّما تحققت الطبيعة الحقيقية للحب بشكلٍ عام. حتى لو أن الإيروس في بادئ الأمر هو طمّاع وصاعد، يسحر بوعده العظيم بالسعادة، إلا أنه في اقترابه من الآخرين، يتحول تدريجياً وعلى نحوٍ متزايد مِن الإهتمام بذاته، إلى الإهتمام بسعادةِ الآخرين، يهتم بالمحبوب، يُضحّي بنفسه ويريد أن "يكون لأجل" الآخر. بهذا الشكل يدخل عنصر الأغابي إلى هذا الحبِّ؛ وإن لم يحدث ذلك ينحطّ الإيروس ويَفْقدُ حتى طبيعتَه الخاصة. من ناحية أخرى، لا يَستطيعُ الإنسان أن يعيش فقط من خلال الحبّ المُضحّي، المتنازل. فهو لا يستطيع أن يمنح دائماً، بل يَجِبُ عليهِ أيضاً أَنْ يتقبَّل. فمَن يرغب في إعطاء الحب يجب عليه أيضاً أَنْ يتقبَّل الحب كعطيّة. طبعاً الإنسان يستطيع، كما يُخبرُنا الربّ، أن يُصبحَ ينبوعاً تتدفَّق منه أنهار ماءٍ حي (راجع يو 7، 37 ـ 38). لكن كي يُصبح ينبوعاً، عليه أَن يشرب دائماً وبشكل متجدد مِن الينبوع الأولِ والأصليِّ، أي يسوع المسيح، الذي من قلبِهِ المطعونِ يتدفَّق حب الله (راجع يو 19، 34).

 الثلاثون من يوليو

 

 الحياة تتدفق من موت الابن

 
إن التسامح الذي يسمح بالله كرأي خاص، ويرفضه في الإطار العام، في إطار واقع العالم وحياتنا، ليس تسامحًا بل مرائية. من غير الممكن أن يسود العدل عندما يُنصّب الإنسان نفسه ربًا للعالم وسيدًا لنفسه. فما يسود هناك هو فقط رغبة السيطرة والمصالح الخاصة. بالطبع، بإمكان الإنسان أن يطرد "الابن" من الكَرْم وأن يقتله، لكي يتذوق وحده بأنانية ثمار الأرض. من موت الابن تتدفق الحياة، ويرتفع بناء جديد، تنمو كرمة جديدة. هو الذي حوّل الماء خمرًا في قانا، حوّل دمه إلى خمر الحب الحق، وهو يحوّل الخمر إلى دمه. في العلية استبق يسوع موته، وحوله إلى هبة ذات عبر فعل حب جذري. دمه هبة، هو الحب، وبالتالي هو الخمر الحق الذي انتظره الخالق. بهذا الشكل يُضْحي المسيح نفسه الكرمة، وهذه الكرمة تحمل الثمر الجيد دومًا: أي حضور حبه لنا الذي لا يمكن أن يفسد. من هذا الموت تفيض الحياة، لأن يسوع حول هذا الموت إلى تضحية، إلى فعل حب، وبالتالي حوله بالعمق: لقد غلب الموت بالحب. يجتذبنا يسوع إلى ذاته في الافخارستيا، على الصليب (راجع يو 12، 32) ويجعل منا أغصانًا في الكرمة التي هي المسيح بالذات. إذا أقمنا فيه، فسنحمل ثمرًا نحن أيضًا، ولن ننتج من بعد خلّ الاكتفاء بالذات، والتذمر من الله ومن خليقته، بل الخمر الجيد في التنعم بالله وفي محبة القريب.

الحادي والثلاثون من يوليو

الإثنا عشر وشعب الله

إن اختيار الإثنا عشر هو علامة واضحة عن نية الناصري في ضم شمل جماعة العهد، لكي يبين فيها تحقيق الوعود الموجهة إلى الآباء، والتي تتحدث دومًا عن الجمع، والتوحيد، والوحدة. إن مبادرة يسوع في موقع الوحي، أي "الجبل"، تكشف عن وعي كامل وتصميم، فيسوع يقيم الاثنا عشر لكي يكونوا معه شهودًا وروادًا لملكوت الله الآتي. عبر اختياره الإثنا عشر وإدخالهم في شركة الحياة معه، وتوكيلهم برسالة إعلان ملكوت الله بالكلمة والعمل، يريد يسوع أن يقول أن ملء الزمان قد حل لتأسيس شعب الله الجديد، شعب القبائل الإثنتا عشرة، الذي صار الآن الشعب الشامل، كنيسة يسوع. لا يمكننا أن نصل إلى يسوع بمعزل عن الواقع الذي خلقه، والذي يهب نفسه فيه. بين ابن الله الصائر بشرًا وكنيسته، هناك استمرارية عميقة وغير منفصمة وغامضة، يحضر يسوع اليوم من خلالها في وسط شعبه. إنه معاصر دومًا لنا، إنه معاصر دومًا للكنيسة المبنية على أساس الرسل، والتي تحيا في خلافتهم. وحضوره في الجماعة، التي من خلالها هو حاضر دومًا معنا، هو مدعاة فرح لنا. نعم، المسيح معنا، وملكوت الله آتٍ.