الثقافة الاستهلاكية تغزونا في عُقر دارنا

 طالبة مسيحية في جامعة بيرزيت، تخصص صحافة مكتوبة/علوم سياسية

الثقافة الاستهلاكية هي ثقافة محضة، مسيطرة، أحادية الجانب، تقف امام معضلة التطورات، تحاول ان تدخل بعمق لدمج الفرد وصهره في بوتقة الأسواق والتنافس العالمي على الاكتساح والسيطرة.

 

فتسونامي الاعلانات التي لا تنضب ما هي الا أفعال اقتحام دخيل ذات طابع استعماري معتد وتضليلي، يجعلك منوّما مغناطيسيا متلقيا لمادته الاعلانية ومخزنا لبضاعته الاستهلاكية، طامساً بذلك كل ثرواتك الانتاجية والتقدمية لبناء ترسانتك المعرفية الخاصة.

 

ترويج لنمط الحياة الغربية

تكريس علاقة التبعية تبدأ من خلال الترويج لنمط الحياة الغربية، واشاعة القيم الاستهلاكية بحيث يستمر اعتمادنا على الغرب في تلبية احتياجاتنا الأساسية وذلك ضمن اجتياح العولمة اللامتناهي كحتمية داخل كل بيت، مهددة استقلالية الاشخاص، وجاعلة اياهم اكثر انغماسا نحو طريق محددة المعالم، وخاضعة البشرية لثقافة تنتج أنساق متطوّرة من السلوك وفق رسالة موجهة ومدروسة نحونا.

 

فان شراء منتج ما هو البديل البائس عن المشاركة في صنعه، فمجرّد امتلاكنا لمظهر عصري لن يبدل جوهرنا في عدم امكانيتنا في الخلق. فبتنا نصاحب المثل الرائج (الحاجة أُم الشراء لا الاختراع)، وهذا الموضوع جد خطير في تعاملنا مع الحضارة.

 

هناك عدم توازن فاضح في الاقتصاد العالمي، وهو أمر مستغلّ من قبل خبراء الحرب الفكرية لجعلنا أتباع قطيعهم، ولجعلنا نعلك علف انتاجهم. اذ ان السوق يفرض آليته في التفكير والعمل ويطبع التصريف لنظام قيمه الخاصّ.

 

ابان رواج المنتوج الغربي في أسواقنا، يصور العربي بأنه المموّل وليس صاحب المهارة، وهو في عقم فكري وحالة طلاق دائمة مع الخلق والابداع. فيغدو كل عربي مُدان بالخطيئة الأصلية وعليه أن يعمّد فوراً بأوراق الدولار الخضراء لكي يطهّر من شوائبه، فهذا النوع من التأطير والحدّ للعقل العربي، اذ يعمل على تقليص دوره كمواطن مثقف، صاحب الأمجاد التاريخية، عازلاً اياه عن بيئته في حقبة من التغافل والأمية، وجاعلا اياه متلق ومستهلك.

نتج عن ذلك شيوع الثقافة الهجينة الناتجة عن العولمة، فأصبحت بلداننا تلجأ لتعزيز التبعية بشكل غير مباشر، الا وهو المساهمة في نقل التكنولوجيا الغربية وضخ الاستثمارات الدخيلة في عصب اقتصادنا واشاعتها في صفوفنا، فأصبح نمط حياتنا يخضع لمخطط هجين بدلاً من الاصلاح الهيكلي في البنية التحتية لدينا.

 

المرأة: بطلة الاعلان

يأتي الاعلان بأشكال متنوعة ومخدرة، فاحتدام العقدة يكمن في كبش الفداء المروّجة للاعلان، وهي: المرأة. يغزو الاعلان بصورة نمطية، يحملها عبر امرأة نصف عارية تسوّق منتوجه مؤكدة انها سلعة أخرى غير تلك التي تعرضها، وملبية بذلك نداء جمهور عريض وفتيّ من ذوي الحاجات الخاصة بهذا النوع من (الاثارة الجنسية)، لترى المشاهد بعدها أشبه بالجاحظ مُمَدّداً لسانه لاهثاً وراء المزيد من الاغراء. وبهذا تؤكد المرأة رضوخها لشهريار وهي تسوّق هرطقة الجسد لديها، فموجة الوعي النسائي تغدو عكسية وفي جزر مستمرّ.

 

"مصائب قوم عند قوم فوائد"

حين تصب استثماراتنا في اقتصاد الأقطاب الكبرى عبر قناة  "shopping" العصرية، وحين تفوق الطاقة الشرائية لديناعلى الطاقة العقلية النهضوية، نكون قد وقعنا في متاهة وينطبق علينا القول: "مصائب قوم عند قوم فوائد".

 

هنالك العديد من الشركات الاوروبية، والتي نعمل لديها كوكلاء (كومبرادور) لتسريف منتوجاتها في السوق. وأن منتجات هذه الشركات تتداخل مع حياتنا اليومية بشكل غريب، من المأكل للملبس لأدوات الزينة للثقافة والترفيه والتعليم، انتهاء ببناء عقول وخيال أطفالنا. فيجب الاطلال بمداخلة تكون أشبه بيقظة صاعقة لما يدور من أنماط استبدادية في حياتنا اليومية.

 

فشركة (ديزني) على سبيل المثال، لها نصيب الأسد دوماً من الغزو الثقافي والاقتصادي. هذه الشركة العملاقة المتخصصة بصناعة الصورة، انعكست على مستوى التحصيل الذهني والمعرفي لدى الطفل، وذلك في أعمال الترفيه والسينما والرسوم المتحركة. وعلى الرغم من أن هذه الشركة تبيع انتاجها في الدول العربية، إلا ان جميع امكانات هذه الشركة موظفة بالكامل لصالح الصهيونية العالمية، وتسعى في معظم أعمالها إلى تشويه صورة العرب، وجعل مدينة القدس عاصمة أبدية لإسرائيل عبر تزييف التاريخ واستخدام الفن في أبشع صور الدعاية الكاذبة لصالح الصهيونية العالمية.

 

فهذا كله يأتي في تأطير نسق بخس في منظومة سلبية الوُجهة تعزو الى تسميم المواطن وتهجينه وترويضه فكريا، سائراً على نهج المستشرقين من رُعاة الوجبات السريعة. فوظيفة هكذا أفلام انها تنتج مخرجات من أفكار ومفاهيم جديدة، وبالتالي تدمّر بثقافتها عقول الأطفال وتقتل لديهم الرغبة في اختيار ما يودّون مشاهدته بين البدائل الأخرى، وتطعّم الطفل خطاب سلطوي مشوّه، مغطىً ببعض السكاكر والحلوى.

 

كل هذه النماذج ما هي سوى اعتداءات غير مرئية، متخفية باطار ترفيهي وسلمي في السطح، ومبطّنة بصبغة اقتحامية محنكة يصنعها خبراء الحرب. تصل الرسالة وتتسلل الى بيتك وتدق بابك مستحوذة عقل أطفالك، واذ بك تكرم الضيف بعبارة "أهلا وسهلا" ولا تفكر أبداً بأن هذا المنتج المسرطن بيولوجياً وعقليا وفكريا يسبب لك فيما بعد "حُمّى الشراء"، ويغدو ورماً يصعب اسئصلاله وجزءا من حياتك اليومية.

 

ثقافة المقاومة

وفي خاتمة الحديث وفق التحدث عن آلية الانتاج والاستهلاك، لماذا لا نبرم عقدا اصلاحيّاً مع جيلنا الجديد نحو مستقبل أفضل ليتم تجنيده وتأهيله لمنصب قيادة الوطن؟. فرغم مجتمعنا الفتيّ ومواردنا الكامنة، الا ان اقتصادنا عوده طري، يشبه الطفيليات في تغذيته على الآخرين، فنحن آخذين بالغوص، بدلاً من ايجاد الحاجة المرجوّة في اشاعة وعي مفرط، لتدعيم المشروع المثقف واقصاؤه من على الحواشي، لنعيد الرشاقة واللياقة لأدمغتنا برياضة ذهنية بدلا من تلك التي تنمي الكسل بطغيان صناعة المعلومة المزيّفة. والسؤال الذي يكمن هنا لماذا لا نبدأ باضراب صامت وطرح عقابي لمقاومة اغراءات الاستهلاك ومقاطعة الصناعات التي تعزز تبعيّتنا؟ لنرسّخ بذلك دعائم العمل العربيّ المشترك ونستمد من مناهل الغنى لدى حضارتنا، ولنكفّ عن تمريغ أدمغتنا في وحل ثقافة دخيلة تشبع غرائزنا بتشويه متعمّد.

نقطة الانطلاقة تكمن في وجوب خلق وعي مزوّد بمقدرة على التصدي، وخلق ثقافة مقاومة جذرية في عقليتنا وأحكامنا، ابتداء من المدرسة والعائلة، لتكون بوصلة الأمان لدى الفرد في بحثه عن شواطئ المعرفة، والبدء بتعليم الطفل حِـرفة التفكير وعملية اكتساب المعلومات بطرق صحية وسليمة. هكذا نكون أكثر انسجاما مع استقلالية الأفراد والتصاقهم بهويتهم، فعلينا البدء بكسر الجليد القائم ونعمل ضمن اكاديمية بناء الجسور، والاتصال المشبع بالوعي، وذلك يتطلب الجدية واليقظة وليس باحلال ثقافة بديلة أخرى، لنمضي بتوجه واضح والبدء بتعايش انساني مختلف لنجعل قيمة الانسان جلية بوصفه كائناً متفاعل مشارك، لا أداة ولا سلعة استهلاكية.

cor.hinno29@hotmail.com

عن موقع ابونا الأردني